منذ تأسيسها سنة 1975، شكلت الشبيبة الاتحادية، على امتداد خمسة عقود، فضاء حيويا لصناعة الوعي، ومختبرا لتكوين الأطر، ومنصة لإنتاج خطاب نقدي يواكب تحولات المجتمع المغربي. فقد استطاعت الشبيبة، في سياقات سياسية واجتماعية متباينة، أن تحافظ على موقعها كفاعل أساسي في تعميق النقاش العمومي حول قضايا الشباب، وأن تقدم إضافة نوعية للمشهد الديمقراطي الوطني من خلال انخراطها في معارك التحديث والإصلاح.
وقد تميزت الشبيبة الاتحادية منذ بداياتها الأولى بوعي واضح بأهمية بناء الإنسان قبل بناء المؤسسات، إذ راهنت على التكوين السياسي والفكري باعتباره شرطًا لإعادة تأهيل الشباب وتمكينهم من أدوات الفهم والتحليل والمبادرة. لذلك انفتحت على الفكر التقدمي، واستثمرت في ورشات التثقيف السياسي، والحلقات النقاشية، ودينامية التنظيمات المحلية التي شكلت مدارس حقيقية لتأهيل أجيال متعاقبة من المناضلين. وبرز هذا التكوين كعامل حاسم في بروز قيادات سياسية ونقابية وثقافية لعبت لاحقًا أدوارًا مركزية داخل المجتمع المغربي.
كما أدت الشبيبة الاتحادية دورا مهما في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي مواجهة مظاهر التضييق السياسي التي شهدتها فترات مختلفة من تاريخ المغرب المعاصر. فقد كانت حاضرة في ساحات النقاش حول الإصلاحات الدستورية والسياسية، ولعبت دور الوسيط بين الحزب وقضايا الشباب، مسهمة في نقل تطلعات هذه الفئة إلى فضاءات القرار الحزبي. وعلى امتداد مسارها الطويل، لم تتردد الشبيبة في الانخراط في معارك الدفاع عن الحريات العامة، والمطالبة بتوسيع المشاركة السياسية للشباب، وفضح مظاهر الزبونية والفساد التي تعطل مسار بناء دولة الحق والمؤسسات.
وقد امتد تأثير الشبيبة إلى مجالات متعددة، أبرزها الحياة الجامعية، حيث تمكنت عبر فترات طويلة من خلق دينامية فكرية ونقابية داخل الفضاءات الطلابية. فقد أسهم مناضلوها في تجديد لغة النقاش داخل الجامعة، وفي إدخال معارف ومقاربات جديدة تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتحديث والإصلاح. كما لعبت الشبيبة الاتحادية دورًا محوريًا في تأطير الطلبة وتوجيه طاقاتهم نحو العمل المدني والسياسي، مما ساهم في رفع مستوى الوعي السياسي داخل الأوساط الشابة.
وقد كانت الشبيبة سباقة إلى طرح قضايا التعليم والتكوين والبطالة ومشاكل سوق الشغل، باعتبارها تحديات مركزية في مسار إدماج الشباب داخل المجتمع. ومن خلال مبادراتها وندواتها وبياناتها الدورية، رفعت الشبيبة صوتًا نقديًا تجاه السياسات العمومية التي لم تستطع الاستجابة لمطالب الشباب، وسعت إلى الدفع نحو تبني مقاربات جديدة تعطي لهذه الفئة موقعًا فاعلًا داخل التنمية الوطنية. فلم تتعامل مع الشباب كفئة تحتاج إلى العطف أو الرعاية فقط، بل كطاقة بشرية قادرة على صنع التحول إذا تم تمكينها من الشروط المؤسساتية والمعرفية المناسبة.
ومع التحولات الرقمية والتكنولوجية التي شهدتها السنوات الأخيرة، أعادت الشبيبة الاتحادية طرح سؤال حضور الشباب داخل المجال العمومي الافتراضي، وسبل تحويل هذا الحضور من مجرد تفاعل رقمي إلى قوة اقتراحية ورقابية فعالة. كما انتبهت مبكرا إلى المخاطر التي تتهدد الفضاء الرقمي، مثل خطاب الكراهية والتضليل المعلوماتي واللامساواة الرقمية، وهي مسائل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من انشغالاتها التنظيمية والسياسية. وبهذا المعنى، ظلت الشبيبة منفتحة على رهانات المستقبل، ومدركة أن الدفاع عن الشباب اليوم يمر عبر فهم عالمهم الجديد، ورهانات ذكائهم الرقمي، وأساليب تواصلهم واحتجاجهم.
ولم يكن حضور الشبيبة الاتحادية مقتصرا على الفعل السياسي المباشر فقط، بل امتد إلى المجال الثقافي والفني، حيث رعت مبادرات إبداعية وفكرية تهدف إلى ترسيخ ثقافة التقدم والانفتاح والتسامح. فقد آمنت بأن الثقافة ليست ترفًا، بل هي رافعة أساسية لتغيير ذهنيات المجتمع، وبناء شخصية شبابية قادرة على الحوار والنقد وتقدير الفنون والآداب. وفي هذا الإطار، ساهمت أنشطتها الثقافية في فتح نقاشات جديدة حول الهوية، والحداثة، والتنمية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق المرأة، والإيكولوجيا، وهي قضايا باتت اليوم جزءًا من النقاش العمومي الوطني.
أما على مستوى التنظيم الداخلي، فقد مثّلت الشبيبة الاتحادية مختبرًا لتجديد أساليب العمل الحزبي ومناهج الاشتغال، حيث شكلت فضاءً لتجريب الأفكار الجديدة وتطوير آليات التعبئة والتواصل. وقد ساعد هذا الدور التنظيمي في ضخ دماء جديدة داخل الحزب، وإعداد أطر قادرة على تحمل المسؤوليات في المؤسسات المنتخبة، ومواجهة التحديات المرتبطة بتراجع الثقة في الفعل السياسي التقليدي. وبفضل هذا الاشتغال المتواصل، بقيت الشبيبة قادرة على الإسهام في تجديد النخب، وإعادة بناء جسور الثقة بين الشباب والسياسة.
إن أدوار الشبيبة الاتحادية، بتعدد مستوياتها ومساراتها، تعكس مسارًا طويلًا من الاجتهاد والتضحيات والمسؤولية. فهي ليست مجرد امتداد تنظيمي للحزب، بل هي روح حية تسائل الحاضر، وتنقد الواقع، وتبني المستقبل. وقد استطاعت عبر نصف قرن أن تحافظ على طابعها التقدمي والديمقراطي، وأن تظل وفية لوظيفتها التاريخية كقوة شبابية تقترح، تناقش، تعترض، وتؤمن بأن السياسة فعل يومي لا يتحقق إلا عبر المشاركة والالتزام والوعي.
وإذ تدخل الشبيبة الاتحادية عقدها السادس، فإن السؤال المطروح اليوم لا يتعلق فقط بما أنجزته في الماضي، بل بما يمكن أن تقدمه في المستقبل. فالعالم يتغير بسرعة، والمغرب يعرف تحولات عميقة، والشباب يعيش في زمن جديد يحتاج إلى خطاب جديد وأدوات جديدة ورؤى مبتكرة. وهنا تكمن أهمية الاستمرار في بناء تنظيم شبابي قادر على فهم هذه التحولات وقيادتها، وعلى توفير الجسر الذي يربط بين طموحات الشباب والمشروع الديمقراطي الوطني. فالشبيبة الاتحادية، بما راكمته من وعي وتجربة، تظل اليوم أكثر من أي وقت مضى مدعوة إلى تجديد رسالتها، وإعادة تأكيد حضورها كقوة اقتراحية وميدانية لا غنى عنها في بناء مغرب المستقبل.
أدوار الشبيبة الاتحادية: تنظيم شبابي قادر على فهم التحولات الجديدة وقيادتها
بتاريخ : 15/11/2025