أفلام الأرجنيني غاسبار نوي.. التحرر المطلق من كل مألوف

يعتبر الأرجنتيني غاسبار نوي (Gaspar Noé)، من مواليد 1963، من المخرجين المعاصرين الأشد استفزازًا وإثارة للدهشة والتساؤل وحتى للرفض والنفور أحيانًا. يمثل كل واحد من أفلامه تجربة غنيّة فريدة، وصادمة بالنسبة لبعض المشاهدين. ذلك ليس لأنه يحتاج جمهورًا نخبويًا لفهمه، بل العكس، يحتاج أولئك الذين يرجعون إلى ذاتهم غير المتجمّلة بأي شكل من أشكال التهذيب والضوابط.
اشتُهر نوي كالنار بعد فيلمه القصير Sodomites عام 1998 (السدوميّون نسبة لمدينة أو جبل سدوم، وهي بلد قوم لوط، ويستخدم المصطلح للإشارة إلى مثليّ الجنس من الرجال) ويصنّف هذا الفيلم كبورنوغرافيا صرفة. لكن، من المؤكد أن هذا التصنيف ليس هو ما جعل اسم المخرج ساطعًا، وإنما رؤيته الإخراجية الخارجة عن المألوف.
في فيلمه Irreversible(إنتاج عام 2002) بطولة مونيكا بيلوتشي وفانسان كاسل، تظهر فيه بيلوتشي في مشهد اغتصاب استفزازي خانق، يعتبر أطول مشهد تمثيل للاغتصاب في تاريخ السينما (حوالي تسع دقائق) وهنا مرّة أخرى قدّم غاسبار نوي رؤية إخراجية بارعة، قد لا تكون ثورية، فهي تعتمد مبدأ العودة بالزمن تدريجيًا، لكنها متوافقة بأجمل صورة مع قصّة الفيلم. والفيلم بقضيّته وجمالياته بنية يصعب حصرها.
وربما كان فيلم Love (إنتاج عام 2015) قد حقق شهرة أوسع حيث نُظر إليه على أنه قد تجاوز الحدود بسلسلة من المشاهد «البورنوغرافية»، خصوصًا بمشهده الرئيسي عن جنس ثلاثي plan à trois بتصوير واقعي صريح. وما كان صادمًا في تقييم بعض النقّاد، رغم تحرّرهم الفكري بطبيعة الحال، أن تكون هذه البورنوغرافيا متاحة للعرض في صالات السينما. ومن المعروف أن المحتوى الإشكالي هو الأكثر قابلية للانتشار والشهرة، حتى في حالات المنتج الأقل جدارة جمالية. لكن بغض النظر عن هذا الاستفزاز، فإن فيلم Love ليس الوحيد المعبّر عن براعة المخرج من ناحية البناء الفني، والقصد هنا ما يتعلق خصوصًا بالصورة والصوت.
هناك أيضًا عنصر ملفت لدى نوي وهو العنوان. وهذا الاهتمام يشير إلى البعد الفلسفي البسيكولوجي المؤثر في صناعة أفلامه، آخرها كان فيلم Climax عام 2018. يشير مصطلح Climax إلى نقطة ذروة قصوى، وليست بالضرورة مرتبطة بحالة جنسية كما يمكن أن يوحي به مجرّد اسم غاسبار نوي. المصطلح يعبّر عن نقطة ذروة تم الوصول إليها بالتدريج: عبر سلسلة من التصعيدات المتعاقبة انتهت إلى مرحلة قصوى من التوتر المَرَضيّ. في فيلم نوي الذي يحمل عنوان Climax يخضع المشاهد لهذا التسلسل التصاعدي المُرهق. يصوّر الفيلم ليلة واحدة فقط، أمسية يجتمع فيها مجموعة من الراقصين مع مديرتهم، دون حبكة معقدة أو سردية أدبية، إنما يكمن التميّز في الرؤية الفنية. مع نهاية الفيلم سيكون المشاهد في حالة اضطراب حسيّ ونفسي: اضطراب بصري، حرفيًا، وذلك بسبب الإضاءة الشائكة المشحونة تعبيريًا والمتعددة المصادر والألوان، واضطراب سمعي بسبب المادة الصوتيّة المؤرّقة، ذلك أن الموسيقى التي من المفترض أن تكون ممتعة وراقصة حماسية تترافق مع تحشيد لترقّب الأحداث المتتالية. تبدأ بتناول جميع الراقصين مادة مهلوسة دون أن يكونوا مدركين، ولاحقاً سنعلم بوجود طفل، هو ابن المضيفة، يكون حاضرًا وجزءًا من الحدث، نراه على المحكّ من الناحية النفسية والجسدية والعقلية في آن معًا. لكن المخرج يتيح بذكاء ولمرّة واحدة فقط خلال الفيلم (مدته ساعة وسبع وثلاثون دقيقة) استراحة بصرية عبر مشهد أفقي Vue de haut (أو منظور عين الطائر) يصوّر فيه تناوب الشخصيات على دائرة الرقص لتكون فرصتنا الوحيدة للشعور بالسيطرة على المشهد العام.
إزاء هذه الموهبة الطموحة المتشعبة بروابطها الفكرية، يبدو من الإجحاف اختصار أفلام نوي في صورة أفلام بورنوغرافية أو استفزازية أو عنيفة لمجرّد أن موضوعاتها إشكالية وغير مألوفة، ووضع كل ما فيها من إبداع في رتبة ثانية، هو الرأي الذي يميل إليه العديد من المتخصصين والمشاهدين، معتبرين أن شهرته تكرّست بسبب هذه النزعات فقط، إنما ينتمي نوي في تعبيره الإبداعي إلى التحرر المطلق من كل مألوف.


الكاتب : نور عسلية

  

بتاريخ : 17/10/2020