صاحبة الصوت العاري الأبيض المغسول، الصوت العاهل والملكي. أنف رفيع مسحوب إلى الأعلى، وجبين موصول بقمر الضوء، ورغوة الشعر. صوت امرأة ملفوفة بنداوة الهمس والبوح والتنهد الأليم والشافي. سيرينة من لحم ودم، بللتها أمواه اللاذقية زمنا لم يتعد العشرين سنة. أطلت بالعنفوان كله من صلصال وقاع تاريخ سوريا الحضاري والثقافي حيث المزيج الجينيالوجي العبقري، والمصهر الإثني السلالي الجيني المركب كيميائيا وكوسمولوجيا.
إنها الشاعرة مرام المصري التي صرخت عندما جاءت إلى الدنيا ذات عام تكور على 1962، بفضاء اللاذقية. لكنها، وبسبب من هشاشتها ورهافة إحساسها، هاجرت إلى باريس كمنفى اختياري وطوعي العام 1982. ابنة العشرين حلت، فكتبت شعرا جديدا لذيذا كالآيسْ كْريمْ في صهد الظهيرة يُلْحَسُ لحسا، أو شرابا روحيا سائغا وباردا يُحْتَسى احتساء في حضن موسيقا صامتة ومهدهدة. كتبت شعرا ينفذ إلى الذوق والحس والعمق الوجداني، لكن لاسعاً كإبر النحل، كاشفا عن مباهج وانتشاءات، وعن، وهذا ما يغنيه ويثريه، أكدارٍ وآلامٍ، وإخفاقات، وتغضنات يومية تقذي الخاطر والعين. ولعل هذا الغنى الدلالي والجمالي هو ما شد من عضد كتابتها، وقدمها إلى المتلقي، والمشهد الثقافي العربي والأوروبي، وبصم على حضور فني رائق وشيق وبهي.
لا تتحدث مرام عن مقامها في عاصمة الأنوار، كمهاجرة أو مقتلعة ضاربة في أرض الله بعصا الترحال والتسيار. ولا عن نساء الشرق بالبعد الذي صوَرَهُّن به وَوَفْقَه، الرسمُال استشراقيُّ: حريما في حريم يغمسن في الأصباح ضفائرهن المنقوعة في ماء الورد، ويتضمخن في العشيات بألوان وأنواع المسك والبخور المختلفة، البخور التي تساعد البلاطات العنّينة على الإنعاظ والإنهاض، والهيجان الجنسي، والشبق المرضي، ورخيصات الأغاني والأرداف.
بيد أنها مجدت وانحازت إلى النساء، مطلق نساء، الشقيات المعنفات، المقموعات، والمستباحات، مكرسة لهن كتابها الشعري الجميل والحارق: ( أرواح حافية الأقدام ).
لفتت إليها الانتباه منذ كتابها الشعري الأول المشترك مع أخيها الشاعر منذر: ( أنذرتك بحمامة بيضاء )، وتنامى حضورها الشعري النوعي بإصدارها ديوانا أسمته: ( كرزة حمراء على بلاط أبيض )، وهو الديوان المخطوط الذي قَدَّمْتُه وقدمتُ صاحبته ذات مساء عَطِرٍ مختال لا يزال رواؤه يملأ القلب والعقل، في العام 1990، بمناسبة انعقاد المؤتمر الشعري العربي الأول بحاضرة الأدارسة: بفاس. وبعد سبع سنوات بالتحديد، حاز الديوان المذكور على جائزة أدونيس للإبداع الفكري. ثم تكرس الحضور المثير إياه، بعد نشرها ديوانا ثالثا، فرابعا، فخامسا.. الخ، بالعناوين التالية، بالترتيب: (أنظرُ إليكَ)، (أرواح حافية الأقدام)، و(من نبع فمي) التي ترجمت إلى اللغات الحية. وفيها ومن خلالها، انطلقت تتكلم عارية، حافية القدمين، تمشي على الزبد من دون أن تطفئ ثقوبه وعيونه ودوائره، وهي تنذرنا بالحمامة البيضاء «الأسطورية»، والفراشة القزحية «الخرافية»، والكرزة الحمراء الشهية الفردوسية التي تقطر مَنّاً وحلوى، مهووسة بالحرية، مهجوسة بإمكان تحققها في عالم عربي مغلول ومصفود حتى العنق، ومقفول موصد حتى الدماغ. مُنَكِّلَةً، من دون رحمة، بالطابوهات والحواجز» الأخلاقية» التي أقامها ويستمر على حراستها، سدنةُ الماضي المنخوب، والتاريخ المشطوب، رعاة التخرصات والتحرشات، والنفاق الديني والاجتماعي.
تقول ذلك وغيره بالعري اللغوي البعيد عن الحذلقة الفلسفية، ضمن ومضات منحوتة، وكلمات قِصار، ومفردات تُدَنْدِل ضفائرها المزدانة بأشرطة ملونة، وصور ممشوقة القوام، رشيقة، خيزرانية المبنى، طافحات الخيال، كثيرة الأجنحة، وإيقاع هفهاف راقص وناعم. فاسحة مجال القول لجسدها ليعلن حريته، مهشما أنياب الطابوـ الغول، أنياب الذكورة، والفحولة المضحكة، والبترياركا، والدين المسخر والموظف، وأنياب السياسة العربية النَّخِرة،ومؤخرات الأنظمة الرجراجة والمتهدلة، مستوحية، في لعبة تناصية بديعة، لا تسلس القياد إلا لشاعر أو شاعرة حرة مرهفة يسبقها برقوق الكلام، وعسل الصوت والتعبير، مستوحية نصوص الشاعرة اليونانية صافو، وشعر جداتها وأجدادها العرب الغَزِلين الذين تغزلوا وتَشَبَّبوا، وأولوا الجسد عنايتهم الفائقة، وتصاوير جَوْعتِه، براعتهم وحذقهم اللغويين، مُصيخين السمع لرغائبه المشبوبة، وأشواقه اللاهبة للإفلات من قيد ثقافة عربية ـ إسلامية مغلقة، حرصت الحرص كله على قمعه، وإخراس نداء عطشه، واشرئبابه إلى الطيران، ومعانقة شرر النار.
ومرام المصري الصديقة، تعرف كيف تبني عش الحب قشَّةً قشَّةً، وتجمع حصى الانتظار البنفسجي ترقبا لإنجاز الوعد، ضمن بلاغة جديدة تُعْنى بالإبلاغ عن كلوم الذات وجراحها، بمحو المساحيق الاصطناعية، وشفط الدهون المتراكمة على ملامح وأمارات، وتقاطيع اللغة. فهي ضد الأورام اللغوية، والبثور التكوينية التصويرية التي تعج بها مدونة الشعر العربي في كثير من نصوصها ونماذجها، تلك البثور التي أضرت بالشعر، وساهمت، بقدر معتبر، في إبعاد المتلقي عن الشعر.
ولست أعرف، في حدود ما اطلعت عليه، شاعرا أو شاعرة متقشفة مقتصدة، بخيلة وهي تباشر فعل الحب مع اللغة، كمثل مرام. إذْ اللغة غزلية أو إيروتيكية هي حبيبُها، المُذْنَفَة بحبه. فهي تعطي من دون مَنٍّ، لكن بحسبان «ترمومتر» جسدها / لغتها. وتقدم روحها الأخف من فراشة عن طواعية إلى فارسها ما يعني: « مفترسها «، متوسلة إليه أن يترفق بها، وألاَّ يستخف بإحساسها وعشقها، ويستصغر تلك الروح المعذبة الخفاقة، القلقة، الظمأى إلى الظل والفيء، والماء، والرائحة، والبِشارة.
( من نبع فمي ): ينساب ماءٌ زلالٌ، رُضابٌ عسلي، يُحْيي الروح. ينساب كخيط الكوثر، آناء الليل وأطراف النهار، لامرئياً عند المتعجلين الخابطين، والرجال الغلاظ الشداد. ومرئيا ساطعا عند أولئك الذين يهيمون عشقا بالكون وناسه وأشيائه، مثلها. المماثلون الشبيهون بها حيث سعيهم اليومي المضني واللذيذ إلى حقل الفَرَاش، ومِضمار المهاري البيضاء المحجلة، وبراري الأزهار والأطيار، ومساكب اللغة الذهبية، وأباريقها الفضية، وولدانها المخلدون الذين يطوفون بماء نبعها النمير، بالشعر العسلي، الشعر التَّرْياقي والنِّكْتاري، لمداواتهم من أدواء المادة الصفيقة، والعادات البلهاء، والأحاسيس « القطيعية» المعلبة، وإشفائهم من أدران الضغط النفسي اليومي، وويلات اللهاث الدائم وراء كاذبات الأماني، ومائيات السراب.
فما تكتبه مرام المصري، هو: أناشيد حب، أناشيد الأنشاد العصرية التي تعيد للروح جوهرها الحي ووهجها، وللجسد اشتعاله، وبغيته ونشوته، ولذائذه.
ومن ثَمَّ، كما أسلفت، فإن الشاعرة مرام، تمارس الحب باللغة مع اللغة جهارا نهاراً. لا تحتطب بليل، ولا تخفي لوعتها وغرامها بالعيش في أبهته، وعنفوانه، وجماله، وحريته، وتحقيق ماكان له، وما هو له. تحقيق ميتافيزيقاه، وحسيته، وواقعيته، وما يصبو إليه.
وإذاً، يمكن القول إن مرام أبيقورية عن جدارةٍ، وكشْفِ كتابٍ. بل هي أبيقورية البرزخين: نهايات القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين.
أخيراً، لا ينبغي أن ننسى، ونحن في غمرة مديحنا وانشدادنا إلى رهافة شعر مرام، كتابَها المُهْدى إلى ثوار سوريا، وأطفال سوريا، الموسوم ب: ( الحرية عاريةً تصلُ ). كتبته الشاعرة بالفرنسية ليحقق الذيوع والانتشار. واختار الفنان الفرنسي: بييرُوفورْنْيِي نصا من الكتاب بعنوان: « أطفال الحرية «، وأبدع في غنائه.
أصداء أصوات غافية ..مَرامْ المِصْري أو الشعر متجولا على دراجة هوائية
الكاتب : محمد بودويك
بتاريخ : 20/12/2024