يقول عبد الإلاه رابحي عن نفسه إنه لا يكتب الحياة… بل فقط يعيشها ويحاكيها…
لكن الحياة في حالته لا تستسيغ صيغة المفرد، بل تستلزم صيغة الجمع، ذلك أنها حيوات بالفعل وبفعل الكتابة لديه…
هي متأرجحة بين عمق الهامش في المغرب غير النافع، حيث أطلق الطفل عبد الإلاه صرخته الأولى في دوار عين موكة بتيفلت، وبين حواضر المغرب النافع وما يعتبر في حكمها ظلما وعدوانا، حيث سيرحل للدراسة أو العمل. مما يجعله مدركا لبيبا لمفارقات هذا الوطن العزيز، المغربِ المحكوم بسرعتين مجتمعيا، ذي السماء التي تعلو جغرافيتين لا علاقة بين نمط عيشهما وشروطه ومحيطه.
من إقامته الأولى في ربوع المغرب غير النافع، ورث قيم الجد وطاقة التحمل والتشبث بالحياة بصفتها حياة، هو الطفل الذي عاد لاستنشاقها بعد أن أقعده الروماتيزم في البيت بدون دراسة طيلة سبعة أشهر… وتملك جمالية اللغة الدارجة وهو يصاحب والدته وصديقاتها، ينصت إليهن أو يسترق السمع إلى أسرارهن أو يرصد طقوسهن الخاصة، العلنية منها والسرية، هو الابن الذكر الأول الذي رزقت به والدته بعد أن لم تكن تضع إلا الإناث… واغترف قوة الملاحظة الدقيقة للكائنات والأشياء، واستأنس بالأسطورة والأعاجيب… ورصد شخوصا صامتين، فعليا ورمزيا، سيمنحهم لسانا في بعض مؤلفاته.
من طفولته ورث عشق «أكلة البطاطس»، الوجبة وليس نص مقرر التلاوة، ليبقى وفيا لها لاحقا، حتى في مملكات السمك… وفي طفولته كره مبكرا «المسيد»، نافرا من عتاقة الفقيه وعصاه ودرسه، ومنتصرا، من غير أن يدرك، لقيم المدرسة العمومية العصرية.
وفي فضاءات المدار الحضري أو شبه الحضري، حيث درس (سيدي سليمان، سيدي قاسم، فاس والرباط) أو اشتغل (الخدمة المدنية ومدرسة حرة بالرباط، ثم أستاذا في الجنوب وبن سليمان والمحمدية)، تعلم الخط وأتقنه، وكره الرياضيات ومقتها، وأدمن على القراءة وصار محترفا إياها، وعشق المعلقات السبع ودروس المسرح، وخبر الرواية العربية، وصاحب الكتاب والشعراء والفنانين، وأصيب بفيروس الكتابة، ووضع قبعة فاعل جمعوي وربطة عنق إنسان حضري متحضر لا علاقة له بـ «مسلمين الرباط».
ولولا الصدف وإغلاق الباب في وجه رغبة الوالد، لما كنا اليوم في حضرة دكتور في الأدب متخصص في السرد وخريج لمدرسة علوم التربية، راكم مسارا مهنيا طويلا كرجل تعليم، بل أمام ضابط شرطة يستنطقنا أو رجل مطافئ. ولولا علاقته العدائية بالحساب والرياضيات، لكان يحاضر اللحظة في فرع من فروع الاقتصاد السياسي أو رهانات تعديل مدونة الأسرة، بعد تخرجه من كلية الحقوق بفاس.
حياته الأدبية حيوات. يكتب الرواية («نوارة» و»الرقيم الأخير»)، ويقترف المحكيات («العروة الوثقى في أخبار الحمقى»)، ويجيد الدراسات النقدية («نسيج العنكبوت: قراءة في قصص الأنبياء»)، ويعانق الدارجة في الكتابة المسرحية ( مؤلف «محاكاة» الذي يضم ثلاثة نصوص هي: «المرشومة»، و»عبو والريح» و»شامة والمعطوب»).
وعلى ذكر مسرحياته المنشورة في كتاب «محاكاة»، فجميعها تنتصر للمرأة من زوايا معالجة متنوعة وترفع مقام الدارجة عاليا، لكن حبكتها ولغتها وتطور أحداثها تخدع القارئ المتسرع، إذ يخال أن نقلها إلى الخشبة وتحويلها إلى فرجة أمر سهل المنال. لكنها في الواقع من طراز السهل الممتنع، النصوصِ الدرامية التي تحتاج مسرحتها إلى باع طويل في الإخراج، وإدارة الممثل، والتشخيص، والسينوغرافيا، والإنارة والمؤثرات الصوتية، وهو ما وقفت عليه وعانت منه، بكل تأكيد، فرقة القناع الأزرق الجديدية التي قدمت نصه المونودرامي «المرشومة»، وفرقة المخرج سليمان الطلحي من بن سليمان التي شخصت مسرحيته غير المنشورة في كتاب: «مول الواد».
إذا كان هذا هو منجز عبد الإلاه الرابحي المنشور على شكل كتب إلى حد الآن، فإن مشاريع مؤلفاته كثيرة على ما يبدو. غير أنه يتستر على أغلبها، ممارسا التقية حيال أصدقائه، إلا من رحم ربك ممن لهم إلمام بمجال مشاريعه المستقبلية. ومن ثمة، فكل إصدار جديد له يمثل مفاجأة جميلة بالنسبة لرفاقه، تظل سرية إلى حين نشرها لتستدعي منهم الاحتفاء والإنفاق…
عندما يضع رابحي نقطة الختم في الصفحة الأخيرة من كتبه، لا يطرق أبواب دور النشر المكرسة المهيمنة على القطاع وطنيا، بل يلجأ إلى ما يمكن وسمه بالنشر البديل، أي النشر عبر الجمعيات الثقافية (جمعية أصدقاء الكتاب المحلية ببن سليمان والاتحاد المغربي للثقافات المحلية). كما أنه نشر «الرقيم الأخير» ضمن منشورات دار نشر حديثة العهد (دار القلم العربي للنشر والتوزيع)، وهي دار نشر تتسم، رغم حداثة نشأتها، بمهنية عالية وجودة مطبوعاتها واحترامها لحقوق المؤلفين.
وعلاوة على كتبه ومساهمته بمداخلات نقدية في العديد من الفعاليات الثقافية ولقاءات تقديم الكتب، ينشر عبد الإلاه مقالات ودراسات متنوعة تنوع حيواته ككاتب وباحث، فهو يكتب في مجالات الفكر والثقافة الشعبية ونقد السرد والشعر الفصيح والزجل، مثلما يسافر بقلمه في قارات النقد السينمائي والمسرحي والتشكيلي… مثلما هو منكب حاليا على ترجمة مؤلف سيشكل بكل تأكيد إضافة نوعية لمكتبة الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، التمس مني بإلحاح ألا أكشف عنوانه وجنسه، وفيا في ذلك لمقولة «وتعاونوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»…
وفيا يظل عبد الإلاه لأصدقائه، أما من يقترف من معارفه إثما في حقه، فهو يطوي صفحته بصمت وينتقل إلى موضوع آخر… بعد أن يشطب على اسم الآثم من ذاكرته وعلى رقم تلفونه من ذاكرة هاتفه النقال. ووفيا لأشعة الشمس الذهبية يظل، صامتا ومنصتا جيدا لندمائه إلى أن تأخذه نوبة ثرثرة بين الفينة والأخرى، يستحوذ على الكلام كخطيب في تجمع انتخابي أو كمشروع فقيه أقسم بأغلظ الأيمان أن يتلو الستين حزبا دون توقف…
محايدا يظل رابحي حين تندلع الحرب بين أنصار الرجاء والوداد وشباب المحمدية والدفاع الحسني الجديدي في إحدى زوايا فضالة، ليس لعدم شغفه بكرة القدم التي أدمن عليها طفلا، بل لأن البطولة الاحترافية لا تهمه، بقدر ما تهمه مباريات القسم الممتاز للعصبة الجهوية الرباط سلا القنيطرة لكرة القدم حيث يقبع فريقه المفضل «وداد تيفلت».
انتهى المسار المهني لرابحي كأستاذ منتدب بإحدى المدارس الفرنسية بالمحمدية، ومنها تعلّم، يقول، «أن الفرق بين التقدّم والتخلّف ليس إلا احترام عامل الزمن… هو ذا الفرق الوحيد، يضيف، فالكفاءة المغربية ونبوغها لا يقلان شأنا»، مترجما ذلك في روايته «الرقيم الأخير».
ولعبد الإلاه رابحي حياة جمعوية نشيطة، يستثمرها، في الوقت الراهن وبعد تجارب عديدة، في إطار الاتحاد المغربي للثقافات المحلية الذي هو أحد مؤسسيه وأعمدته ومهندسي أنشطته، بمعية محمد مومر وعزيز غالي. وبصفته هذه، فهو عضو تحرير مجلة «الثقافة الأخرى» التي يصدرها الاتحاد ويرأس تحريرها سعيد يقطين. وقد أشرف في هذا السياق على إعداد عدد خاص من المجلة محوره «المحلية وروح الحداثة».
ومن بين شخصياته الأقرب إلى قلبه، «الشلحة ببيش» التي يحتفي بحمقها في الفصل الأول من «العروة الوثقى…». وقد كتب لها أن تبعث من مداد الورق إلى حركة الصورة السينمائية عبر فيلم قصير… فيلم لا يزال منذ أمد بعيد في طور إعادة المونتاج!
ولا يكتفي عبد الإلاه رابحي بتعدده عندما ينتقل بسلاسة بين الأجناس النقدية والبحثية والإبداعية، بل إنه بصم حتى اسمه بالتغير. فهذا ما جناه في محكياته «العروة الوثقى في أخبار الحمقى»، ذلك أن ألف عبد الإلاه بعد اللام الثانية سقطت ليصبح اسمه الشخصي «عبد الإله»، كما أضيفت ألف ولام التعريف لاسمه العائلي (رابحي) ليتحول إلى «الرابحي». ألسنا أمام حالة انتحال شخصية وتزوير لكناش الحالة المدنية؟ أو واش هاذ الشي باخبار المخزن آسي عبد الإلاه؟
قدمت هذه الشهادة خلال حفل تقديم وتوقيع رواية «الرقيم الأخير» بالمكتبة الوسائطية التاشفيني بالجديدة، يوم 4 ماي 2024.