إضاءات حول كتاب «الدولة المستحيلة في إفريقيا»

العسكرتارية، النخب، الإرث الاستعماري عناصر الأزمة

 

يعرض كتاب «الدولة المستحيلة في إفريقيا.. مسارات متناقضة» للباحث للمصري حمدي عبد الرحمن حسن لمفهوم المجتمعات التقليدية بإفريقيا وأنماطها، معرجا على مجتمع اللادولة، ثم نشأة الدول الإفريقية في أحضان الاستعمار الذي حركته الثروات التي تزخر بها القارة السمراء، مما أذكى الصراع حولها خاصة بعد مؤتمر برلين 1884-1885، والذي   يعد أطول وأغرب مؤتمر في التاريخ حيث ضمنت ألمانيا خلاله حقها من كعكة المستعمرات الإفريقية، وكان من أهم خلاصاته إقرار كل دولة أوروبية على ما تحت يدها من مستعمرات إفريقية، كانت قد وضعت يدها عليها، قبل انعقاد ذلك المؤتمر.
يكشف مؤلف الكتاب أن الإدارت الاستعمارية لدول أوربا الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، استعملت عدة أساليب لتحقيق مآربها التوسعية حسب مصلحتها الاقتصادية، وبناء على فلسفتها السياسية والإدارية، فقد ضمت هذه الإدارات، نخبها العسكرية والمدنية الأوربية مستعينة بالقادة الأفارقة والمترجمين والمبشرين، وعلماء الاجتماع والمستوطنين، دون إغفال تأثير هذه الخلفيات على الدول الإفريقية المستعمَرة.
في الباب المتعلق بنشأة وتطور الدول الاستعمارية في إفريقيا، حاول حمدي عبد الرحمن حسن الإجابة عن أسئلة من قبيل:
متى ولماذا ظهرت الدول الاستعمارية؟ وما أنماطها المختلفة؟ وكيف أدارت مجتمعاتها المستعمَرة؟.
اتسم مسار تطور مفهوم «الدولة « بإفريقيا بالتناقض والارتباك ، نظرا لعدم قدرة هذه الدول على فك الارتباط مع الدول المستعمِرة التي ظلت مصالحها، تاريخيا، ثابتة داخل دول القارة الإفريقية والمرتبطة بالسيطرة على الاقتصاد والأسواق والمواد الخام، ومعها اليد العاملة الرخيصة، لأن الاحتياجات الأوروبية بعد الثورة الصناعية كانت تتطلب الحصول على المواد الخام، والعمالة الرخيصة، كما كانت بحاجة الى سوق لتصريف منتجاتها الصناعية.
يقول المؤلف : « إن لحظة التأسيس للدولة جاءت وفق التطور اللامتكافئ في النظام الرأسمالي العالمي الذي انعكس على بنية الدولة التي اتسمت بالهشاشة السياسية، وبقيت رهينة الصالح الاستعمارية ورأس المال الأجنبي الذي لا يزال مستمرا حتى الآن».
عدم فك الارتباط هذا غذته، ولاتزال، الأدبيات الأوربية المنتصرة للفكر الكولونيالي بترويجها لفكرة تفوق الرجل الأوربي الأبيض، وبأن كل تطور حصل داخل البلدان الافريقية لم يكن ليحصل لولا الاستعمار الذي أرسى البنيات التحتية وهياكل الإدارة بهذه القارة بعد أن نسف كل أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي داخلها، وهو اتجاه ظل يمارس تأثيره حتى بعد نيل هذه المستعمرات استقلالها، والذي استمر في معظمه بأشكال متخفية وغير ظاهرة.
يسوق كتاب «الدولة المستحيلة في إفريقيا « في تحليله للمسارات المتناقضة التي اتخذتها الدولة الإفريقية في كل مراحلها التاريخية في باب «دولة ما قبل الاستعمار» ، الأشكال التقليدية لتسيير الحكم والتي تأسست على قواعد أخلاقية احتكمت في جلها الى التوافق والأعراف لتحقيق الديمقراطية، واتسمت بالمرونة والتعددية مثل «تقاليد اجتماعات الشجرة» أو «الكغوتلا» المحكمة العرفية أو «البونغي» حيث كانت تعقد هذه الاجتماعات لتغليب مصلحة الجماعة.
هذه التقاليد والهياكل نسفتها الدول الاستعمارية لتُحِل محلها هياكل الدولة الحديثة والمفاهيم المؤسسة لها، وأولها مفهوم السيادة ومن ثم العمل على إدماج القارة الإفريقية في الاقتصاد العالمي الرأسمالي. إدماج سينطلق بتطبيق سياسة احتواء شاملة كان مدخلها الأول هو التعليم والثقافة، والسيطرة على الاقتصاد من خلال التحكم في ثروات القارة ، مدللا على ذلك بنموذج فرنسا، وهو ما سيقسم مواطني هذه الدول الى قسمين: قسم سيندمج بسهولة ودون إبداء أية مقاومة في النظام الاجتماعي والإداري الجديد، وقسم لم يستوعب هذا المعطى الجديد (الاستعمار) ليجد نفسه في مواجهة أطماع الدول الأوربية، وداخل هذه الفئة نجد بعض الزعماء القبليين الذين حاولت الإدارة الاستعمارية إخضاعهم بالإبقاء على بعض السلطات التقليدية بيدهم مثل جباية الضرائب، وتوفير اليد العاملة الرخيصة كما فعلت لندن والبرتغال.
يبسط المؤلف صورا عديدة لملامح دولة الاستعمار بإفريقيا ، فهناك دولة الهيمنة الوسيطة، الدولة المصطنعة، الدولة التابعة، ثم دولة بولامتاري وكلها نماذج مصطنعة تم تقسيمها تبعا للمصالح الاقتصادية الأوربية دون اهتمام بالأفارقة أصحاب الأرض الأصليين.
يطرح الكتاب أزمة تشكل «الدولة «الإفريقية ما بعد الفترة الاستعمارية، خاصة بعد انهيار دول مثل الكونغو ومحاولات إعادة البناء، لافتا إلى أهم نقط ضعفها ألا وهو انفصالها عن سياقها التاريخي والحضاري لأنها منفصلة عن واقع مواطنيها مادامت ورثت هذا الجهاز (الدولة) عن الاستعمار الذي وضعه، أساسا، خدمة لأجنداته خلال ومابعد مرحلة الاستعمار بمساعدة نخبة من الطبقة الوسطى، وهو ما جعل هذا الجهاز يعكس فلسفة الدول المستعمِرة، وينسلخ عن أسسه الأخلاقية التي كانت مشكلة لجوهره ما قبل الاستعمار.
ولفهم تحولات دولة ما بعد الاستعمار ، يسوق المؤلف المحددات التالية:
-مرحلة مابعد الاستقلال وما رافقها من مد قومي جعل من أولوياته بناء الدولة الوطنية.
-مرحلة التدخل العسكري في السياسة وما صاحبها من عنف وعدم استقرار سياسي.
– مرحلة الانتقال الديمقراطي والتي تميزت باللايقين وبروز الأتوقراطيات النيوليبرالية (نموذج غانا).
وفي كل هذه المراحل، يؤكد المؤلف أن الدولة حافظت دائما على نزوعها السلطوي في مقابل نضال اجتماعي لمواجهة هذا المد السلطوي وكبحه.
وفي هذا الإطار يثير الكتاب إشكاليات النخب وأشكالها في إفريقيا والعلاقات المدنية والعسكرية ثم علاقة الجيش بالسياسة، معرجا في نفس الآن على مسألة العائلة السياسية في إفريقيا، سواء داخل النظام الحاكم أو في المعارضة، محددا أنماطها وملامحها وتأثيرها على عملية الانتقال الديمقراطي داخل هذه البلدان التي يعيقها أيضا صعود التيارات الشعبوية التي خلقت بدورها نخبا استفادت من عدم الاستقرار السياسي بالقارة.
الكتاب يقدم عدة مداخل في خاتمته للتخلص من أمراض الدولة الإفريقية لاكتساب الشرعية السياسية المسنودة بشرعية تاريخية مستمدة من مفهوم «الميراث الثلاثي» الذي طرحه ويلموت بلايدن، وروج له كوامي نيكروما وصاغه علي المزروعي. كما يلفت المؤلف الى ضرورة استغلال الدول الافريقية لمساحة المناورة التي يمنحها تعدد القوى الدولية خاصة بعد الحرب الباردة، وهو استغلال لا يمكن أن يكون بمعزل عن المجتمع المدني ومطالبه التي ضيع عدم الالتفات إليها فرصا عديدة للنهوض بالقارة.


الكاتب : إعداد:  حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 21/09/2020