أصداء أصوات غافية .. الصداقة والصديق

الإنسان حيوان اجتماعي، وهو بهذه الصفة كائن ناقص لا يكتمل إلا بالغير، أي لا يكتمل إلا بالاجتماع والتساكن والصحبة والرفقة، ونسج العلائق مع أشباهه وأضرابه، وغير أشباهه وأضرابه وأمثاله. أما اجتماعيته فيشترك فيها معه، العجماوات الحيوانية: البرية، والبرمائية، والمائية، والسماوية من طيور. وما انفرد منها، كان مصيره الهلاك والموت ولو كان أسدا هصورا وضاريا لأنه سيصبح لقمة سائغة لتجمع / قطيع حيواني آخر قوي بعدده.
وبما أن الإنسان حيوان لغوي أيضا، وتلك إحدى ميزاته وسماته الفارقة التي جعلت منه سيدا وقائدا ومتحكما في مصيره، ومصائر الكائنات الأخرى، فبمقدوره أن يعيش وحيدا في معزل عن الناس والمجتمع، إذ أن وحدته ليست مُصْمَتَة منغلقة ومستديرة على نفسها. فهو في وحدته، واحدان، أو اثنان في واحد، أو واحد في اثنين، بمعنى أنه يتمرأى ويتوازى، وينقسم، وينشطر إلى نفس وبدن، وروح وجسد، وإلى باطن وظاهر، وجوانية وبرانية. وفي هذا ما يدل دلالة بينة على أن اللغة، بما هي اختراع إنساني، تفكربه كما يفكر بها، فهي حمالة خبرات وتجارب، وخزان ذكريات، وأزمنة ماضية وحاضرة سائلة. وهي عامل وعي بموجوديته في الوجود، وبكائنيته في الكون حسا وشعورا وعقلا وحدسا. فاللغة ثاني الواحد المعتزل والمنفرد. بها يحدث نفسه ويكلمها معاتبا أوناصحا، أو هاديا مستهديا، أو مؤنبا باكيا، أو ضاحكا مستبشرا. وبها يقرأ تاريخه ومساره في الحياة، ويقرأ صفحات من حميمياته، وأسراره وغوامضه، ويقهر بوساطتها وحدته وكآبته، وخلو ما حواليه من أصداء وأصوات، ومارة وسابلة، وضجيج وعجيج. إنها طوق نجاة من خلاء وفراغ مهول، وهاوية سحيقة لا رنين فيها ولا ارتداد صدوي.
وإذا كانت العزلة والخلوة قدر المبدعين الحقيقيين، والمفكرين العباقرة النوابغ الذين يتخذون الغاب والأكواخ، والأديرة الموحشة النائية، والمنازل غير المأهولة في الضواحي حيث لا دبيب، ولا نأمة ، ولا تلفاز، ولا أنفاس بشرية، ملاجيء ومآوي وملاذا لقراءة الأكوان والعوالم العليا والسفلى، وتحبيرعناصرها، ومكوناتها، وما يعتمل بداخلها، بحبر الرؤيا الثاقبة النفاذة، والخيال المبدع الخلاق، فإن الناس « العاديين «، الذين يرتبطون بالمعاش اليومي، وبالضروري والحاجي الذي يقيهم غائلة الجوع والمرض والموت، في حاجة ماسة إلى الغير، إلى الآخر، إلى التجمع من أجل قهر برد الوحدة، والخوف الميتافيزيقي.
ولا غرو، أن يتخذ الناس أصدقاء لهم من بين بشر عرمرم، يبوحون لهم بأسرارهم، وبما يضايقهم، وبهاجس خوفهم من الآتي والغد والآخرة.
وإذاً، فالحاجة ماسة إلى اختيار صديق، وما يترتب عن ذاك الاختيار من بحث دؤوب، وتنخيل حتى يقع الباحث على سجايا متوسمة في المبحوث، هي السجايا عينها التي يرتاح لها، وتؤدي إلى التوافق والتواؤم، والانسجام. وعندها تكتسي العلاقة صدقية، و» مثالية «، وموثوقية تكون صمام أمان، ودافعية نفسية مطمئنة للإقبال على الحياة بهمة وروح وثابة، وحيوية وقادة.
يتخذ الإنسان صديقا وإن بدأ صاحبا، لأن الصاحب متى ما أظهر المودة، والاحترام المتبادل، والصدق في ما يقوله ويأتيه، بعد فترة زمنية قد تقصر أو تطول حتى لكأنها اختبار وامتحان وجس نبض، يصبح صديقا. ومعنى هذا أن الصداقة تعلو على الصحبة، وتعلو على الأخوة الرَّحِمية / النسبية أيضا. ولا شك أن القولة التي ذهبت مثلا وحكمة: « رب أخ لك لم تلده أمك «، والتي تنسب ـ عن حق ـ إلى لقمان الحكيم، تلخص ذلك. إذ أن الصديق هو أخوك الآخر، أخ فوق العادة، حيث يحملك وتحمله كما حمل « شن طبقة «. تفضي إلى ما يجيش في خاطرك، وبما يؤلمك، وما تريده وتطمح له، وتبوح له بما تعتبره من « الحميميات «، في حين تخفي مشاغلك الخاصة، وهمومك الشخصية عن أخيك من الرحم الواحدة.
ولنا في ما كتبه فلاسفة اليونان عن الصداقة، وكذا ما كتبه مفكرو وفلاسفة وشعراء العرب والإسلام عن الموضوع ذاته، دُرَرٌ نصية، وفصوص كتابية غاية في الإبداع والنسج، والحكمة والوصايا الرفيعة، والمحاذير النفيسة. والذهن يذهب رأسا إلى أبي حيان التوحيدي، وابن المقفع، و» إخوان الصفاء « وابن حزم، وغيرهم.
فأبو حيان التوحيدي الذي عانى أصنافا من الصد والهجر والتهميش والظلم من ذوي السلطة والجاه، ومن الأصدقاء، يمجد الصداقة والصديق، محذرا في الآن عينه من مغبة الاختيار المتسرع، والاندفاع غير المحسوب في الانتقاء والاستصفاء. فهو يرى أن الصداقة عاطفة اصطفائية، وفضيلة إنسانية يصعب تحقيقها على الغالب. وهي ككل عاطفة أساسية مرتبطة بصميم الحياة الشعورية، تتفرع عنها جملة من الفضائل الخلقية والسلوكية تضمن لها البقاء والنماء. لكن هناك عناصر سلبية في هذه العلاقة مصدرها النفس الانسانية ذاتها تفسد الصداقة، وتحمل إليها بذور الانحلال كالخلاف والهجر والعتب والرياء والنفاق والحيلة والخداع والالتواء.
وقد سأل أبو حيان التوحيدي أبا سليمان السجستاني عن معنى كمال الصداقة، قائلا: ( إني أرى، بينك وبين ابن سيار القاضي، ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية. فمن أين هذا؟، وكيف هو؟. فقال: يابني: اختلطت ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكونا لا يرِثَّان على الدهر، ولا يحولان بالقهر. ).
وهذا الذي يشير إليه القاضي ابن سيار، هو ما استتب لدى جماعة « سرية « تشكلت من أصدقاء خُلَّص جمعت بينهم آصرة الأدب والفكر والفلسفة، ومباديء المذهب الباطني والسياسة. وهي الجماعة الفلسفية العظيمة « الغامضة « التي تَسَمَّتْ ب « إخوان الصفاء وخلان الوفاء «. ففي إحدى رسائلهم يقولون عن الصداقة والصديق ما يلي: (.. ينبغي لك إذا أردت ان تتخذ صديقا أو أخا، أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير، والأرضين الطيبة للزرع والغرس. واعلم أن الخطب في اتخاذ الإخوان أجلُّ وأعظم خطرا، لأن إخوان الصدق ( الأصدقاء )، هم الأعوان على أمور الدين والدنيا جميعا، وهم أعز من الكبريت الأحمر. وإذا وجدت منهم واحدا فتمسك به، فإنه قرة العين، ونعيم الدنيا، وسعادة الآخرة، لأن إخوان الصدق نصرةٌ على دفع الأعداء، وزَيْنٌ عند الأخِلاَّءِ، وأركان يعتمد عليهم عند الشدائد والبلوى، وظهر يستند إليهم عند المكاره في السراء والضراء، وكنز مذخور ليوم الحاجة، وجناح خافض عند المهمات، وسلم للصعود إلى المعالي، ووسيلة إلى القلوب عند طلب الشفاعات، وحصن حصين يُلْتجَأُ إليه يوم الروع والفَزَعاتِ. ).
لاَحِظْ أنهم يعتبرون العثور على الصديق ذي المواصفات المذكورة، كالعثور على الكبريت الأحمر، أي كالعثورعلى لؤلؤة المستحيل بتعبيرنا المعاصر.
فهل يكون صدى هذه المعاني وغيرها، هو ما جعل الشاعر يقول ، مستثمرا ما تحدثت به العرب قديما عن المستحيلات الثلاث، والتي من بينها الخِل الوفي ( الصديق )؟
لما رأيت بني الزمان وما بهم / خِلٌّ وفيٌّ للشدائد أصطفي / أيقنت أن المستحيل ثلاثةٌ: / الغول والعنقاء والخل الوفي.
ولنتأملْ ما قاله الشاعر العظيم ابن الرومي:
يا أخي أين عهد ذاك الإخاء
أين ما كان بيننا من صفـــاء
كشفت منك حاجتي هفوات
غطيت برهة بحسن اللــقــاء
تركتني، ولم أكن ســـيّءَ
الظنَّ أسيءُ الظنون بالأصدقاء


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 05/05/2023