خاض الباحث فراس السواح في مواضيع تتعلق بالأديان والفلسفات والأساطير فى الشرق، وفي عقد المقارنات بين الأديان، ومن ذلك ما فعله فى كتابه «القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية»، إذ طرح مسألة التشابه بين القصص القرآنى والقصص التوراتى من زاوية الباحث الذي يعتمد منهج علم الأديان المقارن. فسرد أمامنا قصص العديد من الأنبياء كلوط وابراهيم وإسماعيل ويوسف وموسى وداوود وسليمان ويونس وغيرهم..
نتابع في المقتبس الذي أوردناه أعلاه من سورة البقرة:
«فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن لله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يَطعمه فإنه مني، إلا من اغترف غرفة بيديه. فشربوا منه إلا قليلاً منهم. فلما جاوزه هو والذين معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. قال الذين يظنون أنهم ملاقو لله: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، ولله مع الصابرين. ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا افرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله. وقتل داود جالوت، وآتاه لله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء» (2 البقرة : 249 – 251).
في هذا الخبر لدينا وصف لإحدى المعارك الشهيرة التي خاضها شاؤل ضد الفلسطينيين. فقد عسكر الفريقان تجاه بعضهما البعض، وانبرى لبني إسرائيل من الطرف الفلسطيني الفارس الجبار جالوت الذي يدعى في سفر صموئيل جوليات، يطلب من يبارزه في قتال منفرد. فخاف فرسان بني إسرائيل من منازلته. ولكن الفتى داود قبل التحدّي، وكان في ذلك الوقت مجرد حامل سلاح للملك شاؤل، وعازفاً على العود يعزف له كلما انتابته الكآبة.
الرواية التوراتي:
لهذه القصة في سفر صموئيل الأول مقدمات. فقد نقل النبيّ صموئيل إلى شاؤل أمر الربّ بقتال شعب العماليق لأنهم وقفوا في وجه بني إسرائيل وهم في طريقهم إلى أرض كنعان، وبتطبيق قاعدة «التحريم» عليهم، والتي تقتضي إفناء العدو عن بكرة أبيه وقتل نسائه وأطفاله وحيواناته جميعاً. فتوجه داود وهزم العماليق وحرّم جميع الشعب بحد السيف، ولكنه عفا عن ملكهم المدعو أجاج، كما عفا عن خيار المواشي وساقها أمامه.
فكان كلام الربّ إلى صموئيل قائلاً: ندمت على أني جعلت شاؤل ملكاً لأنه رجع من ورائي ولم يحفظ كلامي. فحزن صموئيل جداً وصرخ إلى الربّ الليل كله لأنه كان يحبّ شاؤل. ثم بكّر صموئيل للقاء شاؤل صباحاً. ولما جاء قال له شاؤل: قد أقمتُ كلام الربّ. فقال له صموئيل: وما هو صوت الغنم هذا في أذني وصوت البقر الذي أنا سامع؟ فقال شاؤل: لقد عفا الشعب عن خيار الغنم والبقر لأجل الذبح للربّ إلهك. فقال له صموئيل: هل مسرّة الربّ بالمحرقات والذبائح أكثر من مسرّته باستماع صوته وأوامره؟ لأنك رفضت كلام الربّ فإنّ الربّ يرفضك من المُلك. ثم قال صموئيل: قدّموا لي أجاج ملك عماليق. فذهب إليه أجاج وهو يعتقد أنه قد نجا، ولكن صموئيل أمسك بالسيف وقطع رأسه. (صموئيل الأول: 15).
بعد ذلك فارق روح الربّ شاؤل، وتلبَّسه روح رديء. فكانت تأتيه نوبات من الكآبة، فقال له ضباطه: هو ذا روح رديء يبغتك من قبل الربّ. فليأمرنا سيّدنا أن نبحث له عن رجل يحسن الضرب على العود، ويكون إذا كان عليك الروح الرديء من قبل لله أنه يضرب بيده فتبتهج. فقال شاؤل: ابحثوا لي عن رجل يحسن الضرب وأتوا به إليّ. فانبرى واحد من الغلمان وقال: هو ذا رأيت ابناً ليسّي الذي من بيت لحم، يحسن الضرب على العود، وهو جبّار ذو بأس وفصيح وجميل والربّ معه. فأرسل شاؤل رسلاً إلى يسّي، إلى بيت لحم ليأتوا له بداود. فأحبّه وجعله حامل سلاح له، وكان يعزف أمامه كلما هاجمته نوبة من الكآبة.
بعد ذلك جمع الفلسطينيون قواتهم وتوجهوا لقتال بني إسرائيل وعلى رأسهم البطل الجبار جوليات، فسار إليهم شاؤل واقترب الجمعان من بعضهما واصطف الجنود للقتال وكان الفلسطينيون وقوفاً على تلة من هنا وإسرائيل وقوفاً على تلة من هناك والوادي بينهم. فبرز جوليات من بين صفوف الفلسطينيين، وكان طوله ستة أذرع وعلى رأسه خوذة من نحاس، لابساً درعاً حرشفياً ثقيلاً لا يقدر فارس على حمله. فنادى وقال: اختاروا منكم رجلاً فينزل إليّ، فإن قدرتُ عليه وقتلته تصيرون لنا عبيداً. فلما سمع شاؤل وجميع بني إسرائيل كلام جوليات، ورأوا طوله الفائق والسلاح الذي دجج به نفسه ارتاعوا وخافوا جداً. وظل جوليات يفعل ذلك كل يوم وما من أحد يجرؤ على التصدي له.
ثم إن داود دخل على شاؤل وقال له: من هو هذا الفلسطيني الأغلف (5) حتى يعيّر صفوف لله الحيّ؟ عبدك يذهب ويحاربه. فقال له شاؤل: أنت غلام وهو رجل حرب منذ صباه. فأصرّ داود على طلبه. فما كان من شاؤل إلا أن ألبس داود خوذته ودرعه وقلده سيفه، فمشى داود خطوات ولكنه تعثّر لأنه لم يكن معتاداً على تقلد عدة الحرب، فنزعها عنه والتمس خمسة حجارة ملس من الوادي ، وحمل مقلاعه (6) وعصاه وسار صوب جوليات. فلما رآه الفارس الفلسطيني استخف به لأنه كان فتى وأشقر جميل المنظر، وقال له: هل أنا كلب حتى أنك تأتي إلي بعصيّ ؟ ثم لعن داود بآلهته. فقال له داود: أنت تأتي إليّ بسيف ورمح وترس، وأنا آتي إليك باسم ربّ الجنود. ثم مد يده إلى الجراب وأخذ منه حجراً ورماه بالمقلاع، وضرب الفلسطينيّ في جبهته فسقط على وجهه إلى الأرض. فأسرع داود إليه واستل منه سيفه وقطع رأسه. فلما رأى الفلسطينيون أن جبّارهم قد مات هربوا، فقام رجال إسرائيل ولحقوا بهم ونهبوا محلتهم. وعندما عاد داود إلى شاؤل جعله قائداً على إحدى كتائبه، وأحبّه قادة داود وجميع الشعب، وصار صديقاً حميماً ليوناثان ابن شاؤل. ثم إن شاؤل زوّجه ابنته المدعوة ميكال مكافأة له. ومنذ ذلك الوقت أخذ نجم شاؤل بالأفول ونجم داود بالصعود (صموئيل الأول: 16-19)
الهوامش:
الكلمة مشتقة من عسى.
المقصود هنا هو النبي صموئيل.
قارن مع ما ورد في سورة البقرة: «إن لله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم».
قارن مع ما ورد في سورة البقرة: «قالوا أنى يكون له المُلك ونحن أحق بالملك منه».
أي غير المختون.
المقلاع عبارة عن أداة بدائية لرمي الحجارة وقذفها إلى مسافات بعيدة . وهي مؤلفة من حزام عريض مصنوع من جلد رقيق أو قماش توضع في وسطه قطعة الحجر ويلوح بها صاحبها بحركة دائرية حول رأسه ثم يفلت طرفها فينطلق الحجر بالقوة النابذة للحركة الدورانية .