خلال مداخلته بصفته رئيس الجريدة الإلكترونية الفرنسية «ميديا بارت» (Mediapart)، في برنامج «A L’AIR LIBRE»، يتحدث «إيدوي بلونيل»عن وجهة نظره بخصوص ما يقع من انتهاكات وهجوم عاصف على غزة، بادئا حديثه متسائلا عن المسألة الأخلاقية التي صارت آخذة في التأرجح في كفة ميزان القيم الإنسانية العالمي، بفعل كل زلزال كيفما كان شكله، آخذة في التحول بفعل الاستغلال الإنساني إلى غطاء سياسي، ملموس وذي نفع.
ويستفيض: «لم تعد المسألة ذات علاقة فقط بأرواح أو أفكار طيبة جميلة، بل صارت على العكس من ذلك مسألة نجاعة، إذ انتقلت قسوة الواقع لتصطف بجانب القوة والسلطة. بادئ الأمر، فإن أساس هذه الكارثة، كان الاعتداء والاغتصاب على حق الجميع في المساواة والعدالة باعتباره وقود هذه التفرقة الأصلي، والذي بدوره هو أساس سياسي محض كون الدفاع عنه بأخلاقية يشابه العمل السياسي.
وأقول، إن هناك دائما تساؤلا يخص مسألة «المساواة المغتصبة»، والتي يعد الفلسطينيون قاطبة، ضحايا لها. تتماشى هذه المسألة، مع مبدأ أخلاقي يمكن اعتباره سياسيا أيضا، وهو: «الرفض الواضح للاختلافات وعدم الاكتراث بالآخر». إن كل سبب ممكن للانعتاق والتحرر، ينطلق من فكرة الاعتراف بالآخر، ولا سيما لمن يعيش الظلم. لهذا، لا يسعني إلا أن أؤكد أن المسألة الأخلاقية، تفرض نفسها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وتحديدا من خلال 4 أشكال رئيسية.
أول هذه الأشكال يتعلق بأصل الصراع. فمنذ 75سنة، لم نفعل نحن (يقصد أوروبا) أي شيء سوى عملنا كمحاسبين ومراقبين، وذلك عبر إدخالنا كل الفرق الرابحة لمجابهة النازية، وقد تمكنا في نهاية المطاف من الحد (وصفها بالإصلاح) من جريمة شاملة وصلت حد «التطهير العرقي»الذي يعتبر فعلا إجراميا ضد الإنسانية وخاصة ضد اليهود الأوروبيين، وهذا عبر اقترافنا (أو سماحنا) للظلم بالاستمرار.
إننا نعلم اليوم، أن هناك شرعية قائمة في حد ذاتها تخص الدولة الإسرائيلية، وأن رغبة اليهود كانت الحصول على أرض يستقرون بها مهما كان المكان القادمون منه، تجنبا منهم لأن يصبحوا ضحايا للاضطهاد. عليهم أن يعلموا، أن عيش شعور الأمان لن يحدث مادام هذا الظلم قائما إلى حدود الساعة، ومع نكرانهم أن دولة إسرائيل قائمة على أساس هذا الظلم الذي لم يصلح لحد الآن تجاه الفلسطينيين الذين تم طردهم ومطاردتهم، أو تغييبهم بصفة اللجوء مع حرمانهم من حقهم في تأسيس دولة لهم، يعيشون فيها على طبيعتهم كما يفعل الإسرائيليون.
ثانيا، إن هذا الأساس أو المسألة الأخلاقية، يفرض نفسه على دولة إسرائيل رفقة العديد من الأصوات (منها الداخلية) التي تتفق على نفس الشيء. فمنذ 1967، ودولة إسرائيل تعيش مصابة بداء «غرغرينا المسألة الاستعمارية»، حيث أن هذا المرض ينتشر ويسمم كامل جسمها، لكون الاستعمار لا يحيلك متحضرا وإنما يجعلك متوحشا. يعلم الإسرائيليون كل هذا، ونراهم يقابلونه بوقفات احتجاجية تعبر عن شعورهم من صعود قوة اليمين المتطرف وما يحتويه، إلا أن الأصول لا تحمي شيئا بوجود المتعصبين اليهود كما نظرائهم البيض والمسيحيين، الطامحين لطرد كل العرب ومنهم 20% من العرب الإسرائيليين.
وعليه، فإن الديمقراطية الإسرائيلية، تعامت عن الاختلافات مع الآخرين، لنخلص إلى النتيجة التي نراها اليوم، من كثرة تقبلها لهذا الاستعمار وفكرة ضرورة أن يهيمن شعبها على شعب آخر. من هنا، يمكننا أن نقول إن هذا الشعب الممارس للفكر الاستعماري، يتحول تدريجيا لممارس للظلم على نفسه، ويخلق هذه القوة التي باتت اليوم على لسان الجميع، ويعلمون معها أن السيد نتنياهو هو المسؤول الأول عن ما وقع في 7من أكتوبر ومعه حزب «ليكود»وداعميه من اليمين المتطرف الذين لعبوا دور «حماس»، وتقبلوا دعمه المالي والمعنوي، وهم من أنتجوا أحداث ما بعد الانتفاضة وصنعوا منها قوة سياسية حاكمة، لا لشيء سوى لمنع الدولة الفلسطينية وتقسيم الأطياف الفلسطينية وتصغير العلمانيين ومعهم التعددية الفلسطينية منذ عهد «ياسر عرفات»في قلب المقاومة الفلسطينية ومع أهمية مكانة التنوع الثقافي الفلسطيني، ومع علمهم بأن إيديولوجية حماس قائمة على الوحدة حول هوية إسلامية واحدة.
ثالثا، وفي الأخير، كانت هذه المسألة الأخلاقية، ومنذ زمن، تمثل كل نزالات وحروب التحرير، مفروضة أيضا على المعسكر الفلسطيني، ولهذا السبب لم ترتعش أو تتخبط في التنديد بكل ما يحصل والتي هي من أهداف الحرب المسطرة لها من قبل المقاومين وحركة «حماس»، والتي يعقبها خلق قصص بغيضة عن مقتل المدنيين هنا وهناك، تتمسك بها ذاكرة اليهود رفقة المذابح التي هي أساس تكوين الحركة الصهيونية، والتي نتجت عنها الرغبة في تأسيس حضن وطني يهودي.
إن معسكر التحرر، والذي على حالة المعسكر الفلسطيني، ومعه نحن هنا نسانده في كون الحق يعود إليهم وينبغي الاعتراف به ، لكون المعسكر الفلسطيني من واجبه أن يمتلك أخلاقيات عليا من المعسكر الذي يمارس الظلم عليه، والتي تجبره على تبني المقاومة العنيفة المشروعة كرد فعل.
إن هذه المقاومة ينبغي أن توضح قدرتها على التآخي، وقدرتها على تحرير الشعب المظلوم من ظالمه، ومن القوة التي تصنع هذا العنف.
من الدروس التاريخية التي يجب ذكرها، ما يتعلق بنضال «المؤتمر الوطني الإفريقي» (ANC) في جنوب إفريقيا رفقة «نيلسون مانديلا»الذي انتقد ذاته، وعبر عن كونه لم يطرد من ظلموه من نظام الفصل العنصري، وإنما لرغبته في أن يتحرر شعبه من الإيديولوجية التي فرضها على نفسه وساهمت في انغلاقه على ذاته، وهذا ما دافع عنه لمدة من الزمن. نقيس ذلك أيضا، بحركة المقاومة الجزائرية التي جابهت الرعب الفرنسي وما سببه من تعذيب وجرائم بغيضة وقعت باسم العلم الفرنسي، التي أقلقت العديدين ودفعتهم (المظلومين) إلى الرد بالمثل لعلمهم بأن الرد سيعود بالسلب عليهم، ما تسبب للحركة الوطنية الجزائرية في فقدان مصداقيتها، وقتل معها العديد من المقاومين أبرزهم كان «عبان رمضان»أيقونة المقاومة من قبل مناصريه وليس من الاحتلال الفرنسي. تستحضرني مقولة «فرانز (عمر) فانون» وفيها «إن العنف ضد الاستعمار له ضرورة، ولا يمكن أن يكون عنفا شاملا، بل ينبغي أن يكون عنفا يعلم حدوده، لأن وجوده قائم على تحرير الشعوب، ولا يمكن أن يستخدم لتطبيق الظلم، وعليه لم يخلق لقتل المدنيين».
تتمة لمداخلتي، فإن هذه الضرورة الأخلاقية تفرض علينا نفسها هنا. ندائي إلى صديقي «ميكائيل وارتشومسكي» (ميكادو)، حيث يسكن إسرائيل، والذي يقول دائما إن « فرنسا تحولت بالنسبة له إلى بلد دنيء لا يشرفه اليوم»، وأقول «لا يسعني الحديث كثيرا عن نسيان فرنسا لمكانتها كنقطة توازن في المنطقة، متبنية ومدافعة عن الأخلاق السياسية، وأعلم أن تحولها، منذ الرئيس هولاند وساركوزي وصولا إلى ماكرون، بات يدخلنا في حروب الشعوب في كل رقعة من العالم، وأن تحججها بما وقع منذ 75سنة لا يجوز كعذر لذلك، وأن عدم دفاعها عن حقوق الفلسطينيين ليس له عذر كذلك، لكونها البلد الأوروبي الوحيد الذي له علاقات كثيرة مع البلدان العربية والمسلمة، إلا أن نكرانها لكل هذه السمات هو جريمة في حق ذواتنا، كوننا البلد المسلم الأول في أوروبا (تمت معاتبتي على هذه الجملة) باعتبارنا قلب التنوع الثقافي في العالم.
ينبغي علينا كجهة إعلامية أن لا نقع في هذا الفخ السخيف قبالة أقدامنا، وأن ندافع بكل قوتنا عن هذه العلاقة وندعمها رغم كونها آخذة في الزوال، وأن نتمسك بهذه المسألة الأخلاقية وندافع عنها، حالها حال التعاون القوي في ما بيننا، وأن نرمم القيم الإنسانية العالمية التي تعيش كثيرا من الهشاشة اليوم أكثر من السابق».
*مداخلة «إيدوي بلونيل» في برنامج «A L’AIR LIBRE»