المتخيّل مبحث جدّ هامّ و جدّ شائك و جدّ مركّب. ولكنّنا نظنّ أنّه لم يحظ بالدرس الوافي وبالمقاربة الصادقة الّتي ترنو إلى كشف الحقيقة في عُري لا يرهب الحقيقة.
فما القصد بالمتخيّل؟ وما علاقة المتخيّل بالخيال؟ و ما علاقته بالصور المحمولة؟ وما علاقته بالتّمثّلات أو التّصوّرات؟ وما علاقة المتخيّل بالرموز؟ وما علاقته بالأساطير؟
لا نقصد من خلال هذا المبحث البحث في المتخيّل عامّة، بل قصدنا محاولة تبيّن العلاقة ما بين المتخيّل والمرأة، أو دور المتخيّل في تكريس الوضع الدّونيّ للمرأة.
فالمتخيّل حسب تصوّرنا هو ما يحمله المجتمع العربيّ الإسلاميّ عن المرأة من صور وتصوّرات وتمثّلات. المتخيّل هو تلك الصور المحمولة عن المرأة والّتي تضرب بجذورها في أعماق العقل العربيّ الإسلاميّ و يكون من الصعب بمكان محاولة زعزعة هذا المتخيّل. فليس بالإمكان هزّ ذلك المتخيّل المتراكم عبر أجيال وأجيال حتّى أضحى من المقدّس لا ينفكّ منه أو عنه. ولكن قد ننجح في محاولة قراءة أو فهم هذا المتخيّل الّذي يسكننا ويحدّد مساراتنا ويرسم طرائق تفكيرنا دون أن نعي ذلك.
كما يمكننا تفريع المتخيّل إلى عدّة فروع قد تتشابك وقد تتقاطع، فنجد المتخيّل الدّينيّ والمتخيّل السياسيّ والمتخيّل الشعبيّ والمتخيّل الأدبيّ… لكن الطريف أنّ هذا المتخيّل يكاد يجمع على رسم صورة نمطيّة دونيّة عن المرأة.
إذن المتخيّل إنسانيّ يصنعه الإنسان وموضوعه الإنسان.
غير أنّ ما يهمّنا من المتخيّل هو ما يتعلّق بالمرأة. ولنا أن نتساءل في هذا الإطار: من صنع و يصنع المتخيّل؟ الأفراد أم الجماعات أم المؤسّسات على اختلافها؟ هل عمليّة صنع المتخيّل عمليّة عفويّة أم يُقصد إليها قصدا؟
غير أنّنا لا نخالنا نجانب الصواب إن قلنا بأنّ المتخيّل ذكوريّ وأنتجه الذكور ككلّ الإرث الإنسانيّ.
فالمتخيّل الشعبيّ منه بالأساس هو الحصن الّذي يُغذّي و يتغذّى من النصوص المقدّسة من أجل إحكام السيطرة على النّساء ولاسيّما أجسادهنّ. إذن المتخيّل أنتجه الذكور بهدف السيطرة على المرأة وغلق الأبواب دونها ورسم الحدود لها والقيود.
ولذا نقول بأنّ المتخيّل سلطة رمزيّة لامرئيّة يمارس سلطة وعنفا على الإنسان ولاسيّما المرأة وأساسا على جسدها. فالمتخيّل كما نراه هو تلك الصور المحمولة عن المرأة، هو العادات والمعتقدات والتمثّلات والذهنيّات والعقليّات الّتي تحاصر المرأة وتحاصر جسدها وتقيّده بجملة من الموانع والمحرّمات.
إذن ألا يكون المتخيّل حسب هذا التّصوّر اللامعقول والمسكوت عنه والمحظور الخوض فيه؟ فهذا المتخيّل هو الّذي رسم حدودا لجسد المرأة وحرّم الخوض فيها أو التفكير فيها. ألا يكون المتخيّل هو تلك الثغرات الّتي تركها النصّ المقدّس وملأتها الذاكرة الشعبيّة؟ قد لا نحيد عن الصواب إن قلنا بأنّ الهدف من المتخيّل هو السيطرة على أجساد النساء والحدّ من حريّة تحرّكهن بين الفضاءين الداخليّ والخارجيّ.
ولنا أن نتساءل في هذا السياق: ما هي خلفيّات الصور الّتي يحملها المتخيّل العربيّ الإسلاميّ عن المرأة ؟ ما هي ينابيع أو أصول المتخيّل حول الجسد الأنثويّ ؟
ولنا أن نقول بوضوح بأنّ المتخيّل ذكوريّ صنعه الذكور بالاعتماد على النصوص المقدّسة.فهذه النّصوص المقدّسة هي الّتي غذّت المتخيّل و مدّته بالسلطة الدّينيّة وبذلك تحوّل المتخيّل إلى مقدّس لا يمكن الخوض فيه أو التّفكّر في مقولاته فارتبط بالمسلّمات والبديهيّات الإيمانيّة الّتي يمتزج التفكير فيها بالكفر والشرك بالله.
فلا يمكننا أن ننكر أنّ تلك الكتب المقدّسة (ونقصد القرآن والحديث وكتب الفقه) تحتفي بالنصوص التمييزيّة بين الجنسين، كما أنّ تلك الكتب هي الّتي ذكّت أسطورة الكيد النّسويّ (سورة يوسف) وهي الّتي دعت إلى تعنيف جسد الأنثى الناشز من الهجر في المضاجع إلى ضربه. تلك النصوص هي الّتي قضت بتحجيب أجساد النساء. كما أنّ المدّونة الفقهيّة مدوّنة تمييزيّة بامتياز. فهي تحفل بالتشريعات الخانقة للمرأة والحاطّة من شأنها ومن إنسانيّتها. إضافة إلى مدوّنة الأحاديث المنسوبة إلى الرسول والحافلة بالأحاديث التمييزيّة والمحقّرة من شأن المرأة.
وما نودّ التأكيد عليه أنّ هذا المتخيّل الّذي وقوده النصوص المقدّسة هو الّذي اختزل المرأة في الجسد بل في عضوين منه: المهبل والرحم. هذا المتخيّل هو الّذي اختزل جسد المرأة في عضوها الجنسيّ الخطير الّذي يهدّد شرف الرّجل ويحدّده إيجابا أو سلبا.
فمن منّا لم تستمع إلى عضوها الجنسيّ يُنطق به في الشارع؟ ففي كلّ لحظة وحين ونحن نقصد المدرسة أو المعهد أو الجامعة أو نقصد السوق أو نمشي في الطريق أو نجلس أمام بيوتنا أو نطلّ من شرفات منازلنا نسمع ونستمع إلى شتائم أو إلى تغزّل بأجسادنا فنستمع إلى أعضائنا التّناسليّة أو أعضاء أمّهاتنا أو أخواتنا أو قريباتنا. فما معنى ذلك سوى أنّ هويّتنا تُختزل في أنّنا إناث حتّى إن لبسنا جلبابا، حتّى وإن أسدلنا نقابا؟ فكم من محجّبة تحجّبت ردّا على ما كانت تلقى من تحرّشات جنسيّة إلاّ أنّ حجابها لم يمنع أن يلامس عضو ذكريّ مؤخّرتها في حافلة أو يد تعبث بثديها وسط زحام سوق أو ما شابه؟ فماذا يعني التحرّش الجنسيّ في أيّ مكان يمكن أن يوجد فيه رجل غير الاحتقار والتمييز و العنف ضدّ المرأة ومحو إنسانيّتها واختزالها في الجسد و في الجنس؟ و ماذا يعني الاغتصاب غير اعتبار المرأة مجرّد موضوع جنسيّ يُشتهى أو وعاء جنسيّ يُرغب فيه ليحقّق استمناء الرجل؟ و ما معنى الخفاض أو ختان الإناث في بعض الدول العربيّة الإسلاميّة غير الخوف من سلطة الجسد الأنثويّ ومحاولة للحدّ من شبقيّته وقتل الرغبة فيه ليصبح فقط مساعدا على تحقيق رغبة الرّجل دون أن يرغب.
لذا يمكن القول بأنّ جسد المرأة صنعته تمثّلات المجتمع العربيّ الإسلاميّ حول المرأة. فلا مناص من القول بأنّ التقاليد والأعراف والعادات هي التّي حاكت وصنعت جسد المرأة و قيّدته بجملة من الموانع والمحرّمات.
غير أنّ الطريف في الأمر أسطرة المتخيّل لجسد المرأة وتحويله إلى أسطورة. أسطورة شيطنة الجسد الأنثويّ من جهة وأسطورة قدسيّته من جهة أخرى.
فجسد الأمّ أو جسد الحامل غير جسد العاقر وغير جسد المطلّقة وغير جسد العزباء و غير جسد الأنثى عامّة. فجسد الأمّ لاسيّما الّتي تحمل رضيعا بين ذراعيها أو جسد الحامل قد يفقد الفتنة وقد لا يثير رغبة الّرجال. فقد ترضع الأمّ طفلها أمام مرأى من الرّجال دون أن تخجل ودون أن تبعث تلك الصورة الرغبة في الرّجال. فذلك الثدي الّذي قد يثير غرائز الرّجل قد تحوّل إلى عضو يقدّسه الرّجل أو بالأحرى يرهبه لأنّه يذكّره بصورة أمّه. وكأنّنا بالرّجل لا يحترم إلاّ الأجساد الفاقدة للرغبة أو الّتي لا تثير الرغبة.
أمّا الأسطورة الثانية المتعلّقة بجسد المرأة فهي أسطورة شيطانيّة الجسد الأنثويّ فكثيرا ما اقترنت صورة المرأة بصورة الشيطان وكثيرا ما قرن بين جسد الأنثى وبين إبليس. فالمرأة حسب هذا التّصوّر ليست إلاّ حليفة إبليس الّتي ساهمت بمعيّته في إقصاء الرّجل من جنّة الرحمان إلى جحيم الدنيا. كذا المرأة وسيلة إبليس المثلى الّتي من خلالها يُحال بين الرّجل وربّه. فكما يفتن الشيطان الرّجل المؤمن عن عبادة ربّه تحجب المرأة وتفتن الرّجل عن عبادة ربّه. ويبالغ المتخيّل العربيّ الإسلاميّ في تضخيم هذه الصورة الشيطانيّة عن المرأة و ينفي عنها كلّ هويّة ماعدا أنّها أنثى فتّانة نزّاعة إلى الخطيئة والفاحشة.
لذا لنا أن نقول بأنّ المتخيّل هو الّذي يتحكّم ويحكم الجسد الأنثويّ. فالمتخيّل هو جملة التمثّلات والصور القابعة في عمق العقل الإنسانيّ والموجّهة لطرائق تفكيره. الجسد الأنثويّ سواء كان عاريا أو محجّبا يعكس الجسد المتخيّل الّذي يتصوّره العقل العربيّ الإسلاميّ. فهذا المتخيّل يسعى إلى ترويض الجسد الأنثويّ وإلى إقصائه وتحجيبه وحجبه تحت ثوب سميك أو وراء باب مغلق أو من خلال عقل منغلق.
و في هذا الإطار لنا أن نتساءل: لماذا تُحجّب المرأة؟ ما هي الأسباب الحقيقيّة العميقة وراء تحجيب أجساد النّساء؟ قد يجيب البعض بأنّ الحجاب فريضة. لنفترض جدلا أنّه فريضة، فلم فٌرض الحجاب؟ لن ندخل في متاهات هذا الموضوع و لكن لنا أن نسأل لم لا تحجّب المرأة المتقدّمة في السنّ بل يسمح لها بتركه؟ ولماذا لا تراقب المرأة العاقر والمرأة المتقدّمة في السنّ كما تراقب بقيّة النّساء؟
ما نودّ التأكيد عليه من خلال ما تقدّم هو أنّ قضيّة المرأة لا يمكن أن تحلّ ما لم تتغيّر النظرة إلى المرأة. ولا مجال لتحرّر المرأة ما لم تتغيّر الذهنيّات والصور المحمولة عنها والمتراكمة عبر عقود من الزمن كثيرة.