«أوراق» عبد لله العروي وفضاءات المعرفة والفن

تظل عملية النقد الأدبي السمت الذي يؤمن من خلاله مواكبة الأجناس الأدبية في خصوصيتها المتفردة وفي إبدالاتها العميقة . فالسيرة، كفن أدبي ، يحتفي بمراحل عمرية مرت من حياة الفنان أو الأديب، بما هو الجانب الواقعي المعاش؛ فينزع إلى الخلود عبر وسيلة الكتابة والإبداع.
في التاريخ تعيش السيرة، سواء كانت ذاتية أو غيرية، مراحل المخاض الحقيقي كي تسطر أهم المنعطفات التي بصمت حياة الناس وتقلباتها بين الصبا وفورة الشباب، يقول إحسان عباس في كتابه «فن السيرة»: «وإني لأعلم أن الاتجاه في الحياة المعاصرة، أخذ يتشكل نحو الجماعة بخطى سريعة، وهذا قد يقلل من تقديس الأبطال، وتحمل دور الفرد في الحياة». إن النزوع نحو ما هو جماعي في السيرة الفنية، حسب إحسان عباس، هو محاولة في اتجاه تداوليات هذا الفن الجديد في الأدب . فأيا كانت المبررات، التي تجعل من أبطال هذا الفن ينزعون نحو تخليد أسمائهم في السيرة، إلا أن هذا الأسلوب يفقد، من خلاله، بريقه الذاتي، ويذوب في الكينونة الجماعية؛ لأن الأدب ما هو في نهاية المطاف، إلا اتصال الذات بالعالم الخارجي، أو بالأحرى هو مسيرة احتجاج فردية موجهة نحو الواقع المعاش في امتدادات غير منتهية.
لن يجرنا الحديث، في هذا المقام، عن أمهات السير في الثقافة الغربية، باعتبارها المهد الحقيقي لهذا الفن الوافد إلى الثقافة العربية. فباعترافات القديس أوغستين، يكون فن السيرة قد انفتح انفتاحا مطلقا على تفاصيل الحياة بعامة والدينية بخاصة، كما أن شهادات جون جاك روسو في القرن الثامن عشر هي أيضا محاولة في اتجاه ترسيخ قيم العدل والمساواة ، وغرس القيم السمحة النبيلة في حياة الناس، والبحث المستمر عن البدائل اللائقة بغية تخليق الحياة العامة. إلا أن كل من مارسيل بروست في مجموع رواياته «البحث عن الزمن الضائ»، وجيمس جويس في «الفنان في شبابه» كانا من أكبر المؤثرين المباشرين في السيرة الفنية بمفهومها الحديث، وذلك عن طريق إقحام قسري لحركة الشعور واللاشعور في الإبداع، عبر التركيز على القلق الذي يساور الذات في تقلباتها وامتداداتها المعرفية، وما كان البحث عن الاستقرار المعرفي والثقافي إلا ذلك السنان العريض الذي يوجه كل من بروست وجويس. وفي هذا المنعطف الخطير من فن السيرة، يمكن إدراج السيرة الذهنية، التي جاء بها عبد لله العروي إلى الأدب المغربي ، واعتبرت من أهم السير ذات البعد الواقعي لجيل بأكمله، تمثله شخصية إدريس في السيرة .
في السيرة الذهنية «أوراق» عمد عبد لله العروي الى الوصف الفني بين التاريخ والذات الفاعلة في الشأن الثقافي والفني، وفي هذا تم الانتقال عبر بوابة الترميز المشفر لأهم الأحداث التاريخية، التي عرفها المغرب إبان الاستعمار الفرنسي، الذي بسط اليد على أهم مخارج ومداخل الثروة التي يملكها الشعب المغربي. إن اختيار إدريس كبطل لهذه السيرة الذهنية، عند عبد لله العروي، جاء كردة فعل لجيل بأكمله، طامح نحو التغيير. فعبر العمل السياسي، المرتبط بالعمل الثقافي، انبثق حسب العروي التطور الفكري والتحول الأخلاقي، وكذا النضج السلوكي، والتي جعل من التربية وعلومها الوعاء الذي يؤم كل هذه العناصر المندرجة في بنية تتوخى تحسين ظروف العيش، وانعتاق المغاربة من كماشة الاستعمار، الذي أجهز على كل أحلام الشعب المغربي التواق نحو الحرية والعدل والكرامة. يقول العروي «بعد عشر سنوات من التردد قررت فرنسا اللجوء إلى سياسة العنف، وإلى دفن المشكل المغربي … هكذا تعكرت العلاقة الفرنسية المغربية …وقد تمكنت فرنسا من أن تنتصر، ولو مؤقتا، باستعمال المدفع الرشاش والدبابات».
بالمقابل يجيء طمس معالم المكان من أهم المخططات التي اعتمدتها السلطات الفرنسية، بما لها علاقة بتسريع ذوبان الشخصية المغربية في الآخر المحتل، وذلك على مستوى اللغة والعادات والتقاليد، وبالتالي التخلي التدريجي عن معالم الأصول، والهوية العربية الإسلامية وكل الأطياف الأخرى المكونة للشعب المغربي، بما في ذلك الانتماء الأمازيغي. يقول العروي على لسان الراوي: «تراني جالسا جنبك في مقهى المحطة، كنا نخرج من داخلية مولاي يوسف كل ظهر يوم خميس، وكل يوم أحد، نمر أمام محطة القطار نقطع الشارع، نحاذي جنينة فندق باليما، ونقصد إحدى قاعات السينما «. فالتركيز على المعالم المؤسسة للعمران المغربي في رواية «أوراق» كان بمثابة إحياء الهوية الحضارية التي يتمتع بها الشعب المغربي .
لذا جاءت «أوراق» لتحتفي بمعالم المكان إبان الاحتلال الفرنسي للمغرب، وهي محاولة جادة لترسيخه ـ أي المكان ـ في وجدان الناشئة، وارتباطه عضويا بفضاءات الدراسة والتحصيل العلمي، التي كان يتردد عليها البطل إدريس. يقول العروي « جئنا إلى ثانوية الرباط، وإدريس وأنا وتلميذ ثالث، وجدنا محيطا آخر … انتقلنا من مغرب الجنوب على باب الصحراء وأفريقيا إلى المغرب».
هدا الاهتمام بمكون المكان جاء نتيجة تشبث وعي جيل بكامله بالتغيير الذي تحدثه الثقافة في حياة الناس، ومدى تأثيرها العميق في السلوك الاجتماعي، كالتردد المتواصل على فضاءات تمنح حرية التفكير والإبداع. يقول العروي على لسان إدريس: «يطلق بصره من حين لآخر في قاعة مطالعة الخزانة الوطنية… فكان التيهان في منعطفات المعرفة».
إن هذا الاختيار المعرفي الجاد كان وصلا حقيقيا بين زمنين؛ ماض وحاضر. في سيرة إدريس الذهنية ، لعبة الثقافة جزء لا يتجزأ من لعبة الفن لذا انبثقت في رواية «أوراق» ميولات إدريس الرومانسية، التي كانت ثورة حقيقية على الكلاسيكية المتجاوزة في أوربا. وبالتالي أصبح الفن عند إدريس ملاذا آمنا من الإخفاقات التي كان يتلقاها في الواقع، وما أحدثته الفلسفة من شرخ وإحساس بالاضطراب في شخصية إدريس بطل السيرة الذهنية في رواية « أوراق». يقول العروي : « أقول من المحتمل أن يكون إدريس ذهب ضحية أفكار نقشت في ذهنه، ولم يستطع أن يتخلص منها، رغم النجر والتنقية التي يجريها على وعيه».
رواية «أوراق» وثيقة تاريخية لمغرب ما قبل الاستقلال، وفيها بوح عميق لمختلف التيارات الفكرية، التي كانت تمور بخلد جيل ثقافي يؤمن بالتغيير عن طريق الثقافة والفن، اللذين يؤثران في السلوك والعادات والمواقف أيضا. فمهما حاول إدريس أن ينحت طريقه في المعرفة والثقافة، إلا أن ذلك يحجب عنه مصائر أخرى تنتظره في أفق آت أسوة بباقي مجايليه.

 


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 28/09/2021