إدريس الخوري الكاتب الذي تسقط معه كل الجدران

قرأت مبكرا للراحل إدريس الخوري، بفضل صديق لا تفارق الكتب عينيه. كان بمثل سني، لكنه كان يفوق أترابه جميعا بقدرته الضاربة على اكتشاف ما نجهله. كنا نجهل، آنذاك، كتبا مثل «حزن في الرأس وفي القلب» و»الأيام والليالي» و»مدينة التراب». هذا الصديق يعيش في باريس الآن، وربما لا يتحدث إلا اللغة الفرنسية، لكنه جعلني أكتشف أن اللغة لغاتٌ، وأن لغة طه حسين وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران ومحمد لطفي المنفلوطي ويوسف إدريس ونجيب محفوظ مجرد قطع صغيرة في رقعة لغوية شاسعة.
هذا الصديق جعلني أقرأ أشباهي الذين تتقافز في نصوصهم كلمات مغربية في كامل ألقها وحيويتها، ومنهم إدريس الخوري الذي تربطني به صداقة أدبية وطيدة خارج متلازمة الدن والدورق. لم أكن أبادله كأسا بكأس هو الذي عاش الحياة طولا وعرضا حد الثمالة، بل جالست نصوصه طويلا، وسبرت بعض أغوارها، قبل أن أراه واقفا أمامي في مقر الجريدة هاشّا باشّا. كلانا كان يعرف الآخر، وكلانا قرأ للآخر. حييته باحترام التلميذ لأستاذه، لكنه فاجأني بتكسير كل الجدران أمامي. كما يكتب.. كما يتكلم، هذا الرجل. سليط القلم.. سليط اللسان. حقيقي جدا. ضحك الآخرون الذين زاملوه وتهجوا إنسانيته بالعمق الذي تستحقه: حسن نجمي، سعيد عاهد، لحسن العسبي، محمد بهجاجي، عبد القادر وساط. هم كانوا يعرفون أن لغته، مثل لغة قصصه، قائظة، وأنها تسير في الدروب بأقدام حافية. أليس هو القائل: «ليست حداثة القصة في الحذلقة اللغوية، إنها في الموضوع الذي تحلم بكتابته»؟. لم أكن أعرف أن الكاتب يمكنه أن يتحول إلى نص ناطق، وأن يزيل أي التباس بينه وبين ما يكتبه، إلا بعد أن التقيت بالخوري الذي كنت سعيدا جدا بتقديم شهادة في حقه ذات لقاء بالمحمدية، ومن جملة ما قلته:
«اكتشفتك مبكرا حين كانت المقررات المدرسية ترسلنا خفافا (ومع سبق الإصرار والترصد) إلى قريش.. ولا أعلم لماذا بقي جلباب «خديجة البيضاوية» تعبيرا عن مكسب لغوي مضاد لكل المؤسسات الفقهية التي حولتنا إلى معلبات.. ولا أعلم لماذا انحزت طوعا إلى اللغة المقموعة، اللغة التي ترتدي لباسا بسيطا يشبهني، اللغة التي نحس معها أن أحذيتنا ليست لامعة، اللغة التي تمشي تحت المطر وتستحم في المستنقعات و»تتشعبط» في الطوبيسات، اللغة الممشكلة التي لا تلقي التحية بالفرنسية، ولا تصحح أخطاء المستعمرين، اللغة الجائعة الثرثارة البركاكة.. «اللي ما عليها حكام»، اللغة المخرِّبة الوقحة المشعككة السكرانة غير العابئة بشعبها العربي، اللغة التي لا تلغي فرديتها، ولا تقيم حواجز بين ذكورتها وأنوثتها، اللغة التي تقذف برجلها قطا أو سمكة، اللغة التي الدرداء، اللغة التي تشرب في صحة باخ وفيفالدي بالحرارة نفسها التي تشرب في صحة «الحاجة الحمداوية» أو «بوشعيب البيضاوي»، اللغة التي تنسج علاقات خطرة بين أفلاطون وعارضة أزياء متقاعدة، اللغة التي تسلط أضواء كاشفة على الموديلات، لا ترمم أعطابها، بل لتدمر إصرارها على أن تكون استثناء، اللغة التي تقول دفعة واحدة (وبدون ترتيب) صباح الخير، بونجور، ميرسي أخويا، بارك الله فيك.. اللغة الزعرية التي تتردد على المقبرة كل صباح لتترحم أمها، اللغة المعجبة بألبوم صورها القديمة، اللغة التي لا تكتسب للشمس رسالة ولا تستظل بأي سماء زرقاء..
لقد استطاع الخوري أن يمنح لماسح الأحذية صوتا، ولبائع الزريعة عنوانا، وللبيضاء لسانا، وللأحمق جمجمة، وللشاعر أرضا، وللقاص جمجمة طفل يتنقل بين المدن والأحلام والفراشات.. فعل ذلك (ونجح فيه إلى أقصى حد ممكن) بدون وسائط بلاغية مترهلة، ودون أن يتحيز للمجازات المغلقة. لقد كان منحازا (فقط) لألاعيب العدسة وتخالف الضوء والظلال، ومتخففا من مجالس الوعظ والإرشاد والذكر والماكياج الرديء.
اكتشفت، فعلا، أنني أمام كاتب نظف يديه تماما من عوالق جبران والمنفلوطي والعقاد وطه حسين، وكل أسلحة الدمار الشامل التي كانت تأتينا مهربة من الشرق.. اكتشفنا معه أننا «دراري» وأننا نجلس على «السداري» وأننا «نخنزر» وأننا «مزنزنين» وأننا «خايبين».. إلخ.
واكتشفت أنني أمام كاتب حول جسده بكامله الى عيون. العين التي أرى بها الناس والأماكن والأشياء، ليست هي العين التي يراني بها الآخرون المندسون مثل قمل في جسمنا وفي وعيينا ولا وعيينا. هذا اعتراف صريح من الخوري في قصة جمجمة. ولذلك فإنه مهموم ومغموم بتحويل اللغة إلى حفلة بصرية خالصة مؤسسة على لقطات/ جمل شديدة البساطة والوضوح. ولذلك أيضا، نلاحظ في كل مجاميعه إحساسا عاليا بالتنقيط واهتماما فائقا بزوايا الالتقاط والبناء والتركيب، وهذا ما أفضى إلى ترابط تصويري على درجة لا يستهان بها من التماسك والانسجام البصري.
إن إدريس الخوري ها هنا يستعمل القلم مثل كاميرا محمولة يسيطر عليها فريق سينمائي كامل. فهو يتوغل بها في جميع الزوايا، محددا نوع اللقطة ومدة عرضها ونسبة الضوء والظل التي ينبغي استنباتها حولها.
واكتشفت أنني أمام كاتب يمضي وقتا لابأس به (وعن قناعة تامة) في البحث عن رقعة اختلاف أخرى في لغة التشكيل، وتحديدا حين يستخدم تقنية البورتريه ويضفي على الموديل وضعيات خارج أحكام السلوك المسبقة. فالموديلات تتحرك بحرية مسيطر عليها بأضواء عين متلصصة، هي تحديدا عين البورتريسيت الذي لا تهمه الدقة بقدر ما تهمه الارتعاشة والجرعات الضوئية والخبايا. واكتشفت أيضا وأيضا أنني أمام كاتب لا يمكن إقصاؤه، رغم أنه لا يبحث عن نتائج بلاغية أو فتوحات تجريبية من الجهد الجمالي الذي انهال على القصة المغربية. ويظهر ذلك بوضوح حين يبدي المؤلف والشخصيات والقارىء جميعا رغبتهم في مناقشة قضايا اللغة والتلقي، ويكشفون المرجعيات وأنساق العلاقات التي تربط بعضهم ببعض. وهذا ما تضج به مجموعتاه القصصيتان «يوسف في بطن أمه» و «مدينة التراب». فالخوري حين يلجأ إلى كشف المرجعية يمارس نوعا من الفانطازيا تسقط معه كل الجدران بين المؤلف والشخصيات والقارىء، ويفشي لنا أن هذا النوع من التبرج وتشويه الأخلاق القصصية لا يقع خارج القصة، بل إنه هو من يخلق نظاما سرديا اعتراضيا (أو نقديا) من الداخل. إنه يلعب مع القارىء والشخصيات ويسابقهم في ملء الثغرات.
واكتشفت في نهاية المطاف أنني أمام كاتب لم ينتم أبدا لمسرح أو كهف، ولم يرتم أبدا من سماء لأنه أرضي حتى قنة الرأس، كاتب لا يمارس النعومة أو المشرحة أو الرثاء.. أو الضحك أو الارتجاف أو الملائكة أو الشيطان، كاتب لا يتقن حرب التصنيفات.. كاتب خارج الحسابات.. يجلس في الظل ربما مع كأس.. أو مع حرب.. أو مع الرعاة.. أقصد رعاة الأدب.. وليس رعاة البقر«!


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 17/02/2022