المدنّس والمقدّس: في المفهوم الفلسفي للجسد (1)
تندرج أطروحات فلسفة الجسد في إطار المستوى الحضاري والفكري والاجتماعي الحاضن لأسباب نشأته، ويعتبر التحديد الفلسفي لمفهوم الجسد مرآة للثقافة الاجتماعية والدينية المعاصرة له، وهو ما يؤكد على تطوّر هذا المفهوم بتطوّر الزمن وبمرور عجلة التاريخ، حيث رافقت هذه الإشكالية الحقبات التاريخية المتواترة بداية من الفلسفة اليونانية وحتى الفلسفة المعاصرة. ولربّما أوّل ما يعترض تساؤل الانسان هو ماهيّة الفرق بين الجسد والجسم باعتبار أن المفردتين تؤولان لنفس الشكل المرئي الذي عليه يكون المخلوق البشري، في هذا الصدد يقول رسول محمد رسول: “يمكن تعريف الجسم بأنّه شيء له شكل وثقل ولون وطعم وطول وعرض. أمّا الجسد فيمكن تعريفه بأنّه كينونة رمزية وإيحائية وإشارية وأيقونية تضاف إلى الأجسام من خلال تمثيل الإنسان لها، لتحقق وجودها المرئي الذي يمكن أن يكون هنا أو هناك، ما يعني أنّ الجسد لا يعدو أن يكون إلا قيمة مضافة إلى واقع الأجسام، وبالتالي إلى الواقع برمته، وبحسب قوة حضور الجسد فيه. لكن هذه الكينونة لم تأت وتضاف من العدم، ففي كل الأجسام ثمة شبكة متخفية من القوى التي تحث على ظهور الجسد، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يخرجها، وعلى نحو رائق، من دياجير الأجسام وظلماتها إلى أضواء وأصوات وأطياف الأجساد الرمزية والإيحائية والاشارية والأيقونية من خلال تمثيلات الإنسان لمثويات وكوامن ومحجوبات ومتواريات تلك الشبكة”(1).
إن هذا الجسد، مكمن التساؤل وحيرة الفلاسفة، قد أثبت على مرّ التاريخ أنّه سيّد الكون ومصدر الحياة وينبوع الاستمرار البشري، ومهما كانت الطروحات المختلفة والمتضاربة والمتشابهة في إتيان تعريف محدّد لمفهوم الجسد، يبقى هذا الأخير، اللغز الأبدي والحقيقي الملموس، ذو الأبعاد المادية والميتافيزيقية، مواكبا لكل عصر، مقتحما الفلسفي والسياسي والبيولوجي والديني.
منذ بدائيّته وحفره في الجبال والكهوف واصطياده فرائس البريّة، وحتى صعوده كواكب من الكون وخضوعه لسلطة التفوّق العلمي ومخابر التشريح وفرضيّات الاستنساخ والتجارة به عضويا وجنسيا، واستغلاله في الحروب واستعباده وانتهاكه وتعذيبه وإعدامه وسجنه وتحريره وتسويقه، وإخضاعه لأرقام القياسات العالميّة المقنّنة لاقتصاديات الرأسماليّة المتوحشة، وزجّه في سياسات قيادة القطيع وتدجينه في منظومة الطبقات العاملة المسحوقة. نتساءل عن سببيّة هذا الموجود الغامض – الواضح، هل هو نعمة الانسان أم نقمته؟ وهل يقودنا الجسد يوما إلى حتميّة الإجابة الشافية لكل تساؤلات ونظريّات الفلاسفة في حقيقة واحدة موحّدة تُنهي كل الفرضيّات السابقة واللاحقة؟
سنتطرّق في هذا البحث على ضروب من التعاريف والنظريّات المعالجة لمفهوم الجسد، في صفات مختلفة ومتباينة ومتشابهة بين التدنيس والتقديس والتحديد الموضوعي لماهيّة الجسد، من خلال تنظيرات بعض الفلاسفة ابتداءً من الحضارة اليونانية وحتى الفترة المعاصرة.
1. الجسد المدنّس
في المفهوم الكلاسيكي
لقد كان لفلاسفة القرون الوسطى نظرة سلبية لمفهوم الجسد، حيث يعتبره سقراط مصدر عفن تسكنه روح طاهرة وأنّ هذه الروح خالدة لا تزول بزوال الجسد، بل تغادره بفنائه وموته، وهو ما جعله يكره جسده ويزدريه، بل لقد حاول التخلّص منه عن طريق تجنّب كل الشهوات والأهواء المرتبطة بالجسد وانعزل كليا عن ملذات الأكل والشرب واللبس، لقد كان يرنو إلى الموت هربا من الجسد ورغبة منه في إدراك جوهر الروح الخالصة ويعتقد بذلك أنّ الحياة مرتبطة بالجسد وهو الرذيلة، وأن الروح هي من روح الله، فهي لا نهائيّة وهي التي تبشّر بكل معاني الفضيلة والرقي حيث يقول أنّ: “الروح سيّد يأمر، لأنّها جوهر إلهي غير قابل للتحلل والفساد، والفساد عبد مطيع ومرصود للفناء”(2) ويقصد هنا بالفساد، الجسد الفاني.
ويقول سقراط أنّ: “الروح التي تحلُّ في الجسد تجلب له الحياة، ولا يمكن أن تحصل على نقيض صنيعها الذي هو الموت”(3). ويفسّر بذلك تحقيره لشيئيّة الجسد بأنّه فاني بدون الروح، بينما الروح مكان ما حلّت فإنّها تبثّ الحياة والوجود سواء في الجسد أو بعد فناءه.