أصداء أصوات غافية

اللغة العربية في يومها العالمي: الحال والمآل

 

توجد اللغة العربية – اليوم- في وضعية حرجة وصعبة. توجد في المابين، فلا هي في المقدمة، ولا هي في المؤخرة. لا هي في العَيّوقِ– كما كانت ذات زمن وَلَّى – ولا هي ملقاة على قارعة الطريق، تبكي حظها العاثر، وترثي أهلها الناطقين بها، قبل أن ترثي نفسها. وهذا يعني أنها –باختصار ومن دون شقشقة ولا إطناب – متخلفةٌ عن الركب الحضاري، غير مندرجة في الحراك الثقافي الكوني، وغير مندمجة مع الفورة العلمية والتكنولوجية، والوسائطية الاتصالية الرقمية، والمجتمع المعرفي.
ليس قصدنا أنها تُحْتَضَرُ مُؤْذِنَةً بقرب الحتف، ودٌنُوِّ الأجل المحتوم، أجل الانقضاء والانقراض، والاندثار، والانعجان بالرَّميم والغبار.
دَعْنا من الذين يعتبرونها السادسةَ أو الخامسةَ عالميا في سُلَّم اللغات المطروقة المتداولة والتي يتكلمها جيش عَرَمْرَم من البشر، يزيد- في آخر إحصاء وتقدير- على 600 مليون شخص حول العالم. إذ لا يكفي مطروقيتها وجريانها على الألسن والتلفظ بها في الأندية والمنظمات، والمنتديات السياسية والاقتصادية، وضمن الخطابات الحكومية الرسمية بالأمم المتحدة أو بغيرها من التجمعات، والفضاءات الفارهة الواسعة التي تحضرها أمم، وتتابعها مجتمعات وشعوب. فالعبرة ليست بالخطب والكلام، وتوصيل الأفكار، والمواقف إلى الرأي الدولي العام. العبرة كل العبرة بما للغة من وجود لساني علمي علائقي واعتباري في البدء والختام. أي بما هي من حيث الفتح العلمي والتكنولوجي، ومن حيث علميتها في ذاتها، في تراكيبها، وبنيتها، ومنطق أركانها الإسنادية، ورؤيتها، ومطواعيتها، وتطويعها للحادث والطارئ، والمبتدع، والمستجد، والمفترض والمعتمد، ترجمة وتأصيلا وتأثيلا، وإبداعا واشتقاقا، وحضورا آنيا مستجيبا –على الفور- لأي داعٍاستدعاه الجهد البشري وتفتق عنه الخيال الإنساني، واجترحه الاكتشاف الآدمي.
ولئن كانت اللغة العربية قد لعبت دورا مشهودا في الأزمنة الخوالي، أزمنة العصر الوسيط، وما قبل العصر الوسيط، فلأن رَحى الترجمة لم تَفْتَرَّ عن الدوران، فاعلة ومنفعلة، مرفرفة بفعل الرياح اللواقح، مستضيفة ومستبطنة عجائبَ قوم، وشرائع أوطان، وفكر رواد، وفلسفة عباقرة، ومستوعبة مقوماتِ ذلك الفكر، وروحَه المتوهجةَ التي اشتبكت واندَغَمَت باللغة العطشى، اللغة المستقطبة. فإذا صاحب الدار حالٌّ ومحلولٌ، مقيم ومرتحل، ذاهب وآيب، وهو يعالج التراكيب تلو التراكيب. يُقَصْقِص أجنحة المفردات وزَعانِف الكَلِم لتستقبل الوافد الجديد، فاتحة له أذرع الأبنية والأفضية العاشقة.
إنه التفاعل الخلاّق الذي أوفى على المراد، ما يعني أنه جعل اللغة العربية لغة كوكبية معولمة، لغة علم ومعرفة وتعليم وتعلم، وتدين، وتقصيد، وتسييس، وتفنن. هذا من دون أن ننسى عاملا آخر ساهم بقسط وافر في تسييد اللغة العربية، وجعلها صاحبة الكلمة الأولى، والسلطة المعتبرة، والهيمنة المترامية، أَلاَ وهو الفتوحات الإسلامية، بما هي دخول وغزو لبلدان خارج مدار الجزيرة العربية، وما استتبع هذا الدخول من تلاقح، وتعلم وتحصيل، وأخذ وعطاء وإفادة، ورِفادة كان العرب بحاجة ماسة إليها إنْ على مستوى إرساء آليات، وركائز المؤسسات الإدارية، وإنْ على مستوى معرفة ميكانيزمات تشغيل الدواوين الكتابية والسياسية، أوْعلى صعيد الفكر الجديد، فكر تلك الأمم المَغْزوّة التي كان لها باعٌ في الحضارة، ومعرفة أكيدة راسخة بدواليب الحكم والدولة: ( الفرس ـ الرومان ـ البيزنطيون ـ المصريون.. إلخ ).
لقد كان لكل هذا، اليد في ما جرى، في ما عرفته اللغة العربية، واجتَرَحَتْه من أفانينَ، وأنماط، وأضْرُبٍ، ومستجدات تَخَلَّقتْ في رَحِمِها، واختلطت بدمها وروحها، منه اقتاتت واعْتاشتْ، فغدت ذات صولة، وأصبحت ذات مجد وسؤدد، وانتشار في العالمين.
أما اليوم – ما أقسى التذكير بواقع اليوم !. فالحال غيرالحال، تبدلت الأشياء، وتغيرت العلائق، وصارت الأمور على ما هي عليه، وسارت عكس عقرب الساعة العربي، وبندول الأماني الكسيحة المتصلبة.
إن تخلفنا الحضاري هو تخلف مركب، تخلف بنيوي، وبَدَهيٌّ أن يتسربَ الوَهَنُ العام إلى جسم اللغة بما هي وعاء وحامل ثقافة وتاريخ وهوية، وعلم وحضارة. وهو الوَهَنُ الملاحظ في لهاثنا الفكري، والمعرفي، والعلمي تحديدا للّحاق بأمم الغرب وأمريكا، وآسيا، عبثا؛ والسعي الحثيث إلى تقليص الفوارق والتباعد الثقافي والعلمي والتقني والرقمي، عبثا.
والسؤال هو: لماذا لم نقدر على اللحاق بالركب الأوروبي والأمريكي والأسيوي والإفريقي حتى؟. ذلك أن بعض الدول الإفريقية، شرعت تبني ذاتها، وتخرج من شرنقة التخلف والبَيَات، إلى الضوء، والتقدم، والنهوض العلمي والاقتصادي، لماذا لم تعد اللغة العربية إلى سابق عزها ومجدها؟.
وهل ما يَدَّعيه البعضُ منا، من كون العربية لاتزال قوية، بل أقوى مما كانت عليه من قَبْلُ، متَحَجِّجين بعدد الناطقين بها الذي يزداد ويتضخم، ويتورَّم، وبالملايين التي تقيم الصلاة بها !.؟.وقبل اليوم، في الزمن الإسلامي البعيد، عَدَّ المحافظون الإسلاميون أن العربية هي لغة القرآن، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل الجنة، وكلام أهل السماء. وبما أنها كذلك، فهي تَفْضُلُ جميع الألسن واللغات والعقول، والذهنيات، وتتبوأ القمةَ، فيما تنحط ألسنة الشعوب الأخرى، ومن ثَمَّ: آدابها، وثقافاتها، وعلومها، وأخلاقها. فكيف ـ إذاً ـ والحال هذه، أن ننتظر التقدم والمنافسة، والاحتكاك، لإغناء ذخيرة لغتنا، وتثقيفها علميا وبنيويا وتكنولوجيا بالأخذ والعطاء، والامتصاص والغداء؟. كيف لنا ذلك، وجيش من المتحجرين يرمون التحديث والتجديد والتليين، بالابتداع ( كل بدعة ضلالة )، والتخريب والعجمة والبلبلة؟
فهل ما يَدَّعونه، يقع على الحق، أم يجانب الصواب ويستمسك بحبل الريح؟.

إضــــاءة:

ــ تقرر من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1973، أن يكون يوم 18 دجنبر من كل سنة يوما عالميا للاحتفال بلغة الضاد: اللغة العربية الفصحى، واعتبارها لغة رسمية سادسة معتمدة في المنظمة المذكورة. وللتذكير: فقد تمَّ ذلك بمبادرة من بلادنا، والمملكة العربية السعودية.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 15/12/2023