يمكن مقاربة موضوع «النقل الصحي» من عدة زوايا، لكن أهم زاوية يمكن تسليط الضوء من خلالها هي زاوية الواقع، فقبل خمس سنوات لم يكن بالمغرب حديث عن النقل الصحي، إذ كانت كل التسميات داخل الاستراتيجيات والتقارير والدراسات وفي الصحافة، تتحدث عن النقل «الطبي»، لكن فشل وزارة الصحة في جعله كذلك، جعلت هذه التسمية الجديدة هي سيدة الموقف. قد يكون النقل «طبيا» بالقطاع الخاص نظرا لاختلاف نوعية «الزبائن» وللتحفيزات المالية التي تواكبه وريادة بعض الشركات في مجالي التجهيز البيوطبي والسلامة؛ لكن بالقطاع العام فهو نقل صحي تقوم به أطر تقنية متخصصة في الإسعاف والنقل الصحي وأطر تمريضية وقابلات.
لقد جاء النقل الصحي كحل لمحدودية الموارد البشرية والمالية والتجهيزات، فكيف يمكن لحلّ أن يحمل في طياته مشاكل خطيرة تصل إلى تهديد الحق في حياة المرضى والمعالجين!؟
يمكن اختزال هذه المشاكل في أربعة محاور أساسية:
– التدبير السيء لملف النقل الصحي مجاليا: فباستثناء بعض المستشفيات الجامعية والجهوية التي قد تخصص فريقا يؤمن هذه الخدمة فقط؛ نجد أن معظم المستشفيات ومؤسسات الرعاية الأولية لا تخصص فرقا لها. ومن أبرز اختلالاته هو ضعف التنسيق بين مختلف الفاعلين سواء داخل وزارة الصحة أو خارجها (الوقاية المدنية، الجماعات، القطاع الخاص، الدرك الملكي، الهلال الأحمر المغربي)، الذي يتسبب في ضياع دقائق ثمينة من حياة المرضى، وكمثال على ذلك هو «إعادة توجيه» المرضى والمصابين والحوامل من مؤسسة صحية إلى أخرى.
– ضعف منظومة المعايير سواء القانونية أو التقنية في النقل الصحي: لأن نقل المرضى بين المؤسسات الصحية لا يخضع لأية معايير، سواء بخصوص التجهيزات البيوطبية اللازم توفرها في كل منشأة متنقلة (منها سيارات الإسعاف ) أو معايير صيانة السيارات نفسها، ولا وجود لتخصيص أي فئة وتخصص للمرافقين من المعالجين، فالنصوص القانونية تشير فقط إلى أن « معالجا un personnel soignant» هو من يجب عليه مرافقة المرضى، مما يفتح باب السلطة التقديرية للإدارة على مصراعيه لملأ هذا الفراغ حسب موازين القوى محليا ووطنيا.
– إشكالية الموارد البشرية: وهي ثلاثية الأبعاد، أهمها مشكل التكوين الأساسي في النقل الصحي (إذا استثنينا فقط ثلاث بروفايلات)، ومشكل السلامة المرتبط بحوادث السير والاضطرابات التي تتسبب فيها مشاكل النقل الصحي على الحياة العائلية والاجتماعية للمعالجين، خاصة إذا علمنا أن أكبر دافع لمرافقة المرضى هو الخوف من المتابعة الإدارية والجنائية تحت يافطتي الخطأ الجسيم وعدم تقديم المساعدة لشخص في خطر، والبعد الثالث هو غياب منظومة التحفيز لا من خلال ساعات العمل غير اللائقة؛ ولا قيمة التعويض إن صرفت؛ ولا ظروف الاستقبال والأكل والمبيت، خاصة في المسافات الطويلة.
– المشاكل المادية التي يعاني منها المرضى والمرافقون بعد أخذ قرار الترحيل: أول مشكل هو تسديد قيمة المحروقات الذي يتقل كاهل الأسر، أمام غموض حول كيفية استرداد هذه المبالغ سواء لمن لديه تغطية صحية أو لغيره. ومشكل الفحوصات الموازية التي يجب أن تتم بصفة مستعجلة كالسكانير مثلا، خاصة حين لا تستطيع بنية الاستقبال توفير هذه الخدمة، وغياب أي مكان عمومي لإيواء المرافقين من عائلات المرضى والمصابين والجرحى لا سيما من يتم استشفاؤهم بمصالح العناية المركزة والإنعاش، حيث يبيت هؤلاء في العراء، خاصة إذا علمنا أن أغلب المرافقات للأطفال وللنساء الحوامل هن نساء.
هذه لمحة فقط عن المشاكل المتعلقة بالنقل الصحي، دون الحديث عن جوانب أخرى؛ وللخروج من هذه الدوامة يجب فتح نقاش عمومي حول هذه الخدمة التي لم تعد استثناء بل أصبحت من «مقومات» النظام الصحي المغربي، ويجب الاتفاق على معايير تقنية وقانونية لا تفرق بين القطاعين العام والخاص كما كان يسعى إلى ذلك وزير الصحة الأسبق الوردي، من خلال برمجته في مخططه التشريعي لمشروع قانون النقل الصحي؛ الذي لم يتجاوز أوراق استراتيجته 2012-2016. ومن أهم مداخل الإصلاح هنا هو الاهتمام بالعنصر البشري، من خلال توفير خدمات ذات ولوجية سهلة وذات جودة عالية للمواطنين؛ وعبر تحفيز الموارد البشرية الصحية، بجعل النقل الصحي « مصلحة un sevice» قائمة بذاتها داخل جميع المؤسسات الصحية، وذلك بتجاوز مشكل الخصاص الحاد في التقنيين والمعالجين وبتثمين مجهودات المهنيين من خلال تعويضات تلائم مجهوداتهم التي يقدمونها لأناس بين الحياة والموت، خدمة يؤمنونها وهم بين نداء الواجب الإنساني الأخلاقي وبين التعسفات الإدارية التي لن تتوقف ما لم تتغير العقليات والسياقات.
وفي الحديث عن المآلات، فإن أي سياسة عمومية كالنقل الصحي نموذجا، إذا لم تأخذ بعين الاعتبار مقومين أساسيين، فإن مصيرها سيكون الانهيار أكثر من هذا الفشل الذي نعيشه اليوم؛ المقوم الأول هو التنسيق بين مختلف الفاعلين سواء مركزيين أو قطاعيين أو ترابيين، والثاني هو ضرورة تعبئة للموارد المتواجدة فعليا والمتاحة وإجبارية تحفيزها وتثمينها؛ ما عدا ذلك فإن النقل الصحي بصيغته الحالية كأسطول للموت سيظل وصمة عار في جبين المغرب، رغم كل عمليات التجميل التي يقودها المركز من قبيل التسمية «النقل الطبي» والإسعاف الطائر، والعناوين البراقة داخل الاستراتيجيات والأجوبة غير الواقعية داخل البرلمان.
ممرض، باحث
في القانون العام