أخلاق الغرب .. التعبير الأسمى عن الحضيض -10- حنة آرندت: الكذب حق يضمنه الدستور!

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش،
إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..

 

ترى حنة آرندت أنه في «حالة انتصار الحقيقة بدون اللجوء إلى العنف فقط لأنّ الناس قبلوا بها، وهو أمر غير مرجح أيضاً، ولكن إلى درجة أقل من الحالة السابقة، فسوف يكون الفيلسوف نال نصراً هو إلى الهزيمة أقرب، لأن الحقيقة عندئذ لن تكون قد سادت نتيجة نوعيتها الفائقة التي لا تدع مجالاً للشك، بل لمجرد اتفاق الغالبية حولها، وهي الغالبية التي يمكن لها أن تغير رأيها في الغد، وتتفق على شيء آخر مختلف تمام الاختلاف، وهذا سيحط بما يتقدم به الفيلسوف من كونه حقيقة فلسفية متعالية إلى مجرد رأي محض».
وتؤكد مؤلفة «ما السياسة؟» أنه بما أن الحقيقة الفلسفية تحمل في ثناياها عنصراً من القهر، فإنّها قد تستهوي رجال الدولة في ظروف معينة، كما يمكن لقوة الرأي أن تستميل الفيلسوف. وهكذا نرى في وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكي توماس جيفرسون يصرح بأنّ بعض الحقائق «بديهية وظاهرة بذاتها»، لأنهّ أراد أن يربأ بالمبادئ الأولية التي اتفق حولها رجال الثورة عن أي نزاع أو جدل. وكما هو الحال في الحقيقة الرياضية، فإنّ هذه المبادئ ينبغي أن تعبر عن «معتقدات رجال لا يتكلون على إرادتهم الخاصة بل يتبعون لا إرادياً الأدلة التي انجلت أمام أذهانهم». ولك في قوله: «إننا نجد هذه الحقائق بديهيّة لا تحتاج إلى دليل» اعتراف دون أن يعي ذلك بأنّ عبارة مثل: «كل الناس قد خلقوا متساوين» ليست بديهية، بل تحتاج إلى الاتفاق حولها وقبولها، وأن المساواة إذا ما كانت ستحمل أي معنى سياسي فإنّها مسألة «رأي» وليست مسألة «حقيقة .«
وتعتبر آرندت أن «الطرح السقراطي: «تحمل الظلم خير لك من أن تكون أنت ظالماً» ليس برأي، بل يزعم أنّه الحقيقة. رغم أنّه يحق لنا أن نشك في أن يحمل أي تبعات سياسية مباشرة سواء في الماضي أو الحاضر أو حتى المستقبل، ولكن تأثيره على أي سلوكيات عملية كمبدأ أخلاقي أمر لا يمكننا نكرانه، ولا يمكن إلاّ للفرائض الدينية التي تلزم مجتمع المؤمنين تمام الإلزام أن تحمل قبولاً أخلاقياً وسلوكياً أكبر».
وتتساءل الفيلسوفة الألمانية: ألا يتناقض هذا بوضوح مع وجهة النظر المقبولة عموماً والقائلة بعقم الحقيقة الفلسفية؟ وبما أننا نعلم من الحوارات الأفلاطونية كم كانت العبارة السقراطية هذه غير مقنعة لا للصديق ولا للعدو في كل مرة حاول سقراط أن يثبتها فعلينا أن نتساءل: كيف حصلت هذه العبارة على هذا المقدار الكبير من الصحة الذي نراه اليوم؟ الجواب الواضح هو أن سقراط استخدم أسلوباً غير اعتيادي بكل معاني الكلمة في إقناع الأجيال التالية بصحة ما ذهب إليه: فقد قرر أن يضحي بحياته في سبيل هذه الحقيقة، فضرب مثالاً لا ينسى ليس فقط حين ظهر أمام المحكمة، بل حين رفض أن يهرب من حكم الإعدام الذي أصدرته مدينته في حقه. إنّ هذا النوع من التعليم من خلال ضرب مثال يحتذى في حياة المعلِّم لهو النوع الوحيد من «الإقناع» الذي تقدر الحقيقة الفلسفية أن تقدمه بدون أن تنحرف أو تتشوه؛ وعلى الأسس ذاتها يمكننا القول بأنّ الحقيقة الفلسفية يمكن لها أن تصبح «عملية» فَتُلهِمَ السلوكيات الإنسانية بدون أن تنتهك المجال السياسي فقط إذا تجلت في قدوة حياة الفيلسوف نفسه.
تقول آرندت: «إنّ تحول عبارة نظرية تأمّليّة إلى حقيقة يُقتدى بها وهو تحول لا تقدر عليه إلّ الفلسفة الأخلاقية تجربة حاسمة بالنسبة إلى الفيلسوف: فضرب مثال يحتذى للجماهير وإقناعهم من خلال السبيل الوحيد المتاح أمامه يبدأ الفيلسوف بالعمل. ولكن في عصرنا لا توجد أي عبارة فلسفية بغض النظر عن مدى جرأتها تجعل الناس يأخذونها على محمل الجد بما فيه الكفاية بحيث تهدد حياة الفيلسوف، وحتى الفرصة النادرة التي تجعل من الحقيقة الفلسفية تحمل وجها من الصحة السياسية قد اختفت دون رجعة، ولكن من المهم في سياقنا هذا أن نلاحظ أنّ إمكانية كهذه متاحة أمام قائل الحقيقة العقلية، ولكنها لا توجد أمام قائل الحقيقة الواقعية الذي يعاني في هذا المجال وكما هو الحال في المجالات الأخرى من وضع أسوأ؛ فالحقيقة الواقعية لا تحمل أيّ مبادئ يمكن للناس أن يتصرفوا على أساسها، وبالتالي يمكن لها أن تتجلى في العالم من خلالها؛ بل إنّ محتواها بطبيعته يأبى هذا النوع من البرهان. إذا أراد قائل الحقيقة الواقعية أن يغامر بحياته في سبيل حقيقة واقعية ما، وهو أمر غير مرجح الحدوث، فلن يحقق إلّا نوعاً من الإجهاض، والشيء الوحيد الذي سيتجلى في هذه الحالة هو شجاعته وربما عناده، ولكن لن تظهر الحقيقة التي أراد أن يدافع عنها ولا حتى صدقَه في قولها، فما الذي سيمنع إنساناً كاذباً من أن يلتزم بأكاذيبه بشجاعة عظيمة وخاصة في المجال السياسي حيث يمكن له أن يكون مدفوعاً بالوطنية أو بأي تحيز للمجموعة التي ينتمي إليها؟
إنّ العلامة الفارقة في الحقيقة الواقعية هي أنّ نقيضها لا الخطأ، ولا الوهم، ولا الرأي، فلا تنعكس أيّ من هذه الأشياء على صدق شخص ما، ولكن ضدها في الواقع هو الباطل المتعمد، أو الكذب الصريح. يمكن للخطأ بالنسبة إلى الحقيقة الواقعية أن يحصل بالطبع، بل هو شائع في الحقيقية، ومن هذا الوجه لا تختلف هذه الحقيقة عن الحقيقة العلمية أو العقلية، ولكن النقطة التي أود إثارتها هنا هي أنّه وبالنسبة إلى الحقيقة الواقعية يوجد لدينا بديل آخر، وهذا البديل (الباطل المتعمد) لا ينتمي إلى نوع العبارات التي تحاول سواء كانت محقة أم خاطئة أن تطرح ما حصل بالفعل، أو على الأقل كيف يبدو شيء ما لي. تحظى جملة من الحقائق الواقعية مثل قولنا أنّ ألمانيا غزت بلجيكا في غشت 1914 بمضامين سياسية فقط إذا وضعناها ضمن سياق تفسيري، لكن الطرح المعاكس، والذي ظن كليمانصو الذي لم يكن يعرف فن إعادة كتابة التاريخ بعد، أنّه من المحالات السخيفة لا يحتاج إلى سياق حتى يحظى بأهمية سياسية، بل هو محاولة واضحة لتغيير السجلات، ومن هذا الوجه فإنّه نوع من العمل الفاعل. الأمر نفسه ينطبق على الكاذب الذي لا يملك السلطة كي يروج لأكذوبته، فعندها تراه لا يصر على أن ما تقدم به حق منزل لا يمكن تغييره، بل يتظاهر بأنّ طرحه ليس إلّا «رأيه» قائلاً بأنّ هذا الرأي هو حق له قد ضمنه الدستور! كثيراً ما يحصل هذا من قبل مجموعات لا يمكننا إلاّ أن نصفها بالهدامة، ولكن الارتباك الناتج خاصة ضمن جمهور يفتقر إلى النضج السياسي قد يكون مهولاً، فتمييع الحد الفاصل بين الحقيقة الواقعية والرأي هو إحدى الأشكال الكثيرة التي يتخذها الكذب، وهي جميعها أشكال تتجلى في العمل».


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 03/04/2024