رغم إعلان هيئة الموثقين استئناف العمل بمنصة التوثيق الرقمية TAWTIK+، فإن تبعات التوقف المفاجئ الذي عرفته خلال الأسابيع الماضية ما تزال تلقي بظلال ثقيلة على قطاع التوثيق والمجال العقاري برمته. فقد خلف هذا الشلل الرقمي عواقب اجتماعية واقتصادية مباشرة، أطاحت بسير المعاملات العقارية وأربكت المواطنين والمهنيين، وسط صمت حكومي لم يكن ليُكسر لولا الاعتراف الصريح من وزير العدل بفشل مشروع الرقمنة في وزارته «على جميع المستويات».
هذا الاعتراف، الذي صدر تحت قبة البرلمان، لا يمكن عزله عن السياق العام الذي شهدته المنصة، بل يجب أن يقرأ كإقرار مباشر بأن الحكومة لم تنجح في توفير الحد الأدنى من شروط الحماية السيبرانية والاستمرارية المؤسساتية. وحين يعترف عضو في الجهاز التنفيذي بأن 70% إلى 80% من الموظفين لا يجيدون سوى إدخال البيانات، فإن ذلك يعد مؤشرا صادما على عمق الخلل في منظومة يفترض أن تقود التحول الرقمي للعدالة، لا أن تتعثر عند أول اختبار تقني.
في فترة التوقف، شُلّت مكاتب التوثيق عن العمل بشكل تام، وتعذر على الموثقين إتمام أبسط العمليات اليومية المرتبطة بالتسجيل والتقييد، مما جعل آلاف العقود القانونية، بما فيها عقود البيع والهبة والقسمة، في حكم المعلقة. الأضرار لم تكن محصورة في الوثائق، بل انسحبت على حياة مواطنين أُجبروا على تأجيل صفقات أو مشاريع سكنية بسبب عدم القدرة على توثيق عقودهم، ناهيك عمّن وجد نفسه عاجزا عن تسلم مستحقاته المالية لأن العقار لم يسجل بعد.
والأدهى أن الحكومة، في خضم الأزمة، لم تفعل أية حلول بديلة. فقد تم إغلاق الولوج إلى المنصة أمام الموثقين دون إتاحة خيار الإيداع المادي المؤقت للعقود، وهو إجراء كان من شأنه أن يخفف وطأة التوقف ويحافظ على سير المرفق العام. هذا التجاهل لأبسط سيناريوهات الطوارئ التقنية يبرز فشلا حكوميا في التقدير، وعجزا في المواكبة، وتفريطا في الحقوق القانونية والمالية لفئات واسعة من المواطنين. وتسبب للموثقين في مشاكل لا تحصى مع زبنائهم.
وإلى جانب الأسر التي تعطلت مصالحها، خسرت الدولة ملايين الدراهم من الرسوم والضرائب المرتبطة بالمعاملات العقارية. وقد أقر وزير العدل بنفسه، بأن نسبة المداخيل التي لم تتمكن خزينة الدولة من تحصيلها بلغت 80% من إجمالي مداخيل العقود خلال فترة التوقف، مؤكدا أنه يتحمل مسؤولية هذا القرار شخصيا. كما تعطلت ملفات التمويل البنكي والتأمين، ودخل قطاع التوثيق، برمته، في دوامة من الغموض المهني، ناهيك عن الإرباك المؤسساتي الذي أحدثته الأزمة في غياب أي خطاب تواصلي واضح من السلطة الحكومية المعنية.
ورغم استئناف المنصة للعمل فإن ذلك لا يلغي حقيقة أن الحكومة تتحمل مسؤولية سياسية وأخلاقية عما وقع. فالفشل لم يكن في حدوث الخلل التقني، بل في غياب آليات الاستباق والتدبير والمعالجة. وحين تأتي الحلول فقط بعد أن يشل القطاع وتعلق مصالح المواطنين، فذلك يعني أن مؤسسات الدولة لم تقم بدورها كما ينبغي. ولذلك، فإن الحديث عن مواصلة ورش الرقمنة لا يمكن أن يستقيم دون محاسبة فعلية للجهات التي تسببت في تعثره، بدءا من وزارة العدل التي لم تخف فشلها، وانتهاء بالحكومة التي اختارت الصمت، وتركت مرفقا حيويا يتوقف عن الخدمة دون بدائل، ودون خطة إنقاذ واضحة.