أما آن لنا..؟!

 

مشيت في الشارع، أفضل أن أسير فيه وحيدا، فأنظر من نوافذ الصمت إلى الأعماق. كان الفراغ يعزف ألحانه، والأشجار ترقص على نغمات الغياب، ومطر خجول يحاول تسجيل حضوره. كنتِ غائبة وحاضرة، مشرقة وآفلة، كنتِ صحراء قاحلة بلا واحات، وسهلا خصبا مخضرا تخترقه المياه. ظللتُ أسير، فاشتقتُ، واشتقتُ كما لم أشتق أبدا، وظلت نوافذ الصمت مشرعة، ونظراتي تسافر في الأعماق.
ماؤكِ لوَّح باليد مودعا، ثم تبخر، كأسي ظمآنة، منذ عقود كالجبال، لم تشرب.
ظللتُ أنظر، ومضيتُ في النظر بعيدا حتى ذهب بصري، وصرتُ أعمى، جالستُ أبا العلاء وبشار وبورخيس وحسين، وتهتُ في مناطق الشعر والنثر، واقتفيتُ خطوات العميان، لكنهم انقلبوا علي، وطردوني حين علموا بهمي، الذي وإن قصر، يبقى ذا شأن عظيم؛ رصاصة تصيب الهدف أسرع من أي كلام، قاف ثائرة على القاعدة، وصاد عصية عن كل صيد.
تهتُ في ظلامي، ولم أعد قادرا على المسير، فهبَّ عطركِ، واتخذتُه دليلا، قادني إلى المقبرة، تجاوزت المدرسة والغابة والديار، ودخلتها. القبور تصطف ذات اليمين وذات اليسار، لكني قصدتُ قبر جدتي مباشرة، منذ عقود لم أزره، كدتُ أنساه، لكن العطر قادني إليه. حييتُ جدتي، وجلستُ. أنا الآن أعمى، وهي كانت عمياء. أذكر جيدا ذلك الصباح الشتوي البعيد، الذي لفه ضباب كثيف، واجتاحته قسوة صماء، رمتْ جدتي خارج الدفء، فترجتني أن أقودها، فهرعتُ، وأمسكتُ بيدها، وسرنا نشق الضباب، لكن أمرا قاسيا سقط على رأسي، حال بيننا، مرغما تخليتُ عنها، وتركتُها مفقودة في الظلام. أحسستُ بندم مضاعف أمام قبرها، لكنها خاطبتني “لا عليكَ يا ابني، رغم العمى والضباب، وصلتُ..”. أمام قبرها، عدتُ من جديد، طفلا، غنتْ لي، كما كانت تفعل سابقا، عن النهر الذي ظل يعزفه خريره على مقربة من بيتنا القديم، وعن اللقالق التي ترحل، وتعود، وعن الغابة والخرفان والذئاب، ثم غمرتني بحكاياتها عن الغولة واليتيمات السبع، وعن الحسناء التي قهرت الفرسان، وعن عائشة التي ملكت النهر وضفافه… أمام قبرها، اجتمعت فصول، وعادت أيام، وحضرت وجوه، تسلقت جبال الآلام العالية، واختنقتُ بروائح الأحزان السابقة واللاحقة، فنهضتُ هاربا، خرجت من المقبرة مهرولا، ومضيت بين أشجار السؤال، أطرق الأبواب، وأردد لازمتي: “أما آن لنا..؟!”.
قادني عطرك على صهوة الحلم، فولجتُ الحي، وتهتُ في ألوان الغياب، ولاحظتُ العناوين تهرب مني. استوقفني صبية يلعبون، استنشقتُ رائحة طفل، كنتُه، بينهم، توقفتُ طويلا، فانتبه إلي، كف عن اللعب، سرتُ نحوه، وسار نحوي، ثم تعانقنا. سأله الصبية “من يكون هذا الأعمى؟” فأجاب “إنه أنا حين صرت كهلا..” فقهقهوا، ثم تفرقوا..
أمطرني الطفل بوابل من الأسئلة الحارقة، سألني عن دفتر الأحلام، قلتُ “احترق..”، سألني عن الجدة، قلتُ “ماتت..”، سألني عن الشجرة، قلتُ “بيعتْ..”. ظل يسأل، لكني في لحظة ما، توقفت عن الجواب، لأني لم أعد قادرا على ذلك. قرأ الطفل قلة حيلتي، وهوان قدرتي، فتركني، وعاد إلى ألعابه، فواصلتُ مسيري يقودني عطركِ، وتلازمني اللازمة المعلومة “أما آن لنا..؟!”.
وصلتُ إلى السوق، ليس لدي ما أبيع، وليست لي رغبة في الشراء، ومع ذلك ولجتُ الجلبة، وسرتُ أتوكأ عصا جنوني، وأتزود بزاد تيهي، وأحاول إطفاء عطشي بماء سؤالي. بدوتُ للباعة والمشترين.. نقطة بيضاء في كتاب مملوء، ثم تحولتُ إلى علامة استفهام كبيرة؛ رجل أعمى يتجول في السوق دون أن يقوده أحد، لا هو يشتري، ولا هو يبيع، لا هو يتسول، ولا هو يتصدق..، لم يعلموا أني كنت ممتطيا صهوة هواكِ، ويقودني عطركِ، ولم يعلموا أن بضاعتي، في السوق، مفقودة، وأن فاكهتي لا تُباع، ولا تُشترى. ظللت تائها لا أبالي بالذاهبين والقادمين، ولا أهتم بالصاعدين والنازلين، تمسكت بصمتي طويلا حتى استوقفني أحدهم، وسألني، وقد بدت له حيرتي منقوشة على وجهي، إن كنتُ في حاجة إلى مساعدة، فرجوتُه أن يساعدني على الخروج، فمد لي يد العون، وغادرت مسرعا بعد أن خنقتني نيران السوق.
للتو، ولجتُ المدرسة، آه منها، ومن حالها..! لم أدخل إليها منذ أربعين سنة، وحين دخلتُها، وجدتُها حزينة باكية، وفارغة من الداخل والخارج، الكتب ميتة يغطيها التراب، واللعب مفقود، والغناء ممنوع، والأناشيد طريحة الفراش. ضاق بي المقام، وازدادت السحب كثافة في صدري. قادني عطركِ إلى مقعد مهمل وسط الساحة، نفضتُ عنه غبار النسيان، وجلستُ، ظللتُ سجين صمتي، ولعبة في مهب زفراتي، وفجأة لاح طيفكِ، ثم رسمتِ حضورا كاملا، جئتِ على صهوة العشق، تلبسين الألوان كلها، وترددين أناشيد الفصول جميعها. حين حضرتِ؛ عاد إليّ بصري، فنظرتُ إلى المدرسة وبكيتُ، ونظرتُ إليك وضحكتُ، هطل مطر، وأشرقت شمس، اشتدت جراح، شُيعتْ موتى، وزغردتْ صرخات مواليد، مضيتُ في النظر إليك بعيدا، فرأيتك لوحة تغني في أرجائك كل الفصول؛ حفيف خريف، وخضرة ربيع، مطر شتاء، وحر صيف، هكذا بدوتِ، ثم تحولتِ إلى نافذة، انفتحتْ أمامي، فشاهدتُ أعيادا تقترب من السطوع، صرختُ عاليا، أناديها، لكن سحبا كثيفة، شنتْ عليها هجوما كاسحا، فتلقيتُ صفعة جديدة، ورأيتكِ تنسحبين، فاحترقت اللوحة، وأغلقت النافذة، ووجدتُ نفسي، مرة أخرى، وحيدا وسط دمار المدرسة، غادرتها بين رياح عاتية، ثم ارتميتُ، من جديد. في ظلمة الشارع، فتفاجأت بمسيرة حاشدة، يلبس السائرون فيها ألوانا مختلفة، لكنهم يحملون يافطة واحدة مكتوب عليها بخط عريض: “أما آن لنا..؟!”.


الكاتب : محمد الشايب

  

بتاريخ : 26/02/2021