ومن الأساليب الجلية في النص بنية اللعب بالمفارق. وهو أسلوب حاضر عند الرجل انطلاقا من مهنته؛ فهو يقلب الشتاء صيفا، والصيف شتاء من خلال بيعه للفواكه المدخرة. فهو يتحكم رمزيا في فصول السنة ويحرك خيوط الزمان. وبذلك تمكن من اتخاذ صفة يتسم بها “المقدس”. وقد مكنته هذه القدرة الفريدة على التلاعب بالخطاب نفسه والتحكم في بنيته، فخرج من طابعه “المقدس” إلى مجال آخر أضفى عليه الرجل سمة التهكم والسخرية مع الحفاظ على البعد الجدي للخطاب. كما أن الرجل تمكن من قلب الفواكه الدنيوية إلى فواكه أخروية (فواكه الجنة) عبر الإيهام وعن طريق نفس الإمكانية: اللعب بالمفارق.
2-2/السرد والرؤية السردية
إن قارئ هذه الحكاية التي تتخذ من الجسد محورا لها، ومن الرغبة منطلقا ومدارا، يلاحظ أنها حكاية أقوال لا حكاية أفعال، وإن كان الفعل يندغم بالقول في جل لحظاتها. ومنذ مفتتحها يشير الكاتب إلى الراوي بقوله: “قال الماهاني…”، وعلى لسان هذا الأخير تتشكل الأحداث وتقدم الشخصيات وتتحدد أبعاد المكان والزمان. والراوي هو الذي يطلعنا على الحافز المحرك للأحداث(أو الحدث المركزي):وهو رغبة الرجل في امتلاك جسد الراهبة. هذا الحافز الذي عبرت عنه الشخصية بلسانها حينما خاطبت الغلام بقولها: ” ويحك، أنا منذ زمان أشتهي هذه الراهبة…”. هكذا يتناوب على السرد الراوي والشخصيات التي يجعلها تحكي وتتحاور فيما بينها. ولولا الحوار الثنائي بين الرجل وغلامه، لما عرفنا امتداد الحدث وكيفية “صياغة” الحيلة التي ستجعل الراهبة العفيفة المتعبدة ترضخ لرغبة الرجل. وإذا كان الحوار بين الرجل والغلام في اللوحة الأولى قصير النفس، يحدد الحافز الذي دفع الرجل إلى القيام بمغامرته ويرسم خطة الوصول إلى جسد الراهبة؛ فإن ما تبقى من الحكاية يُنسج عبر الحوار الثنائي بين الرجل والراهبة. وفي هذه اللوحة الثانية نلفي الحوار يُطرز خيوطه عبر”الإيهام” واستدعاء قصة مريم العذراء والملاك الذي بشّرها بغلام اسمه عيسى بن مريم. فالرغبة عند الرجل ستتقنع بالملائكي/الماورائي بغية الحفاظ على”العذرية المجازية” للراهبة، وعلى العفة والطهارة حتى بعد الاستسلام لفعل”دنيوي”مدنس: الممارسة الجنسية. وفي هذا التطور الحدثي نرى الحوار يتداخل بالفعل والوقائع، فيصبح السرد سريع الإيقاع، ويرتبط بالوصف الذي يرمي إلى تجسيد وتشخيص لحظة التحام الجسدين: الملائكي/الرجل المتخفي بالبشري/والراهبة. إن بنية السرد في هذه الحكاية تستند إلى القول/الحكي بصيغة الماضي الذي يجسد أفعالا قامت بها ثلاث شخصيات: الرجل-الغلام-الراهبة. وهكذا يصبح “القول” علامة دالة على الفعل الذي تم، ويرد “القول الحواري” على لسان الشخصيات. وتكرار لفظ القول: “قال-قالت” هو في حد ذاته فعل لأنه يحيل على الحدث وعلى الأفعال.
وإذا نظرنا إلى طبيعة الرؤية السردية التي تؤطر الحكاية، نجد”الرؤية من خارج”Vision du dehors هي المهيمنة. فالسارد يرصد أفعال الشخصيات من بعيد وبنوع من الحياد. فقد عمل على تقديم الشخصيات وإعطاء بعض المعلومات الأولية عنها، ثم ترك الحدث يتشكل من خلال حوار الرجل مع صبيه وحواره مع الراهبة. وإذا ما تدخل لتوضيح جانب معين، فإنه يدلي بصوته في حياد تام، ويتجنب التفسير والتحليل، ويكتفي بتتبع “أفعال الشخصيات” من خلال ذكره للحوار الدائر بينها، أو عن طريق إشاراته إلى حركاتها. ونلاحظ أن السارد لا يقوم بوصف الشخصيات أو الأمكنة وصفا دقيقا شافيا، إنما يركز على الضروري من العلامات التي تضعنا في بؤرة الحدث وتساعدنا على التواصل مع تفاصيله وجزئياته؛ بل إن صوته يتوارى أحيانا ليفسح المجال لصوت إحدى الشخصيات، فتصبح معرفته بما في دواخلها قاصرة لا تتشكل إلا عبر أقوال الشخصيات ذاتها. وهنا يقترب من”الرؤية مع”V.avec التي تكون المبادرة فيها للشخصية لتفصح عن مكنونها الذاتي ورغباتها الجوانية، كقول الرجل مخاطبا الغلام: “أنا منذ زمان أشتهي هذه الراهبة..”. فالشخصية تعبر، هنا، عن رغبتها من خلال الحوار المباشر، ويكتفي السارد بذكر هذا الحوار دون التعليق عليه أو توضيح أبعاده، ويترك الحدث ينساب في إيقاعه المتسارع.
وعلى الرغم من هيمنة هاتين الرؤيتين: من خارج/ومع، فإن “الرؤية من خلف”V.par derrière لها حضور. إن مجرد ذكر أقوال الشخصيات والتحكم في إيراد هذه الحوارات لنسج خيوط الحكاية يبرز لنا تلك المعرفة المسبقة عند السارد بأفعال شخصيته وبتوجه حركاتها وتطور الحدث الذي تسهم في تشكله. فنقل السارد لفعل المواقعة/الالتحام بين الراهبة والرجل يبين لنا ذلك الحضور المطلق للسارد وقدرته على رصد حركات وسكنات الشخصيات. وبذلك يصير السارد عالما بكل شيء، متمكنا من رصد مختلف التغيرات والتطورات الحدثيَّة. يقول:
“فقالت: ما بعد هذا ريب فشأنك وما جئت له، وشال برجليها وجعل يدفع فيها وهي تمرّ يديها على جنبيه كأنها تطلب شيئا، فقال لها: ما تلتمسين؟ قالت: نجد في كتابنا أن للملائكة أجنحة وأراك بلا جناح..”.
يقحم السارد، هنا، ذاته فيلج إلى الغرفة(البيت)التي نزل فيها الرجل بغية رصد تطورات الحدث. وهكذا، وعن طريق هذا الحضور الخفيّ يفصح لنا عن تمكن الرجل من جسد الراهبة وقدرته على ممارسة الجنس معها عبر فرض سلطته عليها. ولولا هذه الرؤية السردية لما عرفنا ما تم داخل “المخدع الرهباني”.
من خلال ما تقدم نتبين أن السارد استند إلى أكثر من رؤية لصياغة حكايته التي تندغم فيها الرؤى الثلاث. وبذلك استطاع أن يضعنا في إطار الحدث الذي يتشكل عبر أفعال الشخصيات التي يرصدها بنوع من الموضوعية والحياد، من جانب، أو عن طريق جعلها تتحدث بلسانها وتفصح عن رغباتها، من جانب آخر. وقد أدى الحوار دورا فعالا في صوغ الحكاية ونسج عوالمها. وبذلك يتضح لنا أن السارد لا يوظف”رؤية” أحادية مفردة للإحاطة بالأحداث، وإنما احتاج إلى أكثر من”زاوية نظر” لرصد الوقائع والأحداث، وللإحاطة بأفعال الشخصيات وبحالاتها الوجدانية، حسب ما تقتضيه بنية الرواية التراثية التي تفترض تسلسلا في الرواة/الساردين. وبذلك استطاع هذا التشكيل السردي أن يطلعنا على أدق التفاصيل، وأن يبرز لنا انتصار “الرغبة” وتراجع لغة القمع والتقيد عبر توظيف الخطاب “المقدس” ذاته في سياق آخر.
2-3/الزمان والمكان
إن الإشارة إلى الزمان في هذه الحكاية شبه منعدمة على الرغم من أهميته في صنع الأحداث وتشكيل قسمات الوقائع. ولكن من خلال ذكر السارد لفصلي الصيف والشتاء، ومن خلال قراءة تفاصيل الحدث الرئيس يمكن إدراك زمان القصة. فإذا نظرنا إلى أنواع الفواكه التي انسابت من الأعلى نحو الرجل والراهبة، وهي: الرمان والسفرجل والخوخ والكمثراة، نجدها فواكه ربيعية صيفية امتلكها الرجل- الذي يبيع فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء للملوك- قصد ترويجها في غير أوانها، وبذلك يتضح أن زمان القصة هو فصل الشتاء. ويتأكد هذا الاستنتاج من خلال تلميح السارد على لسان الرجل إلى انقطاع السبيل بهذا الأخير ومداهمة الليل له. فلو كان الفصل صيفا لما أقدم الرجل على هذا الادعاء لأنّ المسافة الفاصلة بين غروب الشمس وظهورها ثانية قصيرة، ولأنّ فترة الصيف لا يحتاج المرء خلالها إلى الاختباء داخل دير بعيدا عن زهو الحياة وجمالها، ولأن الراهبة قد قبلت قوله، يتبين أن زمان جريان الحدث هو فصل الشتاء بزمهريره وقساوته. أما الوقت الذي يتم فيه فعل الالتحام بين الرجل والراهبة ووصول الحدث إلى ذروته فهو الليل بظلامه الساتر الذي يتقنع به الرجل- كما تقنع بالخطاب الديني والفاكهة وصفة الملاك- لقضاء مأربه.
هذا من حيث طبيعة زمان الحكاية، أما إذا نظرنا إلى الزمان التاريخي، فالملاحظ أن السارد لا يحيل على حقبة تاريخية معلومة ومحددة، وإن كانت لفظة “كانت” التي أشرعت باب الحكي تشير إلى زمان ماض تم فيه الحدث وانتهى، لكن هذا الإطلاق الزماني له دلالته العميقة، ولا شك، المتمثلة في تأكيد أن مثل هذا الحدث قد يتكرر مرارا في التاريخ ما دام هناك رجل وامرأة وما دامت تنبض في أعماق البشرية دماء الرغبة.
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن المكان في هذه الحكاية نجده هو الآخر غير محدد جغرافيا. إنه مكان مجهول لا نعثر عليه في خارطة العالم، لكننا نعرف بعض ملامح الدير والغرفة التي اجتمع فيها الرجل بالراهبة. وبذلك يتخذ المكان صفة المطلق أيضا ويشير إلى نفس حمولة الزمان الدلالية. وإذا كان السارد قد أغفل الإشارة إلى مكان جغرافي معين، فإنه لم يغفل ذكر بعض الأماكن الجزئية والضرورية التي ساهمت في تطور الحدث ونموه، ومن ثم السير به نحو الاكتمال: تحقق رغبة الرجل. وأبرز مكان، هنا، هو الدير الذي ارتبط باللاحرية وبتقيد الرغبة -ولا شك- في ذهن المتلقي، لكنه تحول عبر حيلة الرجل إلى فضاء لتصريف الرغبة، ومن ثم تحرير الراهبة من خلال ربطها باللامحدود عن طريق خرق القانون(لعبة مسايرة الخطاب مع خرق سننه(Code) ). فالمكان الذي كان قمعيا صار فضاء تحرر عبر انفتاحه على عوالم الإيهام. أي أن الفضاء السلطوي(المقدس)سيخضع لشروط الرغبة وطبائعها لتقوَّض دعائمه عن طريق الممارسة الجنسية. إن الجنس حرر المرأة كما حرر المكان:
كسر قانون الرهبانية—->البعد عن متع الحياة—>إلغاء الجسد وتدجينه لصالح الروح.
وإذا كان فضاء الدير يتميز بالضيق والانغلاق، فإن الرجل استطاع اختراقه عبر ادعاءين:
الأول: كونه قد انقطع به الطريق وداهمه الليل، ولذلك صار المكان(الدير)مصدر ألفة ودفء، وأصبح ملجأ ومأوى من واقع خارجي متعدد المخاطر.
الثاني: إيهام الراهبة بعلويته وارتباطه بمكان أسمى وأعلى مكانة(الجنة). وبذلك تمكن من اقتحام جسد الراهبة بعدما اقتحم أسوار الدير وبوابته العتيدة.
ونلاحظ أن اللعب بالمفارق(سمة أشرنا إليها سابقا) تحضر هنا في شكل تراسل بين الفوق (الجنة) والتحت (الأرض/الدير)، وبين الواقعي والمتخيل. وقد لعب الرجل على البعد الأول لإيهام الراهبة بعلويته. إن النظر إلى الأعلى والدعاء اللذين تبعهما نزول الفاكهة كلها مؤشرات صانعة أو مشكِّلة للفكر ومؤثرة في الوجدان. وهي علامات جعلت الراهبة ترضخ لرغبة الرجل. فهذا اللعب على الأبعاد المكانية: فوق/ الجنة أو بالأصح السطح في علاقته بالأفقي/الدير علاقة سلطة جديدة تتشكل ملامحها عن طريق الإيهام. فبعدما كان “البيت”مرتبطا قبل الحدث بالعبادة والطهر والقداسة صار بعد مجيء الرجل وادعائه “الملائكية” وإرسال الفواكه(فواكه الجنة!)من الأعلى مكانا مرتبطا بالمدنس، بفعل الرجل المتلبس بالشهوة، ولكنه على الرغم من ذلك حافظ على طهريته وعذريته في تصور الراهبة.
هكذا يسهم فضاء الدير في إبراز القيمة المزدوجة للمكان:إنه مكان الطهر، وهو مكان العهر أيضا. فالمكان يحمل في هذا السياق أبعاد المفارقة والتضادّ، من جانب، بين الدير(العبادة/الصفاء..) والأرض خارجه، خاصة قبل اكتمال الفعل، لكنه يتحوّل من جانب آخر، بعد ممارسة فعل الجنس إلى فضاء يتشابه بالأماكن الأخرى عبر انفتاحه على الدنيوي أو البشري. وهكذا تصبح المفارقة لاصقة بالدير ذاته.
في ضوء ما سلف نلاحظ أن المكان قد ساهم في تحقق الرغبة ببعديه الواقعي والمتخيل(المتوهم)عن طريق البحث عن ثغرات الخطاب الديني الرهباني ذاته بغية النفاذ إلى عقر داره(الدير)والتحكم في قدرات أصحابها(الراهبة)النفسية والعقلية، ومن ثم إخضاعه للرغبة المبيتة.
من خلال كل ما تقدم نتبين أن كل الإمكانات الفنية الموظفة في الحكاية قد عملت على إبراز الدلالة وتوضيحها. وأن الدلالة تشكلت عبر بنية لغوية جمالية راقية وظفت فيها أقل السمات ولكن أنفذها في التعبير عن الغايات والمرامي. والملاحظ في كل ذلك القيمة التي حظي بها الجسد والدور الذي أداه خطاب الجنس في تفكيك المقدس وإعادة النظر فيه من زاوية لا تخلو من باروديا وإعادة مساءلة للكائن وانفتاح على الممكن. فهل التنوير وليد عصرنا أم كان أجدادنا أسبق منا إليه؟!
هوامش ومراجع:
1/ الإمتاع والمؤانسة، تح. أحمد أمين وأحمد الزين، دار مكتبة الحياة، بيروت، (د.ت)، ج.2، ص.60.
2/ المقابسات، تح. محمد توفيق حسين، دار الآداب، بيروت، 1989، ص.299.
3/ الإمتاع والمؤانسة، ج.3، ص.132.
4/ المقابسات، ص. ص. 294- 295.
5/ البصائر والذخائر، تح. وداد القاضي، دار صادر/ دار بيروت، 1988، ج. 9، ص. ص. 119- 120.
6/ نفسه، ج.4، ص.75.
7/ البصائر والذخائر، ج.6، ص. ص. 158-159.