إرهاصات الجدة والابتكار في قصص «ذات الوجه الطويل»

بإصداره لأضمومته القصصية الثانية «ذات الوجه الطويل»، يراهن القاص مصطفى الطاهري على رسم مسار كتابة سردية تروم المزاوجة بين نمطي القصة القصيرة والقصيرة جدا. فبعد أن تضمنت مجموعته الأولى «حين بكى الحصان» قصصا قصيرة جدا حبلى بتنوع وتعدد «التيمات» في أبعاد دلالية وجمالية تمتح من مرجعيات تاريخية ووجودية ودينية وفكرية … متوسلة بلغة قوامها الاقتصاد و الاختزال بحمولات مرتهنة لحس رؤيوي تنتأ إرهاصاته وتتمظهر تجلياته عبر أشكال إيحائية وتلميحية تقتضيها طبيعة أجناسية النصوص( قصيرة جدا) بكثافتها اللغوية وومضاتها الدلالية لتنضاف المجموعة القصصية الثانية «ذات الوجه الطويل» بإرساء أواليات سيرورة قصصية تتغيا الإضافة والتطوير عبر نصوص قصصية قصيرة تستحضر فيها الشخوص والأحداث بشكل أوفر، وفي حيز أرحب لرسم معالم عوالم سردية مشرعة على آفاق ممعنة في الاستعصاء والالتباس تستدعي التسلح بعدة من أسئلة تروم الاكتشاف والاختراق من خلال اجتراح عتبات مدخلاتها والخوض في غمار أكماتها وامتداداتها.إن نصوص مجموعة «ذات الوجه الطويل» تمتح من مرجعيات يطبعها التنوع والتعدد عبر الاستحضار والاستشراف بنفس سردي يتوسل بالوصف: « ظهرت قربته تتدلى من جنبه كبطن بقرة»، و» شمس حمراء ذابلة…» مما يمنح النصوص زخما زاخرا بأبعاد جمالية ودلالية تمعن في إيحاءات غنية بحمولات متعددة المرامي، متشعبة المقصديات ديدنها الاكتشاف والاستشراف المدجج بهواجس البحث وقلق السؤال: «أين بنوها؟ أمن حجر؟ أمن خشب؟»، و» ومن بعد خمسين عاما أحس بأني أسافر ضد البلاد…» لتأخذ منحى أكثر عمقا وثراء بتشكلات رمزية وتشعبات مسلكية: «تنحدر ببطء نحو خباء من ورق مقوى». ويحضر الجانب الغرائبي ، بتبدلاته وانزياحاته، في نسيج الحكي ليكسبه فورة من زخم ينحت ملامحه ويصقلها لتغدو أكثر شفافية ونصاعة وإيحاء… :»رميت الحذاء بحجر فخرج منه غراب وأفعى وعقرب»، وانفتاحا على عوالم حبلى بمتخيلها الطافح وعجائبيتها الغامرة ، وتدرج كائنات من قبيل الأشجار والعصافير…بشكل انسيابي وسلس في منظومة حكي يروم خلخلة نمطية السرد وخطيته وذلك بأنسنتها وموضعتها في سياق مجريات وقائع تنزاح عن ثوابت الحكي في مألوفيته ومواضعاته: «ضمت الشجرة فروعها وانكمشت في مكانها، قالت للتي بجانبها : ليتني مت قبل هذا…ردت الأخرى : ليتنا. سألتها عصفورة كانت تحوم فوقها : أين عشي؟ أين صغيراي؟» وذلك باجتراح كائنات غير بشرية للانخراط في كينونة محصنة بقيمها الرمزية والوجودية. ولا تخلو النصوص كذلك من نزعة «نوستالجية» حبلى بحمولات حسية وقيمية يؤججها وجد عارم وتوق طافح : «وضع أبي الفأس ونظر إلي والدموع في عينيه…وضمني إليه، ثم قبلني وخرج، ولم نعد نره منذ ذلك اليوم…».كما يوظف القاص رموزا ذات ثقل تاريخي وتراثي بأبعاد قيمية وحضارية صادرة عن رؤية تتغيا تجسيد ماتنضح به سياقات مرحلية من زخم تحتدم فيه صراعات مرجعية لا تخلو من حمولات طائفية وعقدية تغني صيرورة السرد وتغذيها بنزوعات متعددة الخلفيات .متباينة المرامي والأبعاد : « أنا مسرور السياف…قزم برمكي…كأني أرى عليا في خيبر…».مما يكرس مفارقة ترتهن لمحطات مجد تاريخي تشكلت معالمه، وتحددت ملامحه بما استمده من جسارة باذخة، وإشعاع رمزي واعتباري من الدين ( الإسلام ) في حقبة ذهبية مشرقة طال فيها أرقى مقاماته وأسمى مقاصده ارتفع معها منسوب التضحية ، في أعلى درجاتها ومراتبها عبر الانخراط في منظومة راسخة المنطلقات ومحددة المرامي والمسلكيات مثل نموذج علي بن أبي طالب كبطل تاريخي نافح عن الإسلام ببسالة خارقة مرتهنة لقناعة ثابتة مشبعة بقوة الإيمان ، متمثلة لمقوماته ، مدركة لأبعاده في أبهى تجلياتها وأسمى صورها وتمظهراتها مقابل قزم برمكي في إشارة لسياق تاريخي موسوم بمؤامرة أحبطها الخليفة هارون الرشيد الذي فطن لما يحاك ضد منظومة خلافته وحكمه من خطط تروم النيل من قوتها وصلابتها بزرع القلاقل والفتن فنجح في استئصال شأفتهم لما تبين ضلوعهم في ذلك مستحضرا مرجعياتهم العقدية ( أصولهم المجوسية) وهويتهم ( الفارسية )، وما يطبعها من توصيفات تنم عن قدح واستصغار وإن بشكل هلامي وفضفاض حيث يتم استحضار مسرور السياف بدلالاته الرمزية في استتباب هيبة الخلافة الإسلامية خلال مرحلة حبلى بالمستجدات والمتغيرات.كما يعكس الحوار، بشكله الخارجي ( ديالوج ) أو الداخلي ( مونولوغ ) عمق الرؤية الإبداعية لدى القاص النابعة عن حس يستمد مناعته وحصانته من مرجعيات تاريخية وحضارية لتمرير رسائل تروم التغيير والانكشاف والمقاومة… : « ـ قال مجيبا : أليست المدرسة كالمسجد يا سيدي؟» . فرغم ما يستشعره الشخوص من غبن وإحباط إزاء ثوابت وإفرازات واقع يعج بضروب الزراية وأنماط الضنك والعوز : « قلت في نفسي لو يعرف أن لي كذلك ست إخوة في آخر نقطة على خريطة هذا الجنوب وأما مريضة…ينتظرون مني عند نهاية كل شهر نصف أجرتي الهزيلة…» يظل متشبثا بحلم التغيير، وأمل التخلص من ربقة واقع مزر وبئيس : « أبتعد حالما بيوم مشرق جميل» حلم ما يفتأ يغدو مشرعا على آفاق مغايرة، منفتحا على أمداء رحبة تستهويه انبجاساتها ، وتغويه التماعاتها : « دع عنك حماقاتك ، وافتح لك بابا على عالمنا « فيتم تحديد رهانات أكبر، وتجشم تحديات أخطر عبر خيار المقاومة في أبهى صورها ، وأرقى تجلياتها : « قبلت يدها وانطلقت وزملائي حولي ، العلم بيسراي والحجر بيمناي ، وسرت أرمي وأرمي إلى أن أصيب صدري بالرصاص «.وتتضمن النصوص أيضا نفحات رومانسية تضاعف من منسوب شفافيتها ووضاءتها : « ستخضر الأرض ، تورق الأشجار ، ويعود الربيع في لباس العيد ، فتزهو الفراشات، وتشدو العصافير…»وأخيرا فمجموعة « ذات الوجه الطويل « منجز قصصي نوعي يروم التأسيس لتجربة سردية ترهص بالجدة والفرادة والابتكار.


الكاتب : عبد النبي البزاز

  

بتاريخ : 08/07/2019