لنتحد أو لنمت
كيف يمكن تمثل قصة العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية كما تحققت في التاريخ المعاصر والحديث؟. ما هي أبعادها سياسيا وحضاريا وأمنيا وتجاريا؟. لماذا بقيت حقيقة العلاقات بين البلدين سجينة كليشهيات عناوين كبرى، دون الغوص في تحليل المعنى التاريخي لتلك العلاقة النوعية والخاصة؟. أين يكمن السر في كل الرسوخ الإستراتيجي للعلاقة بين واشنطن والرباط؟. وما الذي يشكله «لوبي التاريخ» في تجسير تلك العلاقة بين الدولتين؟. ثم ما الأهمية التي للجغرافية في العلاقة بين طنجة وبوسطن، وبين الدار البيضاء ونيويورك، وبين الصويرة وفلوريدا؟.
إنها بعض من الأسئلة التي تحاول هذه المادة الرمضانية أن تجيب عنها، من حيث هي تحاول رسم خط تاريخي لميلاد وتطور العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية. نعم، هي تستحضر أكيد، أن عين درس التاريخ المغربي ظلت دوما مصوبة باتجاه الشمال المتوسطي في أبعاده الإسبانية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وهي تحاول أن تنزاح قليلا صوب غرب المغرب باتجاه عمقه الأطلسي، من خلال مغامرة نبش الغبار عن ذاكرة العلاقات بيننا وبين بلاد «العم سام». ففي ذلك تفسير آخر للكثير من القصة المغربية (الدولة والمجتمع) في التاريخ الحديث والمعاصر وضمن مهرجان اصطخاب المصالح بين القوى العالمية، التي جغرافيته مجال من مجالات تقاطع تلك المصالح.
شكلت الحرب البريطانية ضد كل من فرنسا وإسبانيا بأمريكا الشمالية، ما بين 1756 و 1763 (حرب السبع سنوات)، البداية لبروز ما يمكن وصفه ب «التيار القومي الأمريكي»، بعد أن قررت لندن تعويض كلفة الحرب تلك التي أنهكت خزينتها العامة، من خلال قرارات متعددة من ضمنها فرض «ضريبة تداعيات الحرب» على ساكنة أمريكا الشمالية، في المرحلة الممتدة ما بين 1763 و 1773، وهي القرارات التي رفضتها النخب التجارية والفلاحية هناك، استنادا على الشعار الذي رفع حينها والذي يقول «لا ضرائب في غياب التمثيلية»، في إحالة على عدم وجود أي نائب أو ممثل لساكنة ولايات أمريكا الشمالية بمجلس العموم البريطاني بالعاصمة لندن، والتي كانت تتشكل من ولايات: جورجيا، كارولينا الجنوبية، كارولينا الشمالية، فرجينيا، ميريلاند، ديلاوير، نيودجيرزي، بنسيلفانيا، كونتيكي، روش أيلاند، ماساشوسيتس، نيوهامشر ونيويورك (هذه الولايات 13 هي التي اعترفت المملكة المغربية باستقلالها كدولة اتحاد الولايات الأمريكية سنة 1777).
دون إغفال تداعيات غضب المهاجرين الأروبيين بتلك الولايات الأمريكية، سنوات قبل ذلك، من نتائج هجمات قراصنة المحيط الأطلسي على امتداد شواطئهم، الذين كانوا في غالبيتهم من الإسبان والبرتغاليين والهولنديين، وقراصنة البحر الأبيض المتوسط وشرق المحيط الأطلسي الشمالي، الذين كان غالبيتهم من المغاربة والجزائريين والليبيين. حيث طالبوا عبر مراسلات عدة موجهة إلى الحكومة البريطانية حمايتهم من أولئك القراصنة، دون أن تستجيب هي لمطلبهم الملح ذاك. وهي المطالب التي كانت تعرضها بتواتر جريدة «نيو أنجلاند غارانت» التي كانت تصدر في البداية بمدينة بوسطن، باعتبارها لسان حال البورجوازية التجارية الأمريكية، وشكلت أعمدتها مجالا لبروز كتابات عدد من المحامين ورجال المال والصحفيين الشباب حينها، الذين سيشكلون نخبة مطلب الإستقلال عن التاج البريطاني، ومنهم من أصبح رئيسا للدولة الجديدة سنوات قليلة بعد ذلك مثل جورج واشنطن، جون آدامز وتوماس جيفرسون. واعتبارا للأثر الذي بدأت تخلقه هذه الجريدة في الولايات الشرقية الأمريكية، قررت لندن اعتقال مديرها جيمس فرانكلين ومنعه من ممارسة الصحافة والكتابة نهائيا، فانتقل بالجريدة بعد ذلك شقيقه بنيامين فرانكلين إلى مدينة فيلاديلفيا وهناك غير اسمها وأصبحت جريدة «بينسلفانيا غازيت» التي صنفت تحريريا على أنها تنتمي لتيار البورجوازية الإنجليزية التقدمية (الجبهة السياسية التي تبلور منها الحزب العمالي البريطاني في ما بعد). لتبرز بعدها بمدينة نيويورك، ابتداء من سنة 1733، جريدة «نيويورك ويكلي دجورنال» التي لم تتردد في وصف التواجد البريطاني (العسكري والإداري) ب «الإستعمار». وأنه بسبب المقالات اللاذعة لرئيس تحريرها جون بيتر تسينغر قررت السلطات البريطانية اعتقاله، وبدأ يسرب من داخل زنزانته مقالات تحت عنوان «رسائل كماشة السجن»، حولته إلى بطل عند الرأي العام الأمريكي الوليد، إلى درجة أن يوم محاكمته قد تحول إلى مناسبة لمظاهرة ضخمة شارك فيها غالبية سكان المدينة أمام بناية المحكمة، فقرر القاضي البريطاني إطلاق سراحه، مما شكل أول نصر سياسي للبورجوازية الأمريكية الوليدة تلك حينها. والأهم من ذلك ميلاد جنيني لفكر قومي أمريكي محلي.
كان الطموح الذي يحرك تلك البورجوازية الأمريكية ما بين سنوات 1730 و 1776، بشقيها الفلاحي في الجنوب والتجاري والصناعي في الشمال، هو حيازة استقلال القرار الإقتصادي والمالي لهم عن لندن، وأن يمتلكوا حرية التجارة مع مختلف دول العالم. بالتالي فإن الصراع حينها قد أصبح بين رأسمالين غربيين معا، واحد جديد أمريكي والآخر رائد وسيد البحار هو الرأسمال البريطاني، وكانت فرنسا تلعب على التناقضات بين الطرفين. ولعل من مجالات بروز ذلك الصراع ما ستنشره صحيفة «بينسلفانيا غازيت» يوم 9 ماي 1754، على صدر صفحتها الأولى بتوقيع من بنيامين فرانكلين (الذي سيصبح في ما بعد أول سفير لواشنطن بباريس، والذي سيلعب أيضا دورا محوريا في توقيع معاهدة السلم والصداقة بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية سنة 1786)، من رسم كاريكاتوري يعرض خريطة أراضي أمريكا مجزأة إلى ولايات مفصولة عن بعضها البعض ووضع له عنوانا يقول: «لنتحد أو لنمت». وهو الرسم الذي ستعيد نشره كل الصحف الصادرة بمختلف مدن تلك الولايات الأمريكية، ليصبح ابتداء من صيف 1754 الشعار السياسي لنخبة القومية الأمريكية.
كان رد بريطانيا على تزايد ذلك المد القومي الأمريكي سنة 1765، هو إصدار قوانين زجرية تشديدية بالتواتر على مدى عشر سنوات، من بينها قانون جديد للضرائب والرسوم الجمركية يهم سلع القهوة والورق والنبيذ والزجاج والشاي واللحوم والخشب، الذي كان يعتبرها كما لو أنها مستوردة رغم أنها تنتج داخل الولايات الأمريكية. ثم القانون الزجري الخاص بالرقابة على النشر والصحافة الذي عرف بـ «قانون الخاتم»، حيث ممنوع طبع أي كتاب أو صحيفة ما لم يكن ذلك على ورق مختوم من قبل تلك السلطات البريطانية، وأن احتكار ذلك الورق قد جعل ثمنه عاليا في السوق.
بالتالي ليس مستغربا أن تكون الشرارة التي ستطلق «حرب الإستقلال» سنة 1773، قد انطلقت من مقر جريدة «بوسطن غازيت»، حين عقد اجتماع بداخلها لنخبة من بورجوازية ولاية ماساشوسيتس، الذين قرروا تكليف جمع منهم بالهجوم على السفن البريطانية الراسية بميناء بوسطن المحملة بالشاي والتي أصبحت تجارته حكرا عليها دون غيرها، متنكرين في زي هنود حمر، ورموا حمولتها في مياه المحيط. فكان ذلك ما أصبح يعرف في الأدبيات التاريخية والسياسية الأمريكية ب «حفلة شاي بوسطن» أو «حادث الشاي ببوسطن». ولن تتطور الأمور سوى سنتين بعد ذلك، حين سينشئ الجنرال الأمريكي توماس كاج جيشا مسلحا من حوالي 7 آلاف محارب، جزء كبير منهم من السود المحررين بولاية ماساشوسيتس، واعتبرت معركة «لينسينفتن» بداية حرب الإستقلال الأمريكية، التي ستؤدي إلى نوع من تدويل الحرب بعد تدخل قوات من كندا وقوات فرنسية وتوزع جزء من الداخل الأمريكي بين الموالين للتاج البريطاني وبين المدافعين عن الإستقلال، الذين سيدخلون في مواجهات مسلحة عنيفة بشكل متواتر حسب المناطق والجهات. مثلما بدأ يتشكل تياران سياسيان أمريكيان هما التيار المحافظ اليميني بزعامة جورج واشنطن وألكسندر هاميلتون، وتيار ليبرالي ديموقراطي بزعامة توماس جيفرسون، جون آدامز، بنيامين فرانكلين وتوماس بين. وتعتبر الجريدة التي كان يصدرها هذا الأخير (توماس بين)، واسمها «ماساشوسيتس سباي» الواسعة الإنتشار حينها بالمدن الشرقية للولايات الأمريكية، بنسب مبيعات تتجاوز 3500 نسخة يوميا، أول منشور صحفي يطلق عبارة «الأمريكيين» بمعنى الهوية القومية وبمعنى الشعب والأمة الواحدة.
كانت أمريكا الجديدة تلك إذن تعيش تحديات شرنقة التحرر من التبعية للتاج البريطاني، وتطورت الأمور منذ العقد الثالث من القرن 18، بهذا التدافع العنيف أحيانا أو السلمي أحيانا أخرى، حتى جاءت لحظة الحسم العسكرية ما بين سنوات 1775 و 1783. وأنه بالتوازي مع اندلاع حرب الإستقلال تلك، شرعت السفن التجارية الأمريكية تجوب المحيط الأطلسي باتجاه القارة الأروبية والقارة الإفريقية والبحر الأبيض المتوسط وأمريكا الجنوبية. ولقد كانت تلك السفن موزعة بين المنتمين لتيار التحرير وبين المنتمين للتبعية إلى التاج البريطاني، واختار المغرب بإصداره لمرسوم 20 دجنبر 1777، المنظم للتجارة مع الدول الأجنبية بالموانئ المغربية، التعامل مع السفن التجارية لتيار التحرير، اعترافا منه بتلك الولايات 13 الأمريكية كدولة، حتى وإن لم تعترف بها بعد القوى الكبرى الأروبية المتحكمة في النظام العالمي حينها، في مقدمتها بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وهولندة ومملكة النمسا. فشكل ذلك الإعتراف، الذي تم بشكل إرادي من السلطة المغربية، ضمن سياقات التحولات الكبرى للنظام العالمي للقرن 18 وامتداداته حتى القرن 19، سابقة في السياسة الدولية حينذاك، كان لها ما بعدها، خاصة على مستوى اشتداد الطموح الأروبي (الفرنسي والبريطاني والألماني والإسباني) لوضع اليد على الجغرافية المغربية والضغط عليه وتطويقه وفرض أشكال تعاون تجارية معه عبر اتفاقيات متعددة، ضمن تحول عالمي لميلاد منظومة الإستعمار.
في الحلقة القادمة:
كيف كان مغرب نهاية القرن 18؟