أدونيس: الإقامة في التخوم

تَوْطِئَةٌ:

يُمثّلُ الشّاعرُ السّوريّ أدونيس تجربةً شعريةً ونقديةً أكسبتهُ مكانةً متميّزة ليس باعتباره شاعراً تحمّل مسؤولية تحرير القصيدة العربية من المواضعات النقدية البائدة، أو ناقداً نذر حياته للتنظير ونفض الغبار على التراث العربي وتحديدا الشعرية العربية، وإنّما لجرأته في مقاربة قضايا الثقافة العربية بطريقة مغايرة للمألوف في الإبداع والنقد، وقدرته على تجاوز منجزه والسعي دوما نحو المناطق غير المطروقة بغاية الاكتشاف والإضافة. وأدونيس حالة فريدة في المشهد الثقافي العربي محاطة بالكثير من الغموض ومثيرة للالتباس والتساؤلات.
أَدُونِيسُ وَ الْكَيْنُونَةُ الشِّعْرِيَّةُ :

يرسُمُ أدونيس منحًى حداثيّاً مغايراً في الكتابة الشعرية، مُتخفّفاً من المقولات الجاهزة والأفكار القائمة، ومُشرَعاً على الذات بامتداداتها الحضارية والتاريخية والآخر بحداثته العقلانية، ومتحرّرة «من نمطية الأسلوب والإيقاع وجاهز الدلالة أو مسبق المعنى»، كتابةٌ تخلُقُ متخيّلاً شعريّاً، بعيداً عن حداثة الأسلاف.. قريباً من حداثة المستقبل، متعدّد الدلالة وضاجٍّ بقلقٍ وجوديّ يجسد الحياة والوجود بلغة خارقة التراكيب المألوفة يقول: (تخرج الأشياءُ من أسمائها، لا أسميها، ولكن/ اسألوا الشّرق: ألن يضجر من مزج خطاه/ بالدّم الدّافق من أبنائه/ومن السُّكْر به/ومن النّوم على أشلائهم؟/قامة التّاريخ مالتْ في يدي/إنّه الإنسان- مذبوحاً على صدر نبيّ/أقرأ الرّمل وأستأنسُ بالرّيح التي تذرو وتنأى/ وأقول الحلم ضوءٌ ولقاحٌ/ وعلى الحلم تأسستُ، وفي الحلم بنيْتُ/ أيها الواقع من سمّاك، من أين أتيت؟/لسلالاتٍ من الجرحِ/الذي يجهل/هل يضحك أم يبكي/دمي طفل سؤالٍ…). تعبّر هذه القرائن االنصية عن أنّ شعر أدونيس لا يقينيّ بل احتماليّ.. يحفرُ في العوالم مجراه الجمالي بالتمكّن من صياغة التاريخ والواقع في نسيج إبداعيّ تمّحي معالمهما وتمنحنا متخيّلا جديدا. يقول أدونيس: (آيتي أنّني منهم- بشرٌ مثلَهم/ ولكنّني/أستضيء بما يتخطّى الضّياء/ آيتي أنهم/يقرأون الحروف، وأقرأ ما في الخفاء…). شعْرٌ خارج المعلوم، داخل المجهول، مُقيمٌ في الضياء والخفاء كسرّ من أسرار تأويل العالم، مؤالفاً الظاهر بالباطن، الواقعي بالخيالي، المادي بالمعنوي،»لأن شكل القصيدة يتجاوز المظهر المصور بالكلمات لكي يشمل باطنها، صار الشكل، بالإضافة إلى أنه أبعاد وعلاقات من كلمات وفواصل ونقاط وبياضات وخطوط مرئية، أبعادا وعلاقات غير مرئية، تتولّد عن مجاز متعدّد (خيال، صورة، استعارة…الخ)». فهوية القصيدة الأدونيسية في زخمها الدلالي والجماليّ، وفي استطاعتها على تحويل الرموز والعلامات، الأساطير والمرايا والأقنعة إلى كائنات مجازية واستعارية تكون فيها «الرؤيا قفزة خارج المفهومات السّائدة، وتغيير في نظام الأشياء، وفي نظام النظر إليها وتمرّد على الأشكال والطرق الشعرية القديمة». هذه الرؤيا بحث أبديّ عن المجهول وتأسيس لواقع جديدٍ وانتساب إلى المستقبل وإماطة الحجب عن الخوافي والسرائر والأسرار، والإقامة في التخوم الفاصلة بين الحقيقة والمجاز لهذا «فافتراض الموقف الرؤيوي في الكتابة الشعرية يتناسب مع اللانهاية والتعدّد الاكتشافي المحتمل، فضلا عن إحكامه لتحقيق المختلف في كل فعالية إبداعية جديدة، إن هناك أكواناً تخيلية متجدّدة، تنفجر فيها طاقات دفينة باطنية في داخل الذات والكون المحيط بها»، مما يعنى ابتكار قوالب مجارية للإبدالات الكائنة؛ مادام الشعر»وسيلة لخلق رؤى وتصورات وتشكيلات لغوية جديدة، إنه يخلق واقعه الذي يتخيّله ويحلم به، ويفجّر فيه طاقاته وهواجسه، وهو جلاء للحقائق وعمقها، وإجابات غير أخيرة على التساؤلات التي استنزفت طمأنينة الإنسان وسكونية معرفته، أما طريقه فسعيّ نحو التغيير الذي يحيل العالم إلى صيرورة دائمة».
يقول: (ما أبهى أن أتحقق/ أن الصور كون/ تتشرّد فيه/ عنقاء المعنى (…) لا حدود لمسرى هواي، الحنين رداء/أتخيّل ما تهمس الأرض / ما يجهر البحر/ ما تقول التخوم / سيكون افتتانا أن تسير بي الأرض/ حرّا غريبا/ قدما في الثرى، قدما في الثريّا).فالخيال عنصر فاعلٌ وفعّالٌ في تشكيل الحقيقة حلماً والحلم حقيقة وتلك مزية شعرية أدونيس التي لا تقف عند حدود التيه أو السّاحل، وإنما يتجاوز كلّ هذا بحثاً عن تلك التخوم المدهشة والفاتنة، وذاك سِمْتُ القصيدة «كبنية دالة لا يمكن ردّها إلى مدلول محدّد، إنها في كفاحها المستمر ضد ثبات المعنى.فالقصيدة لا تمثل موضوعاً، وإنما تكشف عن تفجّر انفعاليّ تخييلي، وفي هذا وحده ما يعصمها من تقريرية الاستهلاك واستهلاكية المباشرة».
إنها قصيدة خارج التنميط، داخل اللانهائي، مفارقة ومزعجة، لكونها تنتمي لزمن غير زمنها ولحاضر غير حاضرها، بل كينونتها آتية من المستقبل حاجبها القلق الوجودي وحارسها السؤال، ومطيتها انفعالٌ تخييليّ. قصيدة متشابكة تتداخل في بنيتها أجناس أدبية وفنون ومعارف مختلفة، تبدع أشكالها واحتمالاتها الجمالية والدلالية.والأكثر من هذا فالتجربة تفتح أفق الكتابة على التاريخ الفردي والمشترك الذي يشكّل المخيال الفردي والجماعي، لتشكيل الكينونة في ظلّ بلاغة الاختلاف.فالأنا الشعرية تحفر مجراها الوجودي بوعيّ جماليّ حداثيّ يقول أدونيس: «أولوني/ جسدي رق- كتاب/ كتبته أبجديات نجوم وغيوم»فالجسد تاريخ مخطوط بيراعٍ لغة الحلم والالتباس، الحيرة والحدوس، الحب والحمّى، العتمة والضّياء، الوضوح والغموض تأويلاتٌ لانهائية تثري التجربة وتثوّر الرؤى وتشحن البنى بأبعادٍ دلالية وصفاتٍ جمالية. و المتأمّل في قوله: «حاضنا سنبلة الوقت / ورأسي برج نار/ ما الدم الضارب في الرمل/ وما هذا الأفول/ قل لنا يا لهب الحاضر / ماذا سنقول/ مِزَقُ التاريخ في حنجرتي/ وعلى وجهي أمارات الضحية/ ما أمرّ اللغة الآن/ وما أضيق باب الأبجدية…» يدرك أن الذات تكشف عن مكابداتها ومحنتها الوجودية والتاريخية بواسطة الرمز والإيحاء، مما جعل المعنى أكثر خصوبة وتوهّجاً، ذلك أن علاقة الشاعر بالوقت علاقة وجودية إنسانية، تبرز الحرائق المستوطنة هواجس الذات وتمزّقها أمام واقع الرمل والأفول، مما جعل اللغة ضيّقة لاحتواء اللحظة التاريخية المؤلمة.
مِطْرَقَةُ أَدُونِيس وَالْأُفُقُ النَّقْدِيُّ:

خلص أدونيس، من خلال مشروعه النقدي المحوري حول الثابت والمتحول في الشعرية العربية إلى أن الذات العربية سِمَتُهَا التبعية والاحتذاء، ولتجاوز هذا الوضع استخدم مطرقة النقد والتشريح لإحداث»ثورة جذرية تقوم على نقض الهيكل وإعادة بنائه وفق جماليات المخيال الحديث أو الحداثي شعرا ونقدا» تؤدي إلى إعلان القطيعة مع القوالب والقواعد السائدة لخلْق ثقافة جديدة تنخرط في قضايا العصر وإشكالاته،وتكمن فرادة أدونيس في القدرة على المزاوجة بين» الشعر والنقد والحكمة في منظومة مشتركة لها آليات انتقالها الخاص، (…) أسميناه الظاهرة الأدونيسية في راهن الأدب العربي(…) فهي محصل تراكمات وإبدالات شهدتها حركة الشعر العربي المعاصر بمختلف إبداعاته الحداثية، وبمجمل المواقف والآراء الإصلاحية التنويرية والثورية»هذه الظاهرة الأدونيسية كانت لها الجرأة في التفكير جهراً لا مخاتلة في قراءة قضايا الثقافة العربية بتصوّراتٍ مخالفة لما هو قائمٌ تكشف عن التعددية الثقافية في العالم العربي» لأن الأصل الثقافي العربي ليس واحداً، بل كثير، وأنه يتضمن بذور جدلية بين القبول والرفض، الراهن والممكن، أو لنقل بين الثابت والمتحوّل»وهذا يبيّن انتفاء واحدية الرؤية، فالفاعلية الحداثية جوهرها في التعدد والاختلاف. فالواحدية في الرؤية إلغاء للعقل النقدي، وتمجيدٌ للاتباعية بدل الإبداعية. وفي هذا الإطار نشير إلى ما خلّفه عمله النقدي «الثابت والمتحول» من تحوّل واضحٍ على الممارسة النقدية، حيث الانتقال من الانتظارية والتردّد إلى الفعالية النقدية المغامرة من خلال إثارة أسئلة حول قضايا التراث والحداثة. فإذا كان أدونيس، في بداياته النقدية، قد كان أكثر حماسة من أجل هدم التراث كلّيّا لبناء تراث جديد، فإنه تراجع عن هذا الموقف، بالدعوة إلى الوعي بالتراث العربي شعراً ونقداً، وعياً يقود إلى التغيير والتحويل والتجديد.تراثٌ في أمس الحاجة إلى الاقتراب منه والإصغاء لكنهه حتى يكون تراث التعدّد والاختلاف.
أما على مستوى المنجز الشعري فقد قوّض أدونيس الشكل الثابت لبناء أشكال شعرية جديدة في سيرورة الشعرية العربية وصيرورتها من خلال خلق لغة مغايرة مشحونة الإشارة بدل الحقيقة والإحالة، وصانعة لمجدها الجمالي والدلالي. يقول: «من الحكمة أن تظلّ غريبا/لكي تدخل تحت قبّة المعنى/هكذا تلبسُ المصادفة/وتتأصّل في ضربة نرد»، فالغربةُ مقامٌ وجودي لا يقبل الكائن بقدر ما يتطلع إلى ممكن، وطريقٌ يوصلُ إلى المعنى المحتمل المفارق والمغاير، ليكون الرهان الإبداعي خَلْقُ القصيدة الحياة التي تخضع للصيرورة التاريخية، (وتلك هي الأبدية تتوسّد أعناق الكلمات…) فعن طريق الشعر تعيد الحياة ديمومتها وترتاد اللانهائي و تضيء الغامض بالحلم وتسبر الأغوار السحيقة والأدغال الملتفة والملتوية في دهاليز الذات والأبدية. هكذا هي سيرة الشاعر المبتلّ ب»أنداء المعنى» ليحتفي بالكتابة ككينونة تقاوم الهاوية من أجل البقاء، وتجابه مصيرها الفاني باللغة والخيال. إنّ الممكن الشعري الذي يحتمله الشاعر مرتبط بالهشاشة والظن والامتداد في اللامحدود يقول: « أسأل وأتقدم- /كيف يمكن ألا أثق بالريح؟» فالمضمر أن الشاعر لا يؤمن بالجواب، بل يعدّ السؤال مسلكاً لبلوغ الرؤيا لاقتناص المدهش والغريب، المتلفّت والزئبقي في الكائنات والأشياء والكون يقول:» أكتب الظن والمستحيل ويملي عليّ الفضاء» فالكتابة الشعرية لديه مرتهنة باللااطمئنان واللايقين ، فاللغة تمارس المحو للكشف عن الملتبس ، وتمزيق عتمات الكينونة الإنسانية. يقول: «قل أنا الغريب وأتقن هندسة المنفى، قل خير لي أن أرقص مع هذا الغبار/ وقل سأكتب آخر قصائدي/ على آخر ورقة/ من هذا البرديّ الأخير»
فالملفوظ الشعري احتفاء بالترحال والتيه والعطش الوجودي واللاإقامة.يقول: «أنا الأسطورة والهواء جسدي الذي لا يبلى». فالشاعر يفصح عن كينونته المتجددة والمتحولة، خالقاً أسطورته المعبّرة عن عبوره المثقل بالظنون و المحطم لليقين والطالع من الأنقاض والقادم من البراري الخلفية ، وتلك ميزة الشعراء العظام المهووسين باقتراف جنح الخيال والاعتراف بجريرة الإبداع الخلّاق.
على سبيلِ الإحاطة:

إن التجربة الشعرية والنقدية للشاعر أدونيس تتطلب وقفة تأملية طويلة، نظرا للإبدالات التي أحدثها الشاعر في بنية النص الشعري، وكذا في خلخلة الثابت في الثقافة العربية،لكون أدونيس اختار المغامرة بدل الارتكان للجاهز، مخترقا الحدود ومؤمنا بالقصيدة المستقبل التي لا تقدم المعنى على طبق من يُسْرٍ، وإنّما على احتمالات تتشبّع بحداثة الكتابة الجديدة وأفقها اللانهائي.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 20/12/2024