أية طرائق جديدة للتفكير، ما بعد كوفيد 19 ؟ 3/3

 

تداعيات الأزمة الصحية، لا تقاس فقط بإحصاء عدد الوفيات والأشخاص المصابين، بل كذلك باحتساب عدد سنوات الحياة، التي اكتسبناها بالمقارنة بين مختلف سيناريوهات التدخل، وهذا سيكون أساسيا، عند نهاية هذه الأزمة، قصد التعرف على مدى فعالية الحجر الصحي.
من الواضح، اليوم، أن المنفعة الإنسانية توارت خلف المصلحة الاقتصادية، لقد كشفت الأزمة أن العالم لا يدور إلا حول الاقتصاد والتجارة. لكن الكائن الإنساني في حاجة إلى أفراد آخرين يتبادل معهم الأفكار والكلمات والأشياء، وفق صيغة من الإحساس؛ نحن ننسى أنه يتبادل انفعالات، إدراكات، مشاعر، عواطف، ونزوعات…
إن حاجات الإنسان لا تقف عند عتبة البقاء؛ فثمة أشياء أخرى تفرض نفسها للتبادل أكثر من الاقتصاد والسلع والبضائع، داخل توصيف غير محدود لكل ما يشكل الخصوصية الفريدة للكائن الإنساني، هذا الكائن البيو-ثقافي. إذا ذكرنا بموضوعة « المصلحة العامة»، كما حددها أدم سميت، أحد مؤسسي الليبرالية، منذ قرنين ، فإن ضرورة التبادل تفرض نفسها على كل الآراء والمنظورات. ربما أيضا التيارات البيئية السياسية وحتى التيار الحالي الحيوان -السياسة الذي يسعى إلى إدماج الحيوانية في قلب المواطنة، هي في الطريق إلى تثبيت نفسها. نلاحظ هذا التيار الحيوان -السياسة من خلال المدافعين عن كل الحيوانات، مع تطبيق نظام غذائي نباتي، كما تبلور ذلك عند الفلاسفة الجدد أمثال: «إليزابيت دو فونتناي» ، فيلسوف القضية الحيوانية، الذي كتب أن الكائنات الإنسانية وجدت دائما صعوبة كبيرة للتموقع إزاء الحيوانات، هذه المخلوقات الغريبة التي تجول في محيطه، وتقتسم معه حياته، وفي جوانب أخرى تجمع بينها، ومع من يربطون علائق تكون دائما مركبة من الحب والكراهية. في الواقع، الوضع الفلسفي، بل الديني للحيوان في الحضارات الكبرى، تأرجح طويلا بين تصورين أساسيين، الحيوان-الإنسان والحيوان-الشيء ، للوصول في نهاية المطاف، داخل الفكر الغربي الراهن، إلى تصور أكثر تماشيا مع العلم الحديث، يقضي بأن الحيوان كائن حساس. هذه الأحاديث المتعلقة طبعا بالوباء الحاصل، ترى أنه ناجم عن الفيروس الذي أصاب الخفافيش، والبانغولين (أو آكل النمل الحرشفي): هذا القرب من الإنسان والحيوان، هو مسألة بدون حل في علاقات الإنسان مع مجموع الطبيعة، حيث لا تخفى مكانة الحيوان فيها.
كل المفكرين في هذه المجالات غربيون: نؤكد على أن هذه الأسئلة، لم تثر في البلدان «الثالثية»، والظاهر أن هذه المواضيع والمجالات: الطبيعة والحيوانات والنباتات والمناخ والأزمة المناخية، لا تستقطب اهتمام البلدان غير الغربية إلا قليلا، سواء كانت نامية أم لا. سيكون على حاملي الفكر المسمى» التابع» تناول أيضا هذه المواضيع في سياق التساؤلات وعناصر التفكير المرتبطة بها.
بطبيعة الحال، على كل المجتمعات العناية بمناخها الاجتماعي. القضايا البيئية، والاقتصادية-السياسية، والاجتماعية، والعائلية، والأزمة المناخية الطارئة، تجد حلها، بشكل أو بآخر وفق أنظمة ليبرالية شبه استبدادية أو كليانية؛ أصبحت القضايا البيئية أيضا سياسية، ومطلوب من المثال الديموقراطي، التلاؤم والتوافق مع الأسئلة العميقة التي يطرحها النموذج الاقتصادي ونمط الحياة، على كوكبنا الأرضي كله في عالم يتعولم أكثر فأكثر. وبهذا سيصير التضامن بديلا حتى النهاية.
والحال أن الميثاق بين النمو والديموقراطية، يقوم على حيثيات ضمنية، التحكم في الطبيعة بماهي مورد غير محدود، وهذا يعيد اليوم إعادة طرح السؤال، عن الارتباك والاختلال في التوازنات الأيكولوجية والمناخية لكوكبنا الأرضي مما أدى – إذا كان الفيروس «طبيعيا» – إلى هذه الجائحة التي استسلم لها الاقتصاد العالمي.

إيكولوجيا وعدالة اجتماعية يسيران جنبا إلى جنب

هذه حقيقة تتعزز على نحو متزايد. لبناء حركة اجتماعية قوية، مشروعة وراسخة، تؤطرها العدالة الاجتماعية، علينا إيجاد حلول للطوارئ الأيكولوجية الحالية، الوعي السياسي الحديث له من القدرة النقدية لتحديد ما يهددها وتقديم الجواب عن ذلك.
التفكير الإيكولوجي حول النظام الإيكولوجي قاد إلى «تسييس للفيروس» نظرا للأزمة الناتجة عن الجائحة وما يعيشه سكان العالم تحت تأثيرها. تطورت نظرة الإنسان إزاء الأوبئة الكبرى؛ تصورنا، مثلا، التدابير الاحترازية ضد عودة الإنتاج قبل الأزمة (التخلي عن ركوب الطائرة دون مبرر أو عن زراعة النباتات بطريقة صناعية) لنصير «مفاتيح للعولمة» فاعلة ومجدية. هذه العولمة التي يبدو أنها حملت معها كل الشرور. لم نعد نتحدث عن «الثورة» بل عن «التحلل» أو «الانقطاع». صار من المستحيل، تقريبا، الفصل بين الإيكولوجيا والسياسة. نحن سائرون، نحو الثورة الممكنة للفكر السياسي، بنفس الحجم الذي حققته فلسفة الأنوار، وبما حققه المفكرون الاشتراكيون، عقبها.
الأرض يمكنها التخلص من البشر عن طريق أصغر كائناتها، فيروس، من حجم جزء من المليار من المتر! وصفت الجائحة طريقة العيش في العالم، كما هو الشأن بالنسبة للطاعون والأنفلونزا الإسبانية.
اجتاح كوفيد-19 العالم متعقبا تنقلات البشر… سمحت الرحلات لكورونا فيروس بغزو صيني انطلاقا من مدينة «ووهان». الأشخاص المصابون يتنقلون عبر عشرات الآلاف من الاتجاهات؛ في يناير 2020، أحصينا 900 رحلة شهريا نحو نيويورك، 2000 نحو سيدني، 15000، نحو بانكوك، الخطوط الجوية عبر الجهات الأربع للعالم يسرت للفيروس التجذر في كل القارات. مع نهاية يناير 2020، حلت الجائحة بأكثر من ثلاثين مدينة وستة وعشرين بلدا.
في المحصلة، إن الإنسان هو المسؤول عن الجائحة وليس الفيروس.
الفيروس مستقر، ليست له أية وسيلة للتنقل، فمن المفروض أن يمر من جسم إلى آخر (ملحوظة: كلمة épidémieمن أصل لاتيني هو ذاته من جذر إغريقي epidemos ، «epi» ينتقل، «demos» بين الشعب). الأطباء من عصر النهضة إلى القرن 19، يعزون قوة جبارة لعبقرية الأفضية والأمكنة، مع اعتقاد جازم أن ظهور جوائح لبعض الأمراض كان بتأثير أرضي أو كوني (كوسمولوجي)، في منطقة محددة، كما كتب مؤرخ الطب «ميركو جرميك» Mirko Grmek (الحوليات، 1936). لكن وقتئذ لم تكن الأوبئة العالمية مصدر تهيب. فالاكتشافات الحديثة بفضل باستور و»كوش» Koch حول الكائنات الحية الدقيقة المسببة للأمراض والعدوى تبقى رائدة.
يظهر كوفيد-19 أن الأمراض المعدية إذا شاعت بسهولة في بعض الأمكنة فإنها نادرا ما تبقى حبيسة فيها: كما وقع من قبل مع الجذري، الطاعون، الكوليرا. فقد اجتاح الفيروس العالم كله، تبعا لأسفار الناس، عبر القطارات، وفي الرحلات البعيدة، وعلى متن البواخر السياحية، وحافلات النقل في الضواحي. كورونا فيروس عابر سري كوني، يتعقب التنقلات خطوة خطوة. فككل الأوبئة، يرسم الفيروس مسارات ومسالك يعبرها الإنسان.
دام الطاعون الأسود في الصين طيلة أكثر خمس عشرة سنة، في العصر الوسيط ليصل إلى أوروبا، واستفحل الشر، حسب تحركات الإنسان وتنقلاته، الطرق التجارية بين آسيا وأوروبا، مع البواخر ثم الطرق التجارية البرية، وعبر الأنهار، لعبور البحر من جديد. إذا كانت الأوبئة تنتشر طواعية في الطرقات التجارية، التي أنشأها الإنسان، فإنها ترافق الصراعات العسكرية كالجذري، لما تنقل من الجنود إلى السكان المدنيين، الذين صدروه إلى البلدان المجاورة.
والحالة هذه، فإن الإنسان صار فيروسا يهدد الكوكب الأرضي. انتشر الوباء في العالم كله، مخلفا 500000 وفاة. ستقود هذه الجائحة، لا محالة إلى سياسة حقيقية للأرض، هذه الجائحة هي» واقعة اجتماعية إجمالية» (حسب تعريف مارسيل موس، أحد مؤسسي الأنتربولوجيا). واقعة اجتماعية إجمالية، هي مؤسسة أو أحداث تضع مجتمعا في ارتجاج، وتكشف معدنه وقيمه، وتظهر طبيعته العميقة. وبهذا المعنى فإن الجائحة كاشف يكشف، ليس فقط خصوصيات مجتمع خاص، ما دام أنها عالمية، لكن بعض ملامح نظام يعتمل في العالم الحالي، الرأسمالية ما بعد الصناعية.
هذه الملامح هي التدهور والتقلص، غير المسبوق، للأوساط غير الآهلة بالسكان، نظرا للاستغلال المفرط في الرعي، والفلاحة الصناعية، والاستعمار الداخلي واستخراج المعادن والطاقة الأحفورية، إلى درجة أن الانواع المتوحشة -مستودع مسبب للأمراض- وجدت بذلك اتصالا مكثفا مع البشر وهم يعيشون في مساكن أكثر اكتظاظا. أكبر الجوائح هي أمراض حيوانية المصدر، أمراض تنتقل من نوع إلى آخر، وانتشارها في جزء كبير منه عائد إلى الاختلالات الأيكولوجية.
الاستمرار الحاد لعدم المساواة الذي كشفت عنه وضعية الأزمة، داخل كل بلد، وبين البلدان، يجعل نتائجه شديدة الاختلاف حسب الوضعية الاجتماعية والاقتصادية التي نتواجد فيها. الجائحة تؤكد هذه الملاحظة: فبقدر ما يكون العمل أكثر نفعا وفائدة في المجتمع، فإن صاحبه يتقاضى أجرا أقل، ويقابل باعتراف أدنى. اكتشفنا فجأة الأهمية البالغة لأشخاص اعتمدنا عليهم في التطبيب، والتغذية، والنظافة، كانوا أول المخاطرين بحياتهم أمام المرض.
تصف السرعة اللافتة لانتشار الجائحة أدق مما يمكن أن يقوم به خبير للشكل الحالي للعولمةّ، الخاضعة كليا للسوق، بمعنى قاعدة الربح بأقصى درجة سرعته الممكنة.
هذه الأزمة راجعة إلى تدمير الكوكب، أو يجب على العكس من ذلك، اعتبار أن الأوبئة، ومنذ العصور التي سبقت الأنثروبولوجيا، هي جزء من التاريخ، وعلى الإنسان أن يتحلى بالتواضع، ويقر بحدوده مرة أخرى؟ علينا أن نكرر أن إبادة جزء من الإنسانية (شعوب هنود أمريكا)، من طرف المستعمرين الأوروبيين، ما بين القرنين 16 و17، تسبب في اختفاء 90% من هذه الشعوب.وهذا يعني الانتباه إلى درجة حدة فيروس الأمراض المعدية، وآثارها الجانبية على الإنسان. (غيثة الخياط. «جورج دوفرو، معلمي»، أرماندو غديتوري. روما، 2012) ., «
رافقت الأوبئة الإنسان، منذ بدايات التغيرات في العضوية الحية والفيزيولوجية، والأيكولوجية والسيكولوجية التي لحقت بالإنسان. فيروس في أبعاد متناهية الصغر يكشف اليوم، عن كل ضعف الإنسانية وعجزها، في إدارة نفسها وتطورها.
أصبحت الرأسمالية الحديثة فيروس العالم. الفيروس هو أحد الطفيليات يتضاعف على حساب المضيف الخاص به، إلى حد الفتك به. وهذا ما تتصرف به الرأسمالية مع الأرض منذ بدايات الثورة الصناعية، ولمدة طويلة جدا على غير علم أو دون إرادة لمعرفة ذلك. أما الآن فإننا على بينة من كل ذلك، غير أن الحل يقتضي خلخلة في أنماط العيش الحالية. أما الذين ليسوا في حاجة إلى هذه الخلخلة، فهم سكان الشعوب الأصلية في المناطق المعزولة عن العالم الذين يدافعون عن أراضيهم ضد اجتثاث الغابات والاكتساح من طرف الغربيين، الذين يستنزفون كل ما يوجد في أراضيهم، بتدمير كل شيء، من أشجار، ونباتات، وحيوانات، وأعشاش أيكولوجية وسكان مقيمين في هذه المناطق النموذجية مما يعد أساسيا وأصيلا وجميلا في الطبيعة.
الرأسمالية وقد ظهرت، بأوربا غير قابلة للتعريف من الناحية الإثنية، فهي تستمر في الانتشار كالوباء، غير أنها لا تودي مباشرة، بحياة الذين يمارسونها، لكن على المدى البعيد، شروط الحياة لكل سكان الأرض. تحول البشر أنفسهم إلى فيروسات تهدد الكوكب الأرضي. فالبضائع التي يرغبون فيها أكثر هي أيضا لم تعد تعرف التوقف، وعليها الكف عن هذا التنقل في حاويات ضخمة، وناقلات، وبواخر، وسفن…إلخ. على الإنسان أن يكف عن الجشع، وبالاقتدار على العودة إلى حياة بسيطة، وأكثر تواضعا، ومفعمة بالدلالة… لكن دون انهزامية أو تشاؤم. فمن بعيد هناك عملاقان يريدان التهام العالم، خصوصا السيطرة عليه والتحكم فيه، الصين والولايات المتحدة الأمريكية؛ نرتقب ميلاد أنساق فكرية تحطم الرأسماليات المعلنة والخفية، وما قبل الرأسماليات الفيودالية، والأطر الكليانية والفاشية، لذلك على المفكرين «الثالثيين» (أشير هنا إلى العالم الثالث) إطلاق فلسفة وأنثروبولوجيا مغايرتين، وإلا فإن العالم سيسير نحو الهاوية…ويبدأ الأمر أحيانا من فيروس بسيط.


الكاتب : *غيثة الخياط / ترجمة: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 17/10/2020