ولئن انتقل المعنى في الشعر الثمانيني إلى ما يتجاوز الدلالة، ويوقع في الحيرة والسؤال والإدهاش – وهي العناصر الضرورية لكل شعر وفي كل شعر، نشدانا للجمالي، وصونا لصوت الذات المكلومة، ونداء الأنا المتحشرج المطموس، ما أضفى غموضا بديعا على هذا الشعر، وكساه جمالا ضمن كتابة أخرى، كتابة مختلفة ومغايرة- فإن ذلك لم يكن ليحصل وليتأتى – وهذه سنة الحياة والتطور- لولا قدوم رياح حداثية إلى المغرب، هبت من الشام ومصر والعراق، تحمل في منقارها الأحمر واللازوردي، ماء تنعش به اليباس، وهواء لرئة الإبداع لتتنفس هنيئا مريئا. أما هذه الرياح اللواقح، فهي وفرة الشعر الجديد، التجريبي على أكثر من صعيد، ووفرة البيانات والكتابات التنظيرية في الحداثة الإبداعية، وعن الحداثة وإذن، فإلى جنب المهادات التي ساهم فيها الشعراء السبعينيون المغاربة والعرب، قامت البيانات التي دعت إلى التجديد في كل مناحي الحياة، بدورها في تفتيق الدهشة أكثر، وتفتيح العين على ما يلوح في الأفق القريب، والآفاق الإنسانية الكونية الأخرى، وشحذ اللغة شحذا صار معها الصوغ منحوتا، والشعر منعوتا، والجمالي منفوثا، والمعنى القريب الواضح، ملعونا وممقوتا، أي أن الثمانيين الحاذقين – وليس كل الثمانيين – سعوا إلى كتابة أخرى، كتابة «انقلابية» في بعض النماذج القليلة، بعثرت المعنى، وجنحت الدلالة، وأحدثت إبدالا ملموسا في لاَوَعْي النص من حيث إبعاده أواستبعاده للنماذج العليا، واحتضانه للهموم الحياتية، والقضايا الصغرى، والمبتذل اليومي. ما يعني أن الوظيفة الشعرية، أصبحت هاجسا رئيسا لدى الشعراء، تقتضي تكثيف اللغة، وشكلنة الصفحة، والتهليل للبياض وللسواد، وأسطرة الذات المتكلمة، خلف ما به تنصهر الذات بالإيقاع الخفي العام، والإيقاع الشخصي كدال يتحكم في بناء النص وهندسته، والذهاب به إلى أقصى البوح والصمت في آن.
لم يكتب للشعراء الثمانيين أن يحققوا هذا البعد في نصوصهم، ما خلا قلةً، أما الباقي، فدخل دوامة خلافية تأسست على الثرثرة العقيمة، والشعر السطحي الباهت، والعرضانية التخييلية الميتة، أو المشدودة إلى متخيل سبعيني أخفق هؤلاء في إخفائه ومواراته وطمسه.
إنها حساسية شعرية جديدة – كما هي الحال- في ما يتصل بالحساسية التسعينية والألفية، لكنها حساسية ناستْ بين الرسوخية، والتذبذب، وبين التجريبية الموعى بها، والواعية والمتاهية التي تخبط فيها. لا نقول هذا انتصارا للقصيدة السبعينية، وتفضيلا لها. فليس هناك من تفاضل إلا ما حققته أسماء بعينها شعريا، إنْ في السبعينيات أو في الثمانينات أو ما بعدهما. ويمكن القول – استنادا إلى ذلك- بأن التجربة الشعرية المغربية بالتكثير، هي تجربة أسماء لا تجربة جيل غامض، جيل هلامي. وهو ما يفيد أن الشعرية الثمانينية، كما الشعرية السبعينية، كما الشعرية التسعينية، وهكذا… هي تجارب اسمية، يتفاوت فيها الشعراء. ويعلو فيها سهم على سهم. ولهذا السبب، فإننا –عادة- ما نتحدث عن سبعينيين بالإسم، وستينيين كذلك، وثمانيين أيضا، أي عن تجارب شخصية، وأصوات خاصة، ونصوص مخصوصة. وهي التجارب الشعرية التي تتخطى التجييل والتحقيب، مستمرة بشعرها، نابضة بجمالها، مؤتلقة بمأتاها، متوهجة بدمها وتوقيعها الشخصي.
أصداء أصوات غافية .. في الشعر المغربي الحديث والمعاصر

الكاتب : محمد بودويك
بتاريخ : 26/09/2025