إنَّ الجسد ليس تجميعاً ميكانيكيَّاً لأجزاء مختلفة وما هو بالشَّيء الغامض والعصيِّ على التَّفسير: إنَّه يفكِّرُ في الجسد على أنَّه لعبةٌ مرنةٌ مكوَّنةٌ من أجزاء قابلةٍ للثَّنيِ والمقارَنة. يطلق نيتشه على هذه الأجزاء الصَّغيرة التي تشكِّلُ الجسدَ وتُديره اسمَ «كينوناتٍ مجهريَّة»، والتي ليست «ذرَّاتٍ روحيَّةً»، وإنَّما «كينوناتٍ تنمو، وتكافحُ، وتَقوى أو تَفنى». على هذه الكينونات أن تفرض نفسَها، فالتي هي أقوى تزدادُ قوَّةً، وتذهب إلى ما هو أبعد، وأمَّا الأجزاء الأضعف فتُطيعُ أو تَفنى لتترك مجالاً لغيرها. إنَّ إرادات جميع الكينونات هي نفسُها في الظَّاهر فحسب: هناك في الواقع تراتبيَّةٌ هرَميَّةٌ تقع فيها الإرادات القويَّة الفاعلة فوق الإرادات الضَّعيفة الارتكاسيَّة، وهو ما يسمِّيه نيتشه «أرستقراطيَّة». ليس هناك أحَديَّةٌ للجسد، بل هناك تجمُّعيَّةٌ لمجموعٍ من الكينونات، وكلُّ كينونةٍ حرَّةٌ في فرضِ نفسِها أو الخضوع. يكتبُ نيتشه: «إنَّ الإنسان لَيبدو حشداً من الكينونات». أمَّا الأحَديَّةُ الظَّاهرة فتنشأ من حقيقة أنَّ الجسدَ واحدٌ. الجسدُ لن يكون مفهوماً كمجموعٍ، ولكن كتراتبيَّةٍ هرَميَّةٍ، تراتبيَّةٍ في الدَّوافع، والقوى، وإرادات القوى.
ولكن يبرزُ لنا هنا وبصورةٍ تلقائيَّةٍ هذا السُّؤال: كيف يمكن أن يكون هناك انسجامٌ في هذه التَّعدُّديَّة غير المتكافئة والتي هي في صراع؟ بالنِّسبة إلى نيتشه، الأمرُ واضحٌ: البعضُ يرضى بالانصياع، يوافق على أن يكون خاضعاً، بشكلٍ لا يواجه معه الآخرون القادرون على القيادة أيَّةَ صعوبةٍ في فرض حُكمِهم على هذه التَّراتبيَّة. من هنا ينبع هذا الانسجامُ بين الإرادات المختلفة. إنَّ لدينا عصياناً واضحاً للأجزاء الأضعف، المسيطَر عليها جميعاً. وطبعاً هذه الأجزاء هي في تضادٍّ مع بعضها، ولكنَّها في النِّهاية تتحدَّث اللُّغةَ نفسَها. ما الذي يدفع نيتشه في هكذا تكلَّم زرادشت إلى النَّظر إلى الجسد على أنَّه «عقلٌ عظيم»؟ إنَّ الجسدَ يتفوَّق على العقل، على مستوى الذَّكاء وليس على مستوى المشاعر وحسب. الجسدُ يكتنفُ العقلَ ويحكُمُه، وليس العكس كما نقلَ لنا تاريخُ الفلسفة. الجسدُ ليس شيئاً وإنَّما حراكاً، لَفيفاً، تعدُّديَّةَ قوى، وإراداتِ قوى. جميعُ القوى ترسلُ معلوماتٍ، ليس آليَّاً، وإنَّما وفقاً لنظامٍ فطريٍّ: أي أنَّ هذه الرَّسائل هي تجلِّياتٌ للإرادة. وبعبارةٍ أخرى، إنَّ منهج التَّواصُل هذا ليس سوى صراعٍ مستمرٍّ، طويلٍ وعنيفٍ، وفي بعض الأحيان شَرِسٍ. واختتاماً لهذه المسألة حول مفهوم إرادة القوَّة وارتباطه الجوهريِّ بالجسد نخلُصُ إلى أنَّ الجسدَ، في نظرِ نيتشه، هو أفضلُ قائدٍ، لأنَّه رمزٌ لإرادة القوَّة. وكما كتبَ باتريك ووتلينغ في كتابه نيتشه ومشكلة الحضارة، الجسد هو «موضعُ تنفيذ» إرادة القوَّة.
علاقةُ نيتشه بجسدِهِ وبالمرض
في عملِهِ يحوِّلُ نيتشه سببَ المرض إلى استعارةٍ مجازيَّة. فهذا المرضُ الجسديُّ، المادِّيُّ، هو بالنِّسبة إليه رمزٌ لثقافةٍ في طورِ انحطاط. هذه الحضارةُ منحلَّةٌ ومريضةٌ بسبب نكرانها الجسد. الجسدُ يمرضُ، يتعذَّبُ، ولذلك فمن الأفضل التَّنازلُ عنه. يستخدم نيتشه كاستعارةٍ الجهازَ الهضميَّ لدعم نظريَّاته. ثمَّة مثالان: مثال أ) يصوِّرُ فيه إرادةَ القوَّة وفقاً لنموذج عمليَّةِ الهضم؛ مثال ب) يرى فيه أنَّ التَّأويلَ السَّلبيَّ للواقع يُحكَمُ عليه من خلال مقارنته بخللٍ هضميٍّ. لقد ندَّدَ بالصِّبغةِ العدميَّةِ للرُّوح الألمانيَّة في هذا هو الإنسان («لِمَ أنا على هذا القدْر من الذَّكاء» فقرة 1) بقولِهِ: «تمثِّلُ الرُّوح الألمانيَّة حالةَ عسرِ هضمٍ؛ إنَّها لا تستطيع الحسمَ في أيِّ شيء». وسيقول أيضاً، بمزيدٍ من حسِّ الفُكاهة: «إنَّ اقتراب ألمانيٍّ منِّي قد يؤخِّرُ عندي عمليَّة الهضم». يريد نيتشه، وفقاً لصيغتِهِ في الشَّذرات، «الفيلسوفَ كطبيبٍ للحضارة». وهو يسعى، من وراء صورةِ المرضِ هذه، إلى إبراء جمهرةٍ مصابةٍ عميقاً بالسَّرطان من خلال فلسفته. وفقاً له، ليس هناك حاجةٌ لرفضِ أو لتملُّق الصِّحَّة والمرض، فليس هناك حالةٌ طبيعيَّةٌ للصِّحَّة، بل هناك فقط ظروفٌ تبدو لنا جيِّدةً لجسدنا. إنَّه يرفض ثنائيَّةَ الصِّحة/ المرض. وبتعبيرٍ آخر، علينا أن نزيلَ من أذهاننا أنَّنا جميعنا سواسيةً أمام المرض والصِّحَّة. يقولُ في العلم المرِح (فقرة 120): «في الواقع لا توجد صحَّةٌ بذاتها، وكلُّ المحاولات لتعريفها قد باءت بالفشل على نحوٍ ذريعٍ. فما يحدِّدُ ماذا ينبغي أن تعني الصِّحَّة حتَّى بالنِّسبة إلى جسدك إنَّما يعتمدُ على هدفك، وأفقك، وقواك، ودوافعك، وأخطائك، ويعتمد بشكلٍ خاصٍّ على مُثُلِ روحك وخيالاتها. وهكذا فإنَّ هناك حالات صحَّةٍ لا حصر لها للجسد». المرضُ ليس ببساطةٍ النَّفي المطلَقَ للصِّحَّة. يقول في مقدِّمةِ العلم المرِح: «الفيلسوف الذي اجتاز وما يزال يجتاز حالاتٍ صحِّيَّةً مختلفةً، هو فيلسوفٌ اجتاز العديد من الفلسفات: لم يكن في وُسعه إلَّا أن يحوِّلَ كلَّ قولٍ من أقواله إلى الشَّكل والأفق الأكثر روحانيَّة؛- فنُّ التَّحوُّل هذا، هو الفلسفة».
هذه بالتَّأكيد ليست عبارةً تعبِّرُ عن سيرة حياة نيتشه الذي كان في أغلب أوقاته مريضاً وفي حالةٍ جسديَّةٍ سريعة التَّدهور. الأمرُ في الواقع هو أنَّ نيتشه، ومن خلال تجربته الخاصَّة، كان يؤسِّسُ فِكْرَه على الجسد والمرض. ثمَّة تواشجٌ شخصيٌّ قويٌّ ما بين حياة نيتشه وفلسفته. وجديرٌ بالذِّكر على نحوٍ خاصٍّ أنَّه، في الفترة التي كان يكتب فيها زرادشت، كتبَ في هذا هو الإنسان («لماذا كتبتُ كتباً جيِّدةً» المقطع 4): «لقد كانت خفَّة حركة العضلات دائماً أكبر في داخلي عندما كانت القدرة الإبداعيَّة أقوى. الجسدُ مُستثارٌ». ثمَّ إنَّه يفضِّلُ أن يتحدَّث عن «الانحطاط» كمرضٍ، وهو مصطلحٌ لا يستخدمه بمعناه السَّلبيِّ. فهو ليس شيئاً تجب محاربتُه، بل ينبغي بدلاً من ذلك الاحتراسُ من انتقال العدوى ومن محاولة إلغاء الوجود. المرضُ وفقاً لنيتشه ليس سبباً، وإنَّما انعكاساً للانحطاط.
******
الحواشي (كما وضعها المترجِم):
1 – نومينُن Noumenon هو مصطلَحٌ فلسفيٌّ يُقصَد به «الشَّيء في ذاته»، وهو يُستخدَم كمصطلَحٍ مضادٍّ مع مصطلح فينومينُن Phenomenon أي الظَّاهرة.
2 – مطلعُ النَّصِّ المشار إليه: [يبقى لنا طريقٌ واحدٌ للسَّير: الوجودُ هو موجودٌ. ويوجد حشدٌ من الإشارات التي تؤكِّدُ أنَّ الوجودَ ليس مخلوقاً وليس فانياً، لأنَّه وحدَه الكامل، الثَّابت والأبدي، ليس بإمكاننا أن نقول إنَّه كان أو إنَّه سيكون…]. انظرْ الصَّفحة 194 من كتاب «بداية الفلسفة» لهانز جورج غادامير، ترجمة: علي حاكم صالح وحسن ناظم، دار الكتاب الجديدة المتَّحدة، بيروت، ط1، 2002.
3 – من كتاب «هكذا تكلَّمَ زرادشت».
4 – يميِّز هوسرل في كتابه «تأمُّلات ديكارتيَّة» بين Leib أي الجسد الإنسانيِّ بما له من فرادةٍ وبين Körper أي الجسم.