كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني.
السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة.
السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات.
أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية.
في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة.
لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد…، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.
مع مرور الأيام الأولى بعاصمة اليونان أثينا، بدأت لحظات الدهشة الأولى تزول وبدأنا نستأنس بأجوائها وسكانها وشوارعها الممتدة نحو أفق بعيد.
لم تكن وقتها فعاليات الألعاب المتوسطية قد انطلقت، فقد كان الجميع يترقب حفل الافتتاح، لينطلق العمل الذي جئنا من أجله إلى هذه المدينة.
فبعد أن منحت اللجنة الاولمبية الدولية حق تنظيم الأولمبياد إلى أطلنطا الأمريكية (1996)، ورفض طلب أثينا لاستضافة فعالياتها، انخفضت درجة حرارة المنظمين وعموم المواطنين. لأن ألعاب المتوسط راهن عليها الجميع لتكون “بروفة” حقيقية للأولمبياد المرتقب. لكن كل ذلك أصبح في سجل المستحيلات، لأن قوة وسلطة المال الأمريكي، كانت أقوى من طموحات التاريخ الأسطوري لهذا البلد.
في حفل الافتتاح، كانت لغة الطبول وحضور الخيال واللون الأزرق تشكل ظلالا لطموحات أجلت إلى حين، ونحن نستعيد شريط هذا الحفل الافتتاحي نتذكر كيف تم استقبال رئيس اللجنة الاولمبية الدولية “خوان انطونيو سمرانش” من طرف جماهير الملعب الأولمبية. فالصفير كان لغة الجميع، لغة للاحتجاج على قرار منع أثينا من تخليد الذكرى المئوية لانطلاق الاولمبياد الحديث.
انطلقت فعاليات الدورة المتوسطية، وكانت مناسبة جيدة لاختبار العمل الميداني، فمن أولى الدروس المستفادة أن التوقيت والزمن يعتبران مهمين للغاية، خاصة بالنسبة للصحافة المكتوبة، التي كانت تنافس بدون عتاد من أجل مسافة للإخبار، فالإذاعة تنتصر للزمن فيما التلفزيون يملك أكبر الأسلحة التي هي الصورة. ويبقى المجال محددا وواسعا في ذات الوقت لأصحاب الحبر الجاف.
الدرس الأول، أن الزمن يعتبر مهما، خاصة إذا كان البلد الذي يحتضن الحدث، يستفيق أهله بساعات طوال عن المغرب، فاليونان كانت تحرك عظامها الأولى بأربع ساعات قبل المغاربة، وهذه المسافة الزمنية كانت مهمة جدا لنا معشر الصحفيين، إذ تنهي عملك اليومي وأهل الجريدة مازالوا في ديارهم، مما يمنحك كل الفرص في البحث عن الأخبار وإجراء الاستجوابات وقبل ذلك حضور المنافسات التي يشارك فيها الرياضيون المغاربة.
بدأ إيقاع العمل يأخذ منحاه العادي، وأصبح جدول أعمالنا اليومي شبه معروف، ففي الصباح كان التوجه إلى الملعب الأولمبي فرض عين، في حين كان الخروج مساء فرض كفاية وجيب.
تشكلت على امتداد هذه الأيام الأولى، صداقات وعلاقات مازالت قائمة إلى اليوم، بل ازدادت حرارة وصدقا مع توالي السنين. هكذا تعرفت على أخي وصديقي، عبد الفتاح الحراق، المبعوث الخاص للإذاعة الوطنية والذي كان يسبقني بسنوات في هذه المهنة، تجربة وخبرة. وازدادت العلاقة قوة، حين قررنا المشاركة في رحلة نظمها المشرفون على الألعاب للصحافيين نحو الجزر المتناثرة على سواحل أثينا.
الإعلان عن هذه الرحلة، أكد أن الراغبين في المشاركة مطلوب منهم الوقوف أمام باب الفندق في الرابعة صباحا، وهكذا كان، فقد قررنا أن نستجيب لقدر القيام في هذا التوقيت الصعب، خاصة وأن ساعة النوم لم تكن تسعفنا للاستجابة لهذا الرقم القياسي، ورغم ذلك عبرنا عن شجاعة قل نظيرها.
أمام باب الفندق الذي كان يقيم فيه أزيد من مئة صحفي من مختلف بلدان المتوسط، لم نكن سوى ثلاثة صحفيين مغاربة، ويتعلق الأمر بالصديقين مصطفى بدري وعبد الفتاح الحراق وكاتب هذه السطور.
فقد كانت الرغبة في الذهاب إلى هذه الجزر أقوى من البقاء في الغرفة حتى يحين وقت الفطور، فهذه الأمكنة الأسطورية احتضنت آلهة وقلاعا صامدة، وكانت ملجئا وحاضنة للهاربين من الحروب وللناخبين والمستنجدين، كما نحن اليوم، الفرق هو أننا حالمون برؤية صور وأمكنة الآلهة عبر رحلة بحرية جميلة وهادئة، مدركين أن البحر الذي يحملنا فوق ظهره يخبئ أسرارا وأساطير وسيوفا لآلهة تحاربت في ما بينها وقاومت من أجل خلود أبدي.
كانت باخرتنا الموقرة ترسو عند كل جزيرة، وكنا ننزل لنتمشى ساعات لزيارة الأمكنة التي ساهمت من قريب أو بعيد في رسم تلك المدينة الفاضلة التي حلم بها أفلاطون ومازلنا ننتظر قيامها.
لا ننسى ونحن نتحدث عن هذه المدينة الفاضلة التي تخيلها أفلاطون، أن المؤرخين والدارسين والباحثين مازالوا لم يفهموا بعد السر الخفي الذي جعله يطرد الشعراء من مدينته ولكن رغم عناده وتشبثه بهذا الموقف المبدئي، فقد ظل الشعراء والشعر في مقامهم الرفيع، ولولاهم لما عرفنا الإليادة التي نحتت الشجاعة والإقدام والتضحية والقلم والقرطاس..
كان “يوما سعيدا” قضيناه في هذه الجزر التي يطلق عليها جزر السعادة أو جنة الصالحين، وربما لتواجد أشجار الفستق التي تغطي السهول والجبال دور في بروز ذاك اللون الفستقي الذي ضاع من حلمنا ومن ذاكرتنا كما ضاعت الأساطير الأولى.