أنبياء بين التوراة والقرآن 10 : أيّوب في التوراة

خاض الباحث فراس السواح في مواضيع تتعلق بالأديان والفلسفات والأساطير فى الشرق، وفي عقد المقارنات بين الأديان، ومن ذلك ما فعله فى كتابه «القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية»، إذ طرح مسألة التشابه بين القصص القرآنى والقصص التوراتى من زاوية الباحث الذي يعتمد منهج علم الأديان المقارن. فسرد أمامنا قصص العديد من الأنبياء كلوط وابراهيم وإسماعيل ويوسف وموسى وداوود وسليمان ويونس وغيرهم..

 

تعود قصّة المعذّب الصابر إلى الظهور في كتاب التوراة وذلك في سفر خاصّ بها هو سفر أيّوب. والقصة التوراتية تحتوي على جميع عناصر القصة الرافدينية، ولكن بتوكيد أكثر شدّة على دور الإله في بلايا ذلك المعذّب ومصائبه، واستخدامه الشيطان وسيلة له.
فقد كان أيّوب رجلاً حكيماً ومستقيماً يتّقي الربّ ويحيد عن الشر. وكانت مواشيه سبعة آلاف رأس من الغنم، وثلاثة آلاف جمل، وخمسين فدان بقر، وخمسمائة أتان، وخدمه كثيرون جداً. فكان أعظم بني المشرق (1: 1-3). وفي أحد الأيام جاء بنو الله (= الملائكة) ليمثلوا أمام الربّ وجاء الشيطان معهم. فسأل الربّ الشيطان عمّا إذا كان ينوي شراً لأيّوب، لأنّه ليس مثله رجل صالح وكامل. فأجابه الشيطان: هل مجّاناً يتقي أيّوب الربّ ؟ أليس لأنك سيَّجْتَ حوله وباركْت أعمال يديه فانتشرتْ مواشيه في الأرض؟ ولكن أبسط يدك ومُسَّ كلّ أملاكه بضرٍّ فإنه يجدّف في وجهك. هنا يداخل الشكّ نفس الربّ في أمر أيّوب، ويرغب في معرفة خبيئة نفسه ودواعي صلاحه، فيطلق يد الشيطان في أيّوب يفعل به ما يشاء شريطة أن يبقيه على قيد الحياة، ليعرف هل سيكفر أيّوب إذا زالت عنه النعمة أم لا (1: 6-12) .
وهكذا يباشر الشيطان عمله. ففي يوم واحد سُرِقت أبقاره وجماله، وقتل اللصوص عبيده جميعاً، وسقطت نار فأحرقت قطعان غنمه، ثم تهدّم البيت على أولاده فماتوا جميعاً: «فقام أيّوب وجزَّ شعر رأسه وخرّ إلى الأرض وسجد وقال: عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود إلى هناك. الربّ أعطى والربّ أخذ. فليكن اسم الربّ مباركاً إلى الأبد. وفي كلّ هذا لم يخطئ أيّوب ولم ينسب لله جهالة». (1: 12-22) .
بعد ذلك يأتي الشيطان ويَمثل أمام الربّ ثانية، فيعاتبه الربّ على دسيسته لأنّ أيّوب لم يخطئ ولم يجدّف رغم ما حلّ به من مصائب. فيقترح الشيطان استمرار الاختبار، وأن يطال الأذى هذه المرة أيّوب في جسده وصحّته. فأطلق الربّ يد الشيطان مرّة أخرى في أيّوب. فخرج الشيطان وضرب أيّوب بقروح خبيثة انتشرت في كلّ جسده. فأخذ كسرة فخار يحتكّ بها وهو قاعد وسط رماد بيته المحترق، وقال لزوجته: «هل نقبل الخير من الله والشر لا نقبل ؟ وفي كلّ هذا لم يخطيء أيّوب بشفتيه» (2: 4-13).
وعندما اشتدّت الأوجاع على أيّوب، رفع صوته طالباً الرحمة والعدل: «أَبَحْرٌ أنا أم تنّين حتى جعلت عليّ حارساً؟ إن قلتُ فراشي يعذّبني وينزع كربتي تريعني بأحلام وترهبني برؤى … كُفَّ عني الآن لأنّ أيام نفحة. ما هو الإنسان حتى تعتبره وحتى تضع عليه قلبك وتتعهّده كلّ صباح، وفي كلّ لحظة تمتحنه؟ حتى متى لا تلتفت عنّي وتريحني ريثما أبلع ريقي؟ هل أخطأت؟ ماذا أفعل لك يا رقيب الناس. لماذا جعلتني عاثوراً لنفسي حتى أكون على نفسي حِمْلاً؟ « (7: 12-20) .
ولكنّ هذه الشكوى تذهب هباءً لأنّ الخصم هنا هو نفسه الحكم: «ذاك الذي يسحقني بالعاصفة ويكثّر جروحي بلا سبب. لا يدعني آخذ نفَسي ولكن يشبعني مرائر. إن كان من جهة القوة يقول: هاأنذا، وإن كان من جهة القضاء يقول: من يحاكمني؟ … أنا مستَذنب فلماذا أتعب عبثاً … ليس هو إنسان مثلي فأجاوبه فنأتي جميعاً إلى المحاكمة، ليس بيننا مُصالح يضع يده على كلينا». (9: 29-33) . ((أَفهمني لماذا تخاصمني؟ … يداك كوّنتاني وصنعتاني كلّي جميعاً، أفتتبتلعني؟ … كُفَّ عني قبل أن أذهب ولا أعود، إلى أرض ظلمة وظلّ موت». (1:1-21).
ولكنّ إعلان البراءة من جانب أيّوب وثباته على توكيد حقّه لا يجدي، وبدلاً من أن يجيب الربّ أيّوب عن تساؤلاته المشروعة، فإنّه يعمد إلى تذكيره بقوّته وجبروته: «من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة؟ اشدد حقويك الآن كرجل، فإني أسألك فتخبرني. أين كنتَ حين أسّستُ الأرض؟ أخبرْ إن كان عندك فهمٌ، من وضع قياسها أو مدّ عليها مطماراً ؟ على أيّ شيء قرّت قواعدها؟ أو من وضع حجر زاويتها عندما ترنّحت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله؟» (38: 1-6).
عند ذلك يفهم أيّوب أنّ ربه لا يحتاج إلى التذكير بقواعد العدالة كما يفهمها البشر، وإنما يطلب الخضوع والتسليم سواء أجاءت مشيئته بالخير أم بالشر. لذلك أجابه قائلاً: «قد علمتُ أنك تستطيع كلّ شيء ولا يعسر عليك أمر… قد نطقتُ بما لم أفهم، بعجائب فوقي لم أعرفها… بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني. لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد». (24: 1-5) .
أمام هذا الخضوع المطلق والتسليم بقوة الربّ وعظمته، يهدأ غضب الربّ. وتنتهي القصة بأن يعيد الربّ إلى أيّوب صحّته ويعوّض له كلّ ما فقد من ممتلكاته، ويعزّيه عن بنيه الذين فقدهم بنسل جديد: «وزاد الربّ على كلّ ما كان لأيّوب ضعفاً، فجاء إليه كلّ إخوته وكلّ معارفه، وأكلوا خبزاً في بيته ورَثَوا له وعزّوه عن الشر الذي جلبه الربّ عليه. وبارك الربّ آخرة أيّوب أكثر من أولاده، وكان له أربعة عشر ألفاً من الغنم، وستة آلاف من الإبل، وألف فدان من البقر، وألف أتان. وكان له سبعة بنين وثلاث بنات… وعاش أيّوب بعد ذلك مئة وأربعين سنة». (42: 1-17).

أيّوب في القرآن:

يرد اسم أيّوب في سورة الأنعام على أنّه واحد من أنبياء الله الصالحين: «ونوحاً هدينا من قبل. ومن ذريته داود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهرون. وكذلك نجزي المحسنين» (6 الأنعام: 84).
أمّا قصة ابتلائه فترد في موضعين فقط وباختصار شديد، وذلك في سورة الأنبياء وسورة ص:
«وأيّوب إذ نادى ربه إني قد مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرّ، وآتيناه أهله ومثلهم معهم، رحمة منا وذكرى للعالمين». (21 الأنبياء : 83).
«واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه إني مسّني الشيطان بنصبٍ وعذاب. أُركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب. ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب… إنا وجدناه صابراً، نعم العبدُ إنّه أوّاب». (38ص: 41-43) .
فبلايا أيّوب في القصّة القرآنية تأتي من الشيطان كما هو الحال في الرواية التوراتية، ولكن دون التعرّض لدور الربّ فيها. فقد أصابه الشيطان بنصب، أي بتعب ومرض في جسده، وبعذاب في روحه. كما نفهم من السياق أنه أصيب بموت أولاده أيضاً. وبعد فترة من المعاناة يدلّه ربه على نبع ماء ليغتسل به فيزول مرضه الجسديّ، ثم يشرب منه فتزول عذاباته الروحية. وبعد ذلك أحيى الله أولاده الذين ماتوا، ووهبه مثلهم في العدد. وعلى ما تفيدنا الرواية التوراتية فقد كان لأيّوب قبل مصيبته سبعة بنين وثلاث بنات (أيّوب 1: 2). وعندما كشف ربّه عنه الضرّ وهبه أيضاً سبعة بنين وثلاث بنات (أيّوب 42 : 13) . وتنتهي القصّة القرآنية بالثناء على صبر أيّوب وثقته بربّه.

الهوامش:

1 – S.N . Kramer , Sumerian Wisdom texts . in : J. Pritchard , Ancient Near Estern texts, Princeton, New Jersy , 1969 , p . 589 .
2- R.D. Biggs, AKKadian Didactic and Wisdom Literature. In: James Pritchard , Ancient Near Eastern Texte , Princeton , 1969 . pp . 596 – 600 .
– F . J . Stephen , Sumero – Akadian Hymns and Prayers . in . James Pritchard , op . cit p.391 .


الكاتب : فراس السواح

  

بتاريخ : 08/05/2021