أصداء أصوات غافية : إزْرَا باوْندْ: الشاعر الإشكالي والصائغ الأمهر

لم يكن واردا بالبال، ولا مبرمجا في يومياتي الرحلية الاستكشافية بمدينة البندقية (فينيسيا) الفاتنة، زيارة قبر الشاعر العبقري إزرا باوند دفين جزيرة سانْ ميشلْ. الشاعر الذي ظل دوما يلاحقني من خلال تاريخيته العميقة، والشاذة، وشعره المبهر في الأول والأخير: نشيده العظيم (cantos)، الذي غطى عقودا زمنية ونفسية، وتحولات فكرية وفنية وفلسفية، وهو ينْكَتِبُ مقطعا مقطعا، فصلا فصلا، مُنَجَّماً على غرار الكتابات الكبرى الفخمة الفارهة، والاختراقية للزّمكانية كمثل الرسالات السماوية، والإلياذة والأوديسة، وإنيادة فرجيل، وكوميديا دانتي أليغوري، وملاحم الفرس والهند، وفروسيات القرون الوسطى، وغنائيات التروبادورْ، والكونفوشيوسية في البدء والمنتهى، مفتاحا معرفيا، كينونيا ووجوديا، وقُفْلا ميثيا وجينالوجيا.
ظللت مفتونا بإزرا الذي لم يبتسم له الحظ «النُّوبْلي»، وهو الأجدر به، والأسبق، والأعلى كعبا وسهما في الريادة الشعرية، والأستاذية، والقيادة النظرية والنقدية، والموسيقية والفنية.
وليس من شك في أن حجب الجائزة الكونية عن شاعر خطير مدوخ ومحير على أكثر من مستوى، إنما كان عقابا له على انحيازه للفاشية الإيطالية، وصداقته لموسوليني العام 1939، وتذييعه عبر المحطة الوطنية، مواقفه المنتصرة للفاشية الإيطالية، والحاطة من الرئيس الأمريكي روزْفلتْ، والولايات المتحدة الأمريكية عابدة الكتاب المقدس والدولار، على حد تعبيره. زد على ذلك آراءه الجريئة حول الحركة الصهيونية، واليهودية المُرابية، ما وَصَمَه بمعاداة السامية، وكراهة العنصر اليهودي، والديانات بشكل عام.
لقد امتحن في حياته، وتعرض لأشنع إذلال عندما سيق بعد الحرب العالمية الثانية إلى الولايات المتحدة، مغلولاً محمولاً في قفص كبير إسوة بحيوان مسعور أو كائن أجرب عدواني وشرس، متهما بالخيانة العظمى الوطنية.
قضى اثْنتَيْ عَشْرَةَ سنةً في مصح سانتْ إليزابيتْ للأمراض العقلية بدعوى شذوذه، واختلاله النفسي، واضطراب شخصه. ولم تكن إحالته على المصح المزعوم إلا استجابة لعاصفة الشجب، من قِبَل المثقفين عبر العالم، لتلك المعاملة الحاطة من الكرامة الإنسانية، والحاطة من قدر شاعر هائل، شاعر كوني، وإلا كان سيكون مصيره الكرسي الكهربائي.
وبمجرد إطلاق سراحه، عاد طائرا إلى عشه «الدافيء» فينيسيا بإيطاليا حيث مكث بقية عمره صامتا، مؤثرا العزلة الرهيبة، والابتعاد عن أضواء الإعلام، وضوضاء الشارع العام. كأنه عبَّر بصمته الجارح الأليم إلى أبعد حد، عمّا لاقاه من إهانة وإذلال وتَخَلٍّ من لدن بعض أصدقائه الحميمين عنه في محنته.
غير أن انحيازه للفاشية، وهي زلة سياسية لا تغتفر – بطبيعة الحال- قدَّرَهُ الشاعر انحيازا معقولا ومطلوبا لنهضة إيطالية جديدة شرعت تقلع وتعلن عن نفسها، ما دام أن أدبياتها و»فلسفتها»، انطوت على مُثُلٍ وطوباويات، قبل أن تنقلب إلى استعمار بغيض، وفكر شوفيني وشعبوي ونازي يتبطن التوتاليتارية باسم مَثَلٍ أعلى جمْعي موهوم. وهو ما لم يكن في حسبان شاعر كبير كإزْرَا الذي اندفع مؤيدا ومناصرا. وإذا عرفنا أن النهضة الأولى كانت إيطالية، وعَمَّ خيرُها باقي أوروبا والعالم، وعرفنا أن البندقية (فينيسيا) كانت جمهورية زاهرة ومزدهرة في القرون الوسطى، أمكن فهم مواقف إزرا، واندفاعه، وانخراطه في تأييد موسوليني ورفاقه.
إن تقديري وتبجيلي للشاعر إزرا، مُتَأتٍّ من كونه كان وراء شعراء أمريكيين وإنجليز كبار، نالوا جائزة نوبل، ك «إليوت» و»ييتْسْ». فهو الذي صحح هذا النص، وعدل ذاك، وقلَّم زعانف نص آخر، وقَصْقَصَ لغة منفوشة هناك. ف «الأرض الخراب» التي اشتهرت عالميا، وأثرت في الشعر العربي الحديث والمعاصر، بما هو مكون من مكونات الشعرية الإنسانية، لم تكن (أي الأرض الخراب) لتظهر على ماهي عليه، على وجهها الأسلوبي والتعبيري والتوصيفي، والموسيقي، والهندسي البارع، لو لم تعمل يد المعلم، يد الصائغ الأمهر إزْرا باوْندْ، فيها تقليما وتشذيبا، وحذفا وتغييرا، واقتراحا، حتى إن سطرا شعريا شاردا في المتن، اسْتَلَّه إزْرا، واقترح على إليوت أن يضعه في مستهل النص الشعري وهو :» أبريل أقسى الشهور» : (April is the cruel month). ولديَّ ما يثبت ذلك، فوق ما قاله مؤرخو الشعرية عن الأمر. لديَّ كتاب صغير بعنوان : (the making of the waste land)،
يبرز بجلاء، التصويبات والتشطيبات والإضافات من عنديات إزرا. وقد رَحَّب اليوتْ صاحب «الأرض» بتوجيه المعلم، وتشجيع الشاعر، إذ كان يعرف ويعي أهمية إزرا البالغة في الشعر الأمريكي والإنجليزي / الأنجلوسكسوني، ويدرك عمق تجديده، وتأسيسه للحركة «التصويرية»، والحركة «الدوامية» اللتين كان لهما شأن كبير في إظهار إدواردْ ستورَرْ، والشاعر هُلْمْ Hulme، ووليامْ كارلوسْ وليامْ، وإيمي لويلْ، وإيميلي دِكنْسونْ وغيرهم. كما كان لمكانته وعبقريته الشعرية والنقدية، أثر في بناء شعرية الإيرلندي العظيم الشاعر ييتْسْ وهو الذي كان في عز شهرته المدوية، وقمة نبوغه الشعري.
وامتد تأثير إزرا باوند إلى أبعد، إلى الرواية، فتصادى لصوته المهيمن وأستاذيته الروائي الكبير: جيمسْ جُويسْ، وهمنغواي تمثيلا.
وقد وضع صديقي الإيطالي قاطن فينيسيا، المثقف الإعلامي، على دفتر يومياتي، اسم مقبرة سانْ ميشيلْ حيث يرقد إزرا باوند، حين أخبرته بأني أعتزم زيارة الجزيرتين الصغيرتين الفاتنتين: مورانو وبورانو، مشيرا إلى أنها مقبرة ـ جزيرة يرقد فيها كبار رجالات إيطاليا وغير إيطاليا، ومنهم إزرا، وسترافنسكي الموسيقار، وجوزيف برودْسْكي الشاعر، وآخرين.
وهو ما قمت به عن طواعية ولهفة وفرحة لا توصف. وكان دليلي إلى قبره الندي، المغطى بالأعشاب الخضراء الزاهية، المحوط بشجيرات ظليلة قصيرة عليها طيور الجنة، أستاذة جامعية أمريكية، صادفتها وحيدة تقرأ كتابا، ملمومة على نفسها بين القبور، مفعمة بالسكينة والجلال. أدهشني ذلك، وأَكْبَرْتُها، وفَرِحَتْ لما أخبرتها عن سبب وجودي هنا في هذا الوقت المتأخر.
ونحن نمشي، كانت شديدة الإشراق والفتوة – وهي الستينية- في أثناء شرحها لي أن وجودها في المقبرة، إنما هو للاعتبار والتأمل والسكينة الروحية، خصوصا وأن أرواح وأصوات عظماء الإنسانية، هي هنا، لاتَني ترفرف، و تطرد الغيلان، وشياطين الإنس والجن. مررنا بقبور صغارِ.. بحيوات مختصرة جدا تحملها شواهد تلمع باكية في الرياح البحرية، متسائلة عن ماهية الظلم الذي حاق بهم، وعن الموت الذي جاءهم قبل الآوان؟.
حارت أين القبر وقد رأته بأم عينها ذات زيارة مع وفد من الكونغرس الأمريكي، ثم فجأة، التمعت عيون زوجتي وكَنَّتي، وكانتا تبحثان معنا عن إزْرا ـ وقد ورطتهما معي في جنوني، وغريب أطواري ـ فصاحتا: هو ذا، بالكاد يُرى، فالأعشاب وأوراق الأشجار تغطى ثلثيْ رُخامَتَه. قرفَصْتُ، أزَلْتُ الأعشاب الكثة والأوراق اليابسة والمبتلة عن القبر الذي يكاد يستوي بالأرض ربما لمرور عقود طويلة عليه، ومرور الرياح المتوسطية التي لا يكل هبوبها. وربما للإهمال الذي طاله، وعدم زيارة محبيه ومريديه الذين طواهم الزمن بدورهم، وجرفتهم مكانس النسيان.
انخطفتُ، تَلَوْتُ في حضرة الشاعر شعراً رثائيا أحفظه، وعبرت له عن إعجابي بشعره وشخصه، وغفرت له زلته، فالزلات التاريخية لا يقترفها إلا الكبار، مذكرا إياه بالعبقري هيدجر، والروائي المختلف سيلينْ.
أشرقت ذوائبُه، واخضلت روحه، وارتفع نشيده يثقب سدول الليل التي بدأت تتراخى، ويصدح في جنبات الجزيرة المهيبة، يطرد عنها الوحشة، ويبللها بغيث الشعر، والأبدية الساهرة.
وقد شكرني إذ وقفت على قبره. شكرني أنا القادم من صحراء التيه، وظلام الأيام، ووعثاء الوجود. وقال لي: (لا تصدقْ شيئا قلْتُه. لا تصدقْ شيئا قالوه عني، اِقْرَأْني.. اِقْرأْ شعري فقط، فهو الشهادة لي بأني كامل).
وذكرني بما كان قاله مرَّةً: (كانت مسألة أن أكون شاعرا أم لا، أمراً من الآلهة. لكن، على الأقل، كان عليَّ أن أجد ما كان مُقَدّرا لي).
لكن، ثٍقْ، يا محمد، أن الآلهة لم تعد تكثرت بنا، لقد هجرتنا من زمان. وإذن، عَوِّلْ على نفسك، وَابْنٍ وجودَك بالشكل الذي ترتئيه وترتضيه.

هــامــــش:
سحر الفاشية والنازية وحتى الستالينية، لم يسلم منه كبار الكتاب والفلاسفة والمثقفين، والشعراء، إذ وقعوا تحت سطوته وقوته « الناعمة « بفعل أفاعيل التقنع والبروباغوندا. ومنهم تمثيلا: الشاعر الألماني جوفريدبن، والفيلسوف مارتن هيدجر، والمفكر كارل سميث، والكاتب المختلف سيلينْ، والشاعر وليامْ بتلرْ ييتسْ، وإلى حد ما، الشاعر ت.س. إليوتْ.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 23/12/2022