علاقتي بشعر عبد الكريم الطبال، علاقة قديمة ترتد إلى أيام الطلب الجامعي، وإلى عهد «العلم الثقافي» الأغر الذي طلع علينا نحن ـ معشر الطلبة والمبدعين والقراء ـ ذات جمعة لا تنسى في العام 1969؛ حيث تعاقب الكتاب المغاربة شعراء وقصاصين ومبدعين، ينشرون على صفحاته « الذهبية «، خواطرَ ومقارباتٍ، وقصائدَ وقصصاً، وسجالات حامية ما زالت ترن وتتصادى في سمع الأيام، وفي آذان ووجدان المتلقين الشغوفين بقطف فاكهة العلم الثقافي كل جمعة. وآية معرفتي وشغفي بشعر الطبال مع شعراء آخرين مجايلين له كالمجاطي، ومحمد الخمار الكنوني، ومحمد السرغيني، ومحمد بنميمون، وعبد الرفيع جواهري، حتى لا أذكر إلا جيل الستينيات، مع العلم بأن « العلم الثقافي « كان مسرحا احتدم على ركحه إبداعا وتناطحا، بالأساس، جيل السبعينيات شعرا ونقدا وقصصا، وسجالا قويا عميقا ومغذيا وإِنْ سقط أحيانا في التشهير والإسفاف والإحن والسخائم.
آية معرفتي بشعر شاعرنا: نشري لقراءة عاشقة لإحدى قصائده البديعة بمجلة (الموقف) التي كان يديرها الأستاذ الشاعر الدكتور عبد العالي الودغيري، عدد 9 في العام 1989.
وبالإمكان القول من دون تردد أو زُلْفى، بأن عبد الكريم الطبال حقق أسطورته الشعرية الشخصية. ذلك أنه قَلَّ من الشعراء من حققها على مدار تعهده لتجربته، مع أن الكل يسعى جاهدا إليها، متوسلا، مستهدِفاً، وطامعا طامحا في المغايرة والنبوغ، واجتراح ما به يتفرد ويتميز. إنه التميز اللغوي والفلسفي والشعري والصوفي المسبوك سبكا بسيطا لكن حاذقا، سبكا عارفا وعرفانيا. وهذا ما دمغ ويدمغ شعر الطبال فيفرده ويجعله مستثنى أيْ تِبْراً مستلا من ركام الأتربة والغبار، منتشلا إياه من الزحام، ومن تشابه الرمال على حد تعبير محمود درويش، ومن « مُتَرَدّم « التجارب الشعرية السابقة والمحايثة:
بابٌ لاندلاع الورد
إِنْ دَخَلْتَ
كنتَ العندليبْ
يبدأ الإنسان طفلا، وينتهي طفلا. فالطفل أبو الرجل بالتعبير البارع الفارق للشاعر الرومانسي العظيم ووردزورثْ. وفي ما كتبه الشاعر الطبال، إدهاش مستمر، ودهشة متواصلة. دهشة طفل أمام العناصر والأشياء والكائنات. الدهشة التي تَتَبَنَّكُ محورا عاما في شعره، وتشكل بؤرة دلالية حافة وثاوية ومعلنة سارية تتخلل وتقيم طرية العود، غضة الإهاب في كل ما صاغ وأبدع وكتب. وأكاد أجزم بأنه الأوحد بين الشعراء المغاربة، في الأقل، الذي يتماهى شعره مع الدهشة مثلما طفل ـ كما أسلفت ـ يهتز طربا وانتشاءً لأقواس المطر، أقواس قزح، وللألوان، والأشكال والأعشاش والطيور، والفراشات، والجداول والسواقي… الخ.
نصوصه تفعل في المتلقي ما تفعله فيهم نافثات العقد، من انجذاب ساحر إلى السحر الطبيعي، إلى تنشق البخور الطالعة من محافل ومجالس الأذكار، وحلقات الصوفية. وبعدما غمس قلمه الرفيع في محبرة الحرائق، حرائق الواقع وجمرات المرحلة الملتهبة: ( الطريق إلى الإنسان )، و (الأشياء المنكسرة )، عاد إلى الذات لا هروبا وإعراضا عن واقعه وواقع الناس، ولا دَسّاً للرأس في حفرة اللامبالاة والإشاحة عما حواليه، بل تفرغا تنسكيا في معبده الشخصي، وعكوفا على تثقيف شعره ونحت لغته وتجميلها، وقَصْقَصة زعانفها، وأشْناتها الفوضوية، وفسح المجال لقول الجرح والبوح باعتمالات الأطواء والدواخل في عالم ما ينفك مبتعدا عما سطره علماء الضوء، وفلاسفة النور، وشعراء الجمال الذين قاوموا القبح بكل معانيه وإحالاته، ليتسنى للإنسان أن يعيش عيشة رضية رخية، وهو ما لم يتحقق.
وإذاً، فَلْيَبْنِ الشعراء عالمهم الاستعاري، ودنياهم المجازية، وحياتهم الروحية، وتجاربهم وخبراتهم « الغنوصية « كما بناها الصوفيون أيضا: الحلاج، وابن عربي، والسهروردي، والبسطامي، وجلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وشمس الدين التبريزي، وسعدي الشيرازي، وابن سبعين.. إلخ. هؤلاء وغيرهم من عظماء الإنسانية ونوابغها وقادتها الروحيين الذين استضافوا الشعراء الكبار « المحترقين « حقا مثلما استضافوا عبد الكريم، وأوسعوا له بينهم، المكانَ والمكانةَ، والمقعد السنيّ، والاعتبار الجليل. مع أن « الرؤيا» ظلت قاصرة لغويا عن التمرئي في شعر الصوفية الكبار أمثال ابن عربي في ( ترجمان الأشواق )، وعبد الجبار النفري في ( المواقف والمخاطبات )، وأشعار الحلاج وابن الفارض، وثلة عظيمة من شعراء إيران، لأنها ظلت لصيقة لائطةً بالأرض.. بالتراب، بالفاني، بالمعنى المطروق والموطوء غزليا وخمريا، فلم تَسْمُ السمو المنشود الذي احترق الصوفيون والأفلوطينيون من أجل بلوغه، والتوغل في معارجه، علماً أن أشعار المعرّي الشاهق ـ في ظني ـ أصابت البغية والمرام، وأوفتْ على الذروة في ( لزومياته ).
عبد الكريم الطبال الكاهن ناسك شفشاون لا بالمعنى الديني السائر، بل بالمعنى الجمالي الاستغراقي، إذْ أن دينه هو الشعر كما كان دين ابن عربي هو الحب. الشعر محراب وحبر مقدس، وصلاة. مُصْطَفىً من قوة غامضة ما ورائية، ومنتدب من قِبَلِها لحراسة المعبد الشعري، وأسرار النص الشعري حيث الإقامة الفردوسية في روح حروفه، ودم كلماته، وأزاهير رهاناته، وظلال ثنياته، وعَذْب مائه، ووهج نوره. شعر ينطوي على حيرة الذات المشدودة بالقوة والفعل، إلى الميتافيزيقي الذي عنوانه العريض هو: الغوص في أُسْتُقسطات الوجود والحياة، وتكليم عناصرها بالإشارة والرمز والكناية، والإيماءة والإيحاء، والصورة الشعرية المترفة المرهفة، والانزياح البديع، والمجاز المرسل، والخيال الخلاّق، والاقتصاد اللغوي البرقيّ الخُلًّب. بالبساطة الساحرة نَنْشَدُّ كما لو برَسنٍ عُلْوي حريري لا يُرى، لكنه يُسْتَشْعَرُ ويُسْتَحَسّ ويستلذ. وليس في مُكْنة أيٍّ كان أن ينتهج البساطة الماتعة الرقراقة في إبداعه الشعري أو الروائي، أو التشكيلي، ما لم يكن مسنودا بمرجع متكثر مخصب بالثقافة والتجربة الروحية، والطبع والموهبة والحكمة.
الحروف سحر جارف، والكلمات عقود ألماسية تتلألأ في شعره متبوئة ناصية النقاء والصفاء والغضارة، تضيءُ وتستضيءُ، تبدد حلكة الواقع بما يفيض من ضوء الخيال على الظلام، فإذا بالذات منشرحة متفتحة كبتلات وردة برية عذراء حالمة بين نبعين أو « برزخين «، ضَوْعُها الخرافي يُنْسي عَطَن وعَفَن ما يَتْرَى جاريا في معيشنا اليومي، في واقع الوفرة والاستهلاك المتخم المريض، واقع استسلم فيه الجميع أو يكاد، إلى « نظام التفاهة « حد تعبير المفكر والفيلسوف الكندي: آلانْ دونو.
( من يَجْرُؤُ
أن يتوغل في غارٍ
منفردٍ
تكنفه
أشجارٌ عذراءْ
أطيارٌ من نورْ
أنفاسٌ الفردوس.
الذي يجرُؤُ
يأتيه الكون جميعاً
محراباً
يَغْشى فيه.
ختاما أقول: هل رأيتم الطبال، هل عرفتموه، هل جالستموهُ؟. إنه بوجازة: رجل هادئ يتكلم قليلا بل همسا كأنه ينثر الدررَ كما يفعل بشعره سواء بسواء. ذلك لأن الشعر مكانٌ لإنتاج الصمت لا الصراخ والزعيق، وموطن عطر زكي لأنفاس اللغة وحفيفها لا صخبها وخطابها. وإذا كان صنوه وخِذْنُه الشاعر الكبير محمد السرغيني أخذ نفسه ب « عَقْلَنة « شعره، فإن الشاعر الفذ عبد الكريم الطبال نحا منحى شعريا مغايراً، مكملا ومفارقا في آن، أصفه ب « الرَّوْحَنة « و « الوَجْدنَة «. ففي التنافي والاختلاف، تكمن الدينامية الإبداعية، تكمن أقباس الضوء الشعري، يكمن الشعر.
أصداء أصوات غافية .. الشاعر الطبال:الكاهن الملكي في المعبد الشعري الجليل
الكاتب : محمد بودويك
بتاريخ : 24/05/2024