أنا كابتن» للمخرج الإيطالي ماثيو جاروني.. ملحمة معاصرة لعابري الصحراء !

نال تصفيقا طويلا من جمهور المهرجان الدولي‮ ‬
للفيلم بمراكش

 

يكشف لنا‮ ‬فيلم‮ “‬أنا قبطان‮” ‬Io Capitano‮ (‬أو‮ “‬أنا قائد السفينة‮”) ‬للمخرج الإيطالي‮ ‬ماثيو جاروني،‮ ‬في‮ ‬أجواء ملحمية،‮ ‬مسار اللقاء الكبير بجهنم التي‮ ‬تعترض الأفارقة الذين‮ ‬يختارون الهجرة إلى أوروبا،‮ ‬وذلك بتبني‮ ‬وجهة نظر شابين قاصرين لا‮ ‬يتجاوز عمرهما ستة عشرة سنة‮: ‬سيدو وموسى‮ (‬سيدو سار ومصطفى فال‮) ‬اللذين‮ ‬يغادران داكار دون علم ذويهما لتحقيق أحلامهما في‮ ‬حياة كريمة بعيدا عن الفقر،‮ ‬وبعيدا عن انسداد الأفق السينغالي‮. ‬
أحلام صريحة وغير مدروسة تراود الشابين على نحو ساذج في‮ ‬أن‮ ‬يصبح أحدهما نجم راب شهير،‮ ‬وأن‮ ‬يكون لديه ملايين المعجبين الأوروبيين،‮ ‬وأن‮ ‬يجني‮ ‬الكثير من المال‮. ‬فالمال هو العنوان الكبير للنجاح،‮ ‬وعبور الصحراء هو الصراط الذي‮ ‬سنتهي‮ ‬بهما إلى الجنة‮. ‬
لا شيء‮ ‬يوجد هنا في‮ ‬دكار إلا التكرار والبؤس،‮ ‬وكل شيء‮ ‬يوجد هناك في‮ ‬أوروبا،‮ ‬رغم تجذيرات الحداد الذي‮ ‬كشف أمامهما الوجه البشع لـ”إلدورادو التي‮ ‬يحلمان بالوصول إليها‮ (‬برد،‮ ‬مشردون،‮ ‬موتى،‮ ‬بؤس‮). ‬غير أن الوصول‮ ‬يعني‮ ‬الطريق،‮ ‬والطريق في‮ ‬هذا الفيلم الملحمي‮ ‬تعني‮ ‬الدخول إلى المتاهة بكل مفاجآتها وآلامها،‮ ‬إذ سيتعين على الشابين،‮ ‬أولا،‮ ‬أن‮ ‬يشتغلا ستة أشهر في‮ ‬مهن شاقة لتأمين ثمن الرحلة،‮ ‬قبل أن‮ ‬يمرا بمحن مرعبة،‮ ‬ويواجها الجوع والعطش والتخلي‮ ‬والاختطاف والتعذيب في‮ ‬الصحراء الممتدة التي‮ ‬يبدو ألا آخر لها إلى أن‮ ‬يصلا إلى طرابلس،‮ ‬المدينة التي‮ ‬ستقدمهما إلى البحر‮.‬
عصابات وإرهابيون وقطاع طرق ورمال وعصابات الاتجار في‮ ‬البشر،‮ ‬وفي‮ ‬النهاية البحر المتوسط على سفينة تضج بالمهاجرين،‮ ‬من كل الأعمار والفئات،‮ ‬تلك هي‮ ‬الاختبارات الرهيبة التي‮ ‬كان على‮ “‬الكابتن‮” ‬سيدو مواجهتها‮ ‬لإتمام العبور الجهنمي،‮ ‬من الغرب إلى الشرق،‮ ‬للوصول إلى سواحل صقلية الإيطالية،‮ ‬بوابة كل الاحتمالات‮.‬
في‮ ‬هذا الفيلم قدم لنا ماثيو جاروني،‮ ‬أولا،‮ ‬بحس لطيف وعنيف،‮ ‬حكاية تمهيدية للتراجيديا التي‮ ‬يعيشها المهاجرون قبل أن‮ ‬يطرقوا أبواب أوروبا‮. ‬إنها ليست حكاية عن الهجرة‮ ‬غير الشرعية التي‮ ‬تعاني‮ ‬منها أوروبا،‮ ‬بل عن حلم لن‮ ‬يتحقق إلا بالخضوع لمجموعة من الاختبارات القاتلة‮: (‬الجوع،‮ ‬العطش،‮ ‬الابتزاز،‮ ‬التعذيب،‮ ‬العبودية‮..).‬
إنها حكاية خام وموثقة لفيلم واقعي‮ ‬ورومانسي‮ ‬في‮ ‬الوقت نفسه،‮ ‬مستوحى من شهادات وقصص واقعية‮. ‬حيث‮ ‬يقترب الفيلم من‮ “‬الوثائقي‮” ‬في‮ ‬كثير من الأحيان،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬منحه قوة ملحمية كبرى‮. ‬ألا تميل كلّ‮ ‬أفلام التّخييل الكبرى نحو الوثائقي‮ ‬نزعة الوثائقيات إلى التّخييل،‮ ‬كما‮ ‬يقول جان لوك‮ ‬غودار؟ أليس هذا ما نجح فيه جاروني‮ ‬حين جعل حكايته المبتكرة تجد بقوة السرد بعدها الوثائقي‮ ‬في‮ ‬الطّريق؟
صحيح أننا أمام بناء حكائي‮ ‬تقليدي،‮ ‬إذ تنمو الحكاية على نحو تدريجي،‮ ‬ويتفرع عن الرغبة الحالمة في‮ ‬الرحيل‮ ‬عدد من المشاكل الثّانوية التي‮ ‬تجسد أزمة سيدو‮ (‬الراغب في‮ ‬أن‮ ‬يرحل عن بلاده ليحوز اعترافا أوروبيا بموهبته الموسيقية‮). ‬حيث‮ ‬يكشف سيدو عن عالمه الباطني‮ ‬وانشطاراته الذاتية ومخاوفه العاطفية والوجودية،‮ ‬فيعيد النّظر في‮ ‬علاقته بأسرته وفي‮ ‬موقفه من وضعه الاجتماعي،‮ ‬ليصل إلى الانعطاف المركزي‮ ‬الذي‮ ‬يجسده الاقتناع بالرحيل واستحالة العودة إلى الخلف،‮ ‬والسعي‮ ‬بوعي‮ ‬وإدراك إلى تحقيق الهدف،‮ ‬ثم اتخاذ القرارات واختيار المواقف والانخراط في‮ ‬تلك اللّحظة القصوى من التّوتر التي‮ ‬نسميها المواجهة‮.. ‬مواجهة جهنم بكل تفاصيلها‮. ‬وأخيرا،‮ ‬الانفتاح على الحل بالوصول إلى الوجهة،‮ ‬رغم أن نهاية الفيلم ظلت مفتوحة على جميع الاحتمالات‮. ‬غير أن الجانب السحري‮ ‬في‮ ‬الفيلم‮ ‬يظل مع ذلك هو ذلك التمازج الحكائي‮ ‬بين الواقع والخيال،‮ ‬بين الواقعي‮ ‬والسحري‮ ‬أو الحلمي،‮ ‬بين الثابت والمتحول،‮ ‬بين الهنا وهناك‮. ‬فالسرد‮ ‬ينمو بطريقة خطية،‮ ‬حيث مر الشابان عبر مالي‮ ‬والنيجر ثم عبر الصحراء الكبرى‮. ‬ولقد أفلح مدير التصوير باولو كارنيرا،‮ ‬في‮ ‬القيام بعمل رائع في‮ ‬تصوير المهربين وهم‮ ‬يركضون بأقصى سرعة بين الكثبان،‮ ‬ومن ثم صف المهاجرين وتفتيشهم بطريقة مهينة وحاطة بالكرامة الإنسانية،‮ ‬كما أفلح في‮ ‬نقل وحشية الشرطة الليبية،‮ ‬وفي‮ ‬تصوير وحشية مركز احتجاز المهاجرين حسب الجنسية وتعذيبهم حتى‮ ‬يتصلوا بعائلاتهم لطلب الفدية وشراء حريتهم‮. ‬
لقد كتب جاروني‮ ‬السيناريو مع ثلاثة إيطاليين،‮ ‬ماسيمو تشيشيريني،‮ ‬ماسيمو جاوديوسو وأندريا تاغليافيري،‮ ‬لكنه اعتمد بشكل كبير على العديد من الأفارقة الذين أخبروه عن رحلتهم،‮ ‬ولا سيما كواسي‮ ‬بلي‮ ‬أداما مامادو،‮ ‬الشاب الإيفواري‮ ‬الذي‮ ‬فر هربًا من الحرب التي‮ ‬مزقت بلاده حتى عام‮ ‬2011،‮ ‬ويعمل اليوم وسيطا بين الثقافات‮ (‬يتحدث‮ ‬13‮ ‬لغة‮) ‬في‮ ‬كاسيرتا‮. ‬فجاروني‮ ‬أراد في‮ ‬هذا الفيلم،‮ ‬كما صرح بذلك،‮ ‬تبني‮ ‬وجهة نظر المهاجرين بكاميرته لخلق رؤية معاكسة لتلك التي‮ ‬اعتاد الغربيون رؤيتها‮. ‬وهنا‮ ‬يتخلى جاروني‮ ‬عن ذلك الأسلوب المتجاوز الذي‮ ‬يمسح الظاهرة ويسيسها،‮ ‬ليغوص عميقا في‮ ‬تعقيد الطبيعة البشرية،‮ ‬مع الحفاظ على نوع من الرؤية الملحمية التي‮ ‬تنتهي‮ ‬بقبطان‮ “‬طارئ على البحر‮” ‬بالنجاح في‮ ‬إنقاذ السفينة،‮ ‬وإنقاذ كل من فيها،‮ ‬وعلى رأسهم صديقة موسى المهدد ببتر ساقه‮.‬
إن الفيلم،‮ ‬بحق ملحمة معاصرة،‮ ‬تلعب فيها الصحراء والبحر دور المينوتور،‮ ‬أما خيط أريانة،‮ ‬فما هو إلا تلك العزيمة الكبيرة في‮ ‬قتل الوحش والوصول إلى‮ “‬لامبيدوزا‮”.‬


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 28/11/2023