يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش،
إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..
يرى باتريك فارو، عالم الاجتماع، مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي، أنه إذا كان من الواجب محاولة الإجابة بكلمة عن الأسئلة التي صاغتها مجلّة الحركة المناهضة للّنفعيّة في العلوم الاجتماعيّة (MAUSS) عن إمكانيّة نظريّةٍ اجتماعيّةٍ عامّة، لقلتُ أنّ بناءَ النظامالاجتماعيّ كعلم خاصّ بعلم الاجتماع التاريخيّ الإنسانيّ يصطدم نظريّاً منذ البداية بصعوبة كبيرة تتعلّق ب البنية المعياريّة والخلقيّة للحقائق الاجتماعيّة. هذه الصعوبة تبدو في مظهرين مترابطين بشكل وثيق: أحدهما يتعلّق بالعلاقات بين موضوع علم الاجتماع (لنقُل بشكل عام المجتمعات الإنسانيّة) وبقيّة العالم الحي؛ الآخر يتعلّق بالوضع، في عالم المسائل الطبيعيّة، بقواعد معياريّة مجرّدة وضعها البشر. أسّس الأساتذة التقليديّون لعلم الاجتماع، لا سيّما فيبر ودوركايم، النظامَ مشيرين إلى كيف أنّ هذه القواعد المعياريّة والقيم الدينيّة أو الموافقات الاجتماعيّة تشكّل بنية مجرى الحياة الإنسانيّة، ولكن، على الرغم من جهودهم لم يوضحوا تماماً مشكلة وضع الحقائق المعياريّة.
ويذهب الأستاذ المشارك في جامعة باريس 5 إلى أن هذه الصعوبة تفسّ برأيي الوضع الحاليّ للنظام، المنقسم بين تيّار بنائيّ قويّ مستوحًى من العرف الدوركايميّ (نسبة إلى دوركايم) ولكن أيضاً من التأثير الفيبريّ (نسبةً إلى فيبر) على العلوم الاجتماعيّة الثقافويّة، وبين تيّارٍ عقلانيّ، مرتبط بشكل وثيق بأنموذج نفعيّ يهيمن على علم الاقتصاد.
يتركز الاختلاف بين هذين التيارين بشكل أساسيّ على المفهوم الأنتربولوجيّ [علم الإنسان] للواقع الاجتماعيّ: من جهة، لدينا ما يمكن أن نُسمّيه المفهوم الإلهيّ للناس في المجتمع حيث يكونون قادرين بقوّة ثقافتهم، على تكوين، ليس فقط أنماط حياتهم وبيئتهم، ولكن أيضاً طببيعتهم الخاصّة؛ ومن الجهة الأخرى تصوّر أكثر واقعيّة يربط العقليّة الإنسانيّة بغايات الحفاظ على الذات التافهة والرضا الذاتيّ الذي يميّز النظام الطبيعيّ للحيّ الذي يتضمّن النَّزَعات العفويّة للأفراد.
هل يمكن مصالحة هذين التيارين أو توحيدهما؟ بالنسبة إلى الكثير من علماء الاجتماع، لا تشكِّل الإجابةُ عن هذا السؤال، إنّ صحّ القول، سوى فائدة محدودة، نظراً إلى الدور السياسيّ الملموس لعلم الاجتماع، الذي هو أساساً للحفاظ على معلومةٍ وخبرةٍ كفوءة بالمجالات الاجتماعيّة والأجنحة الثقافيّة بُغية توضيح المناقشات الإعلاميّة والسياسيّة. يعتقد بعض المفكّرين أنّ التوحيد يجب أن يكون حول نظريّة الخيار العقلانيّ، لأنّه الوحيد الذي لديه قوّة تفسيريّة حقيقيّة [انظر بوفيه، 2004]، بينما التيّار المهيمن في فرنسا لا يرى سلاماً خارج منظور البنائيّة، أي أنّه في العمق الثقافويّ ملائم أكثر لالتزاماته الحرجة. عندما نبحث عن تقييم هذه الادعاءات في ضوء الحقائق العلميّة والاجتماعيّة المعاصرة، نرى من جهة، أنّ العلوم المعرفيّة تقف في صف الإتجاه الأوّل، بقدر ما تؤكّد هذه العلوم على ترسيخ الظواهر الإنسانيّة في تطوّر الخيار الطبيعيّ للأنواع الحيّة. ولكن، من جهة أخرى، يبدو أنّ مقاومة الثقافات الاجتماعيّة الخاصّة في مختلف عمليّات العولمة تناصر الاتجاه الأوّل. إذاً ماذا نستنتج؟
بالنسبة إليّ، أنا لا أعتقد بوجود حلّ قادر على إيجاد توافق سريع بين علماء الاجتماع. ولكن من خلال تقديمنا في هذه المقالة المبادئ والرؤى الاجتماعيّة الأخلاقيّة أود المساهمة في توضيح وضع الحقائق الاجتماعيّة المعياريّة الإنسانيّة في العالم الحيّ الطبيعيّ، وهو توضيحٌ يبدو ضروريّاً لدفع النقاش حول النظريّة السوسيولوجيّة العامّة إلى الأمام. سأتحدّث هنا لمصلحة موقف ثالث، يقبل بالواقعيّة الطبيعيّة وبعض مظاهرها في الحسابات العقليّة الفعليّة للكائنات البشريّة ولكن، التي تشير أيضاً، من خلال التركيز على البعد الأخلاقيّ للحياة الإنسانيّة الاجتماعيّة، إلى حدود هذه الطبيعيّة وإلى نطاق السلطة المعياريّة والحرجة للناس المجتمعين في المجتمع. بأنّ السوسيولوجيا (علم الاجتماع الأخلاقي) ليست بالتأكيد حلّ لكلّ مشاكل علم الاجتماع العام، ولكنّها تشير إلى باب للخروج من جهة واقعيّةِ الحدث الحسّاس والعقلانيّ في الوقت نفسه، أي الحدث الموجّه تفكيريّاً نحو غايات يمكنها أن تكون غايات أخلاقيّة، يحملها أشخاص أو جماعات.
بالتحديد أكثر، عندما أتحدّث عن الواقعيّة السيوسيولوجيّة، أقصد شيئين: الأوّل أنّه يوجد أساسٌ تجريبيّ، أي في العمق المادّيّ، بالنسبة إلى جميع الحقائق الاجتماعيّة، عندما يُنظر إليها من الزاوية العمليّة أو الإدراكيّة أو المعياريّة وهذا يعني أنّ هنالك دائماً شيئاً ما من الماديّة، أو لنتكلّم كعلماء الكلام، ظاهرة انتقاليّة على أساس الحقائق الاجتماعيّة؛ الفكرة الثانية هي أنّ في معظم حالات الحقائق الاجتماعيّة، يترافق ظهورها الماديّ التجريبيّ بطريقةٍ تنبثق من معنى انعكاسيّ مجرّد متيسّ بالنسبة إلى الفاعلين أو بالنسبة إلى غيرهم. هذا ينطبق على كل الحالات أو الأحداث التي تندرج تحت مفاهيم الحدث والعلاقة والحسّ أو النوعيّة. هناك الكثير ممّ يُقال عن الواقعيّة السوسيولوجيّة، وتحديداً في تطبيقها على الحدث والإدراك ولكنّني لن أقول أكثر هنا، إنّ هذه الملاحظة السابقة التي هدفها خاصة تثبيت الإطار النظريّ الذي من دون استبعاد النسبيّة الثقافيّة للتصوّرات أو القيم، يستبعد بالمقابل كلّ نسبويّةٍ في طريقة دراستها.
اعتاد الفلاسفة الإشارة بعبارة «قاعدة هيوم» إلى المبدأ الذي تبعاً له يمكن الوصول من مقدّمات صِيغتْ بعبارة «ما هو كائن» إلى نتائج بعبارة «ما يجب أن يكون». هذه القاعدة، التي التزم بها فيبر عندما رفض كلّ فكرة عن الأخلاقيّة المعياريّة في علم الاجتماع والتي أعرب دوركايم عنها على عكس التحفّظات، تعبِّ بالتأكيد عن حسٍّ منطقيّ جيّد يبدو غير قابل للدحض. إنّ المنطق في الواقع قادر على نقل قيَم الحقيقةِ من المقدّمات المنطقيّة إلى النتيجة لكن بشروط أن تجد في النهاية روابط (سلاسل) السلوك نفسها التي كانت لنا في البداية، سلاسل الخُلُق التي كانت لديه في البداية. إنّ قلتم مثلاً إنّ الاطارات (الكوادر) العليا هي غنيّة، حيث بيار هو الإطار الأعلى ينبغي على بيار إذاً إعادة توزيع ماله على الفقراء، فأنتم ترتكبون خطأً منطقيّاً. ولكن لا يبدو أنّكم ترتكبون خطأً إنّ قلتم أنّه ينبغي على الإطارات العليا إعادة توزيع أموالها على الفقراء، حيث بيار إطار غالب وأنّ عليه إذاً أن يعيد توزيع ماله على الفقراء. بالإمكان طبعاً تقديم تفاصيل أكثر وإحساسات مرهفة منطقيّة لهذا النوع من الاعتبارات ولكن بالنسبة إلى الكلام الحاليّ، هذا التحليل يبدو كافياً لإثبات أنّ مشكلة «قاعدة هيوم» تطرح نفسها إذا كانت المقدّمات المنطقيّة لهذا الاستنتاج وصفيّة تماماً، ولكنّها لا تطرح نفسها إذا لم تكن وصفيّة تماماً أو إذا كانت، كما يقول هيلاري بيتنام [2004]، متداخلة بأحكام الحقائق والأحكام المعياريّة.
من أجل فهم أفضل لطبيعة التداخل، يبدو لي أنّه ينبغي أيضاً مغادرة الأفكار الأخرى لهيوم، التي لا يمكن فصلها عن التفريع الثنائيّ لأحكام الحقائق والأحكام المعياريّة، التي طبقاً لها تُنسب المعياريّة والأخلاق على وجه الخصوص، خارجيّاً إلى وقائع معتبرة. هل نتذكر ربّا تلك الفقرة لهيوم من بحثه حول الطبيعة البشريةّ، التي يقارن فيها هيوم جريمة قتل أحد الأبوين باستبدال سنديانة بشجيرة؟ بحسب هيوم، يوجد بوضوح في هذين المثالين اختلافات في أسباب الإرادة من جهة، أو قانون «مادّة أو حركة» من جهة أخرى، ولكن ولا أيّ اختلاف في «العلاقات»، أي في مفهومه، في علاقات الأفكار المتعلّقة ب «نقطة الحقيقة» [م.ن، ص 584]. إلّا أنّه على عكس ما يقوله هيوم، يبدو بوضوح أنّ هنالك اختلاف في «العلاقة» بين الحالتين، بكلّ بساطة المعنى المعياريّ الداخليّ لجريمة قتل الوالدين )الذي يقول بصراحة إنّ جريمة قتل الوالدين ممنوعة( بالنسبة للفاعل الذي يرتكبه ويعلم أنّه يرتكبه وليس بالنسبة للشجيرة. وهذا الاختلاف أيضاً ينطبق أيضاً على مثالٍ آخر أخذه هيوم، هو مثال سِفاح ذوي القربى لدى الحيوانات، الذي، كما يشير تماماً لا يُحكم عليه عادةً بأنّه جرم [م.ن، ص 583]. ليس هنالك ما يُثير الدهشة إذا فكرنا أنّ الحيوانات، على عكس البشر، ليس لديها طريق إلى معنى سِفاح ذوي القربى.