أصداء أصوات غافية .. القصيدة المغربية الأولى 2/1

بَدَهيٌّ أن القصيدة المغربية الأولى التي شَرْعَنَت الحداثةَ أو شَرْعَنَتْها الحداثةُ، لم تعتمد النصوص السابقة عليها في موطنها كمتكإ وسند، واستيحاء واستلهام. فالتبلور والتحول اللذان حدثا – بدءا من الستينيات، ثم امتدا وتجذرا خلال فترة السبعينيات على مستوى بنية هذه القصيدة / القاطرة، إنما تبجسا من احتكاك بمدونة الشعر العربي الحديث في المشرق في سمته الرومانسي تحديدا، و تَنَشَّقَ تيارات التجديد الشعري التي كانت تهب من غرب أوروبا وأمريكا. هذه بديهة أولى، من منطلق زعمنا أن الكلاسيكيين الجدد –إذا صحت التسمية-: علال الفاسي – محمد بنبراهيم – المختار السوسي – عبد المجيد بن جلون ـ محمد الحلوي، لم يؤثروا في فرسان التحديث الشعري الستيني: المجاطي والسرغيني والطبال والميموني والجواهري والملياني، الذين وجدوا أنفسهم مدفوعين إلى اختبار تجربة مغايرة مع اللغة والتخييل، وركوب الصعب بحثا عن القصيدة المغربية الأولى، وسعيا إلى وضع مدامكها المائزة، قصيدة تتنفس مغربها ملء الرئتين، بقدر ما تمتح من تجارب التحديث العربية، وبقدر ما تنصت، وترهف الإنصات إلى أتون واقعها المشتعل، ونبض ذاتها المشوقة والحالمة. ولنا أن نستحضر هجرة المجاطي إلى سوريا، والسرغيني إلى العراق ثم فرنسا، ومصاحبة الكنوني والطبال والميموني والصباغ للغة ثِرفَنْتسْ. الصباغ الاستثنائي الذي كان يحفر مجراه الشعري في صمت مستلهما مناخات نصه الشعري من قارة الشعر المهجري، مستهديا بقاموسهم الرومانسي البديع، ونسغ غربتهم وقلقهم الأنطولوجي، وصراعهم العاتي مع التقليد، وأوجاع إقامتهم في الديار الامريكية.
لقد اتسم الوضع الشعري في المغرب بانقطاع ملحوظ بين مرحلة ومرحلة، وبين جيل وجيل، بل بين فترتين من مسار الشاعر الواحد عينه. انقطاعٌ  وَعَوْدٌ إلى انقطاعٍ من دون أن تواصلَ القصيدة المغربية مغامرتَها، وتركبَ مركبها النشوان في اتجاه اللأيسمى. في اتجاه الخارق والمجهول.
لهذا يقول الشاعر محمد بنيس: (إن من العبث الإقرار بأن عبد الكريم بن ثابت خرج شعره من تجربة علال الفاسي، أو أن شعر المجاطي تطوير لشعر بن ثابت أو الطنجاوي، بل من العبث القول بأن قصائد علال الفاسي التي ظن أنها معاصرة، تطوير لتجربة الكلاسيكية الجديدة أو حتى الرومانسية).
وفي الصفحة ذاتها، يضيف الخلاصة النظرية التالية: (.. وهذه الملاحظة التي حاولنا تبيينها، يمكن أن تعتبر من بعض الوجوه، أساس ومرتكز البحث عن مراحل تكوين بنية المتن الشعري المعاصر التي لم تكن دائما تتحدد من داخل وضعية الشعر المغربي الحديث، بل إن الخارج والوافد على الشاعر كقاريء هو الأصل في كل تطور).
البديهة الثانية هي: أنه يستحيل وجود شعر حديث دون وجود وعي جديد بالشعر والحداثة، بما هي رؤية للفعل الشعري، ورؤية للنسج العام الذي تنشئه الحداثة في القيم الجمالية والإجتماعية والسياسية، مما يقود ويفضي إلى مسألية معرفة الشاعر بالشعر التي كانت أساس الشعرية العربية المكبوتة فيما يقول محمد بنيس: شعرية كبتتها القيم المتعالية التي فرضها النقاد على الشعر والشعراء.
فالسؤال عن القصيدة المغربية الأولى هو سؤال ينتج القلق والشكية بما هو «وعي صادر عن الممارسة ذاتها أفقا يتشكل دائما. تلك هي مضايق الشعر في زمن الحداثة».
وهو السؤال عينه الذي لاحظه وافترضه بنيس عن مسألة الانقطاع في الشعر المغربي الحديث، لأنه موصول بالبحث عن قسمات وملامح القصيدة المغربية الأولى.
إنها الملاحظات الإستبارية التي ضمها مقال (بيان الكتابة) الذي نشر في العدد 19 من مجلة «الثقافة الجديدة».
متى  ـ إذاً- بدأ الخروج على النمط الشعري الموطوء، والقصيدة الخطية الصَّدَوية التي تنشر مسعاها قبل أن تفكر، وعلى القيم الجمالية والاجتماعية والسياسية المتداولة، والمشدودة إلى الخلف؟
نجازف بالقول إن الخروج استعلن في منتصف السبعينات، من دون حجب تشكلات ملامح القصيدة المغربية منتصف الستينات على يد الثلة الأشهر والتي ذكرناها بالاسم والمسمى.
إنه صلصال البدء والتخلق، وبروز النتوءات والجذع والأطراف. والنسغ الأخضر المُهْراق الذي طفق يسري في حطب شجر الشعر اليابس قبل هؤلاء.
يتبع

الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 10/10/2025