خاص الباحث فراس السواح في مواضيع تتعلق بالأديان والفلسفات والأساطير فى الشرق، وفي عقد المقارنات بين الأديان، ومن ذلك ما فعله فى كتابه «القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية»، إذ طرح مسألة التشابه بين القصص القرآنى والقصص التوراتى من زاوية الباحث الذي يعتمد منهج علم الأديان المقارن. فسرد أمامنا قصص العديد من الأنبياء كلوط وابراهيم وإسماعيل ويوسف وموسى وداوود وسليمان ويونس وغيرهم..
في سورة الذاريات. لدينا تنويع آخر على القصة نفسها: «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. إذ دخلوا فقالوا: سلام، قال سلام قوم مُنكرون (5). فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال: ألا تأكلون. فأوجس منهم خيفة، قالوا: لا تخف. وبشروه بغلام عليم. فأقبلت امرأته في صَرَّة (6). فصكّت وجهها (7) وقالت عجوز عقيم. قالوا: كذلك قال ربكِ إنه هو الحكيم العليم. قال: فما خطبكم أيها المرسلون؟ قالوا: إنّا أُرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين، فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم». (51 الذاريات : 24-37).
ترد قصة إبراهيم وضيوفه بجميع عناصرها القرآنية في سفر التكوين 18، مع فارق واحد، وهو أن الضيوف الثلاثة كانوا إله التوراة يهوه نفسه ومعه اثنان من ملائكته. وبدل الامتناع عن الأكل فقد أكل الثلاثة وهم متكئون تحت الشجرة أمام خباء إبراهيم :«وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار. فرفع عينيه وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض وقال: يا سيد، إن كنتُ قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذُ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقاً سميذاً واعجني واصنعي خبز مَلّةٍ. ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصاً وجيداً وأعطاه للغلام، فأسرع ليعمله. ثم أخذ زبداً ولبناً والعجل الذي عمله ووضعه قدامهم. وإذ كان هو واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا.
«وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة. فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة (8) ويكون لسارة امرأتك ابن. وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه. وكان إبراهيم وسارة متقدمين في الأيام وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء. فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم : لماذا ضحكت سارة؟ هل يستحيل على الرب شيء؟
«ثم قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم ماشياً معهم ليشيعهم. فقال الرب: هل أُخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله، وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض… إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جداً. أنزلُ وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخهم الآتي إلي؟ وإلا فأعلمُ. وانصرف الرجال (= الملاكان) من هناك وذهبوا نحو سدوم، وأما إبراهيم فكان لم يزل قائماً أمام الرب.
«فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين باراً الذين فيه؟… فقال الرب: إن وجدتُ في سدوم خمسين باراً فإني اصفح عن المكان كله من أجلهم. فأجاب إبراهيم وقال: إني قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد، ربما نقص الخمسون باراً خمسة، أتهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال : لا أُهلك إن وجدت هناك خمسة وأربعين، فعاد يكلمه أيضاً وقال: عسى أن يوجد هناك أربعون. فقال: لا أفعل من أجل الأربعين. فقال: لا يسخط المولى فأتكلم، عسى أن يوجد هناك ثلاثون. فقال: لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين. فقال: إني شرعت أكلم المولى، عسى يوجد هناك عشرون، فقال: لا أهلك من أجل العشرين، فقال : لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط. عسى أن يوجد هناك عشرة. فقال: لا أُهلك من أجل العشرة. وذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم، ورجع إبراهيم إلى مكانه». (التكوين 18).
وكما نلاحظ من قراءة الروايتين القرآنية والتوراتية بخصوص الضيوف السماويين فإنهما تسيران على التوازي وتقومان على العناصر نفسها، على ما تظهر المقارنة:
1 -الرواية التوراتية: بينما هو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، رفع إبراهيم عينيه وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم.
– الرواية القرآنية: «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. إذ دخلوا فقالوا : سلام، قال سلام قوم مُنكرون». (سورة الذاريات).
2 -الرواية التوراتية: ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصاً وجيداً وأعطاه للغلام، فأسرع ليعمله. ووضعه قدامهم.
–الرواية القرآنية: «فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال: ألا تأكلون». (سورة الذاريات)
3 – الرواية التوراتية: وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة. فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن.
– الرواية القرآنية: «فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب». (سورة هود).
4 -الرواية التوراتية : فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ؟
– الرواية القرآنية: «وامرأته قائمة فضحكت… قالت : يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً؟ إن هذا لشيء عجيب». (سورة هود ).
5 – الرواية التوراتية : فقال الرب لإبراهيم : لماذا ضحكت سارة؟ هل يستحيل على الرب شيء؟
–الرواية القرآنية: «قالوا: أتعجبين من أمر لله؟ رحمة لله وبركاته عليكم أهل البيت». سورة هود).
6 – الرواية التوراتية: صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جداً. أنزلُ وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخهم الآتي إلي؟ وإلا فأعلمُ.
–الرواية القرآنية: «قالوا: إنّا أُرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين». (سورة الذاريات )
7 – الرواية التوراتية : فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون باراً… (بقية الحوار)…
–الرواية القرآنية: «فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى. يجادلنا في قوم لوط «. (سورة هود).
وهناك قصتان من سلسلة قصص إبراهيم في التوراة سوف نتعرض لهما عندما نأتي إلى الحديث عن إسماعيل، وهما الخلاف بين سارة زوجة إبراهيم وجاريتها هاجر وما نجم عن ذلك من إبعاد هاجر وابنها إسماعيل إلى البرية، وكيف همّ إبراهيم بتقديم إسحاق (أو إسماعيل) قرباناً للرب.
الهوامش:
1 – إن إطلاق اسم أور الكلدان على هذه المدينة ، يدل على أن أخبار إبراهيم التوراتي قد دونت لأول مرة خلال تواجد سبي يهوذا في منطقة بابل، لأن الشعب الكلداني لم يكن معروفاً خلال الحقبة التي من المفترض أن إبراهيم قد عاش فيها، وهي النصف الأول من الألف الثاني ق.م.
2 – لم يرد ذكر اسم هاتين المدينين في سجلات ثقافات الشرق القديم.
3 –J – H. Charlesworth , the Old Testament Pseudepigrapha , Dobleday , New york , 1983 , vol.2 p . 7 FF
4 – عجل حنيذ، أي مشوي على الحجارة المحماة.
5 – قوم منكرون، أي قوم لا نعرفهم.
6 – في صرة، أي في جلبة وضجة.
7 – صكت وجهها، أي لطمت وجهها براحتيها، على عادة النساء الشرقيات.
8 – أي بعد تسعة أشهر، وهي المدة اللازمة للحمل والإنجاب.