أعيش كنهر وحيد

حلمُ الحياة 

الحياةُ حلم.. أو ما يشبهُ حلما.. أعودُ بذاكرتي إلى أواخر الثمانينيات، إلى الجبال الأولى والمرتفعات الخضراء التي شكَّلت وعيي بالأشياء والطبيعة، ولوَّنت خيالي بأقواس قزح وبالضباب المستنير، ما زال طعم نباتات تلك الأمكنة تحت لساني، للظلامِ رائحةٌ تشبه رائحة خبز العيد.. أعودُ لفتنة المكان الأَّول.. معافى من مرض الشِعر ولو لبضعة شهور.. في القلبِ حبٌّ.. وعشبٌ يحلمُ.. وندى يتكوَّر مثل فراشات الثلج.. وراء الغيمةِ المنحنية كامرأة ترفع دلو الماء من بئرِ الزمن شمسٌ حائرة في أواخر الخريفِ.. يا لها من صديقةٍ لا تخون، لا ظلالَ يمحوها النسيان في ذاكرةِ الطبيعةِ.. لا أفاعي تزغردُ في أساطير هذا المكان على حد ما قال المدهش حسين البرغوثي.. في البالِ خريطةٌ من نوَّار وأغنيةٌ وفي القلبِ سماواتٌ من زهر اللوز المشتعل بنار بيضاء.. صبيَّا بعد العاشرةِ بقليلٍ كنت.. مضمَّخا بضلالِ عشق المراهق.. وكان لديَّ ما يكفي من الوقت ليأخذني نشيد الأناشيد إلى بريَّة الحنين وجنَّة المرئيَّات.. كانَ جمال الأشياء فائضاً عن حاجته في ذلك الزمن المغسول بالأحلامِ الضالَّةِ الراكضةِ وراء معلَّقة امرئ القيسِ وغزلِ الجاهليِّين الحسِّي ونثر المهجريِّين ورومانسيتهم، في بريَّة الحنين تلك قلتُ أوَّل أبياتي الشعريَّة وخطوتُ خطوتي الأولى على طريق محفوفة بالكناية والمجازات وحوريات المعاني وظلال الكلام، أحنُّ لعبير الزعرور ولكلاب الصيدِ الراقصة في سيولِ الوديانِ الصغيرةِ.. أحنُّ لناياتِ الرعاةِ.. لألحانها العذبةِ المنبعثة من فجوة متخيَّلة في سهر أنثوي الأبعاد.. أحنُّ للحُبِّ الأوَّل.. لروائح الحبِّ الأوَّل تحديداً.. لأطيافه الملوَّنة.. لسهامه الخفيَّة.. لغيومهِ السابحةِ في سفوحِ القلبِ.. لوهجهِ الشفَّاف في المساءِ وهو ينسلُّ من قصيدةٍ عابرةٍ لشاعرٍ منسيٍّ أو نشوة مطويَّةٍ في ألف ليلةٍ وليلة، أحنُّ لحياة الرعاة.. للأشجار الشبيهة بقامات النساء الغجريَّات.. وللدروب التي تمتد من أوَّل القلب حتى آخر المحيطات.. لأعتابِ الجبال ومصاطبها ومغاور المطر الفضيِّ، أحنُّ إلى كلِّ شيء ولكن الوقت ضيِّق كقبلةٍ افتراضيةٍ بين حبيبين.. لا يتسعُّ لقيلولةٍ ما بينَ هديلين ولا لركض محموم خلف حوريات مجنَّحات يعدنَ بافتراش الربوات بالقبل الحرَّى.. ويذبن ويتلاشين كلَّما حاولَ خيالك الوصولَ إلى ممالكهنَّ العالية

ما يشبه علاقة غامضة

البارحة أضاء الفلورسين دمي، أصبحتُ قنديلا كبيراً من الفلوريسنت.. أو حبَّارا مائيا يضيء الليل.. كما يضيء الشاعر حديقة الهواجس بالحبر. كلُّ الذين يضيئهم الفلورسين يُغمى عليهم ويتقيأون ما غصَّوا به من ذكريات مرَّة.. في المرةَّ الأخيرة عندما أضاءني هذا السائل الغامض في الصيف لم أتذكَّر جيِّدا أنه أغميَ عليَّ كما البارحة.. فجأة تخيلت نفسي أمشي في غابة من شجر الحور.. متتبعا خطى عصافير مرحة.. تذكرَّتُ أشياء كثيرة.. درج بيت يكسوه العشب.. خلخال امرأة عبرت في حلمي.. سماء طبشورية.. نايات مبعثرة.. دواوين باللهجة الفلسطينية  المحكية.. طريقي الصباحي.. قميصي المدرسي الأزرق وصديقة شقراء منذ أيام الطفولة.. كنتُ أسمِّيها سيدَّة الزرقة وأعدها بقصائد لم أكتبها وبمحار كثير.. ما علاقة الفلورسين بالشقرة؟ ربَّما علاقة غامضة.. دمي لا يحبُّ الفلورسين.. لا يطيق طعم هذه المادة البرتقالية الصفراء الوردية.. لا يتحملها.. هل أرمي بكوابيس كافكا الملونة في البحر وأنا أتجوَّلُ على ساحلهِ الصخري؟

كحل ناصع

أختارهنَّ بذوق عاشقٍ، كلهنَّ يشبهنَ إنانا إلهة السومريين القدامى المرتبطة بالحب والجمال والجنس والرغبة والخصوبة، أفصِّل على مقاسات أجسادهنَّ قصائد رشيقة.. ضيقة ولكنها تتسعُّ لعناقيدهنَّ الفضيَّة الفجَّة.. كلهنَّ يرقصن في ليالي وحدتي ويثملن من رشفات مجازي.. وقبل الفجر بقليل ينسللنَ كالأشباح الضوئية من أصابع رغبتي ويرحلنَ، أقتفي أثر ناياتهنَّ على الصخر.. أفركُ ذراتِ عطرهنَّ على العشب، في ظلال شجر الأكاليبتوس الذي تتخللَّه شمس الضحى الصيفيَّة، كلَّما أفكِّرُ بقصيدة تبزغُ شمسُ الضحى الفجرية تلك من وراء الأكاليبتوس في سهل أخضر ما، أسمِّيهِ فردوسيَ الضائع.. ترابُ ذلك السهل المحاذي لسفوح الكرمل شبيه بكحل نساء غريبات، كحل ناصع معجونٌ بحنَّاء طفولتي وماء الحُبِّ الأوَّل.


الكاتب : نمر سعدي (فلسطين)

  

بتاريخ : 26/02/2021