نَظَّم مختبر السرديات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك ـ الدار البيضاء، لقاءً نقديا اشتغل بموضوع «الرُّوح والبَوحُ والكتابة المُتألمة» في زجل عبد العزيز غالي، وذلك من خلال ديوانيه الزجليين؛ الأول: «لَخْبَار في رَاسَك»، الصادر سنة 2014. والثاني: «وعلى رَقَبْتِي .. حتى الحَرف هو مُولاها»، المنشور سنة 2017. وذلك مساء الجمعة 15 دجنبر 2017، بقاعة الندوات عبد الواحد خيري.
وقد افتتح اللقاء بكلمة لمدير مختبر السرديات شعيب حليفي؛ الذي اعتبر اللقاء استثنائيا لعدة اعتبارات منها؛ كون الجامعة تستضيف شاعرا من أهم شعراء الكلمة المغربية الزجلية؛ ألا وهو عبد العزيز غالي، الشاعر الذي يكاد ينفجر شعرا عاليا؛ يستطيع التعبير عن أحلامنا حينما لا يستطيع أحد آخر التعبير عنها. كما اعتبر حليفي الثقافة المغربية في بُعدِها الزجلي والأدب الشعبي كانت وما تزال حتى الآن ممنوعة بشكل من الأشكال من أن تدخل الجامعة أو تكون درسا أكاديميا، مؤكدا أن هذا هو سر احتفاء الجامعة بالثقافة الشعبية وبالزجل المغربي، هذه الكلمة/ الزجل التي لابد أن يكون لها مكان في الحياة الثقافية التي تعد جزءاً من الحياة الجامعية والأكاديمية؛ لأن كل جزء يكمل الآخر، فالثقافة هي حصن أساسي في بناء شخصيتنا وفي بناء هويتنا، وأيضا في النظر إلى المستقبل حينما تَرْتَجُّ النظرة نتيجة الكثير من القضايا التي تهز وجداننا في لحظة من اللحظات.
وقد سير هذه الندوة الباحث محمد محي الدين (مختبر السرديات / بنمسيك) الذي أكد بدوره على الانفتاح المستمر لمختبر السرديات والخطابات الثقافية على مختلف الأنواع والأجناس والخطابات الأدبية والثقافية التي يشكل السرد نُسْغَها، والتي يعد الزجل واحدا منها، وهو السياق نفسه الذي أتى فيه الاشتغال بتجربة عد العزيز غالي الغنية بالسرد والحكي والقص، والممتدة عبر ديوانيه الزجليين. كما اعتبر عزيز غالي واحدا ممن تعتصر المعاناة ألقهم الشعري فيشقون لها طريقا يَفْتقُ الروح والقلب والعقل، وهو القائل في دوانه الأول في قصيدة «فرَّان الحرف» «زانَدْ حَرفِي/ شاعل عوافي تحميني في برد لَفْيَافِي/ يا حَرْفْ فْ الرَّاسْ سْخونْ» (ص:52 من الديوان الأول)، كما شَدَّدَ على الحضور الكثيف للمعاناة في تجربة غالي الزجلية التي تتولد عنها الكتابة المحترقة، والاشتعال الشعري والكتابة بالدم، والسخرية من الواقع المغربي والعربي المر. كل ذلك بعيدا عن أي نظرة يأس أو استلام وهو عبر بقوله: «ولاعْطِيت حْمَاري»(ص: 32 من ديوان على رقبتي)، بما تحمله الكلمة من معنى في ثقافتنا الشعبية.
وتجلى من خلال اللقاء الانفتاح المستمر أيضا لمختبر السرديات على النقاد الشباب ومن كليات مختلفة، والذين تطرقوا لتجربة غالي الزجلية من خلال ثلاث مداخلات، الأولى: للباحث عبد اللطيف خربوش (مختبر البحث والثقافة والعلوم والآداب العربية/ عين الشق ـ الدار البيضاء)، والتي عنونها بـ «الحكي والتخييل» في ديوان: «وعلى رقبتي حتى الحرف هو مولاها»، مركزا على العلاقة الوثيقة التي تجمع الزجل بمختلف الأنواع السردية الأخرى، مفندا القطيعة بينهما، ومعتبرا القصيدة الزجلية مَحفَلا للسرد والحكي، وتوظيف الخيال والحلم. كما تناول المتدخل بلاغة القصيدة الزجلية وشعرية اللغة من خلال قصيدة «دفوعي للرحى»، وأبعادها الفلسفية الوجودية.
أما المداخلة الثانية فكانت للباحث محمد الدهبي (مختبر التواصل وتقنيات التعبير/فاس سايس)، وتناول من خلالها ديوان «لخبارك في راسك» بين الحرف والكلمة»، معتبرا الكتابة عند عبد العزيز غالي سفرا روحيا وفكريا وتراثيا وفلسفيا ووجدانيا، وخليطا كيميائيا من حيث الأفكار والرؤى، تتجلى في قوالب زجلية لا تبعد كثيرا عن عوالم الشعر، يعي فيها الزجال دروب عوالمه، ويرتقي بها للتعبير عن القيم الإنسانية، والتي تعكسها القصيدة الحروفية، والمعاناة المتجلية عبر شعرية حرق الذات والكتابة بالدم، والسخرية، واللغة المجازية الانزياحية.
وتطرق المتدخل الثالث الباحث حميد لغشاوي (مختبر السرديات/ الدار البيضاء) إلى «تحديث القصيدة الزجلية»، متخذا من تجربة عبد العزيز غالي نموذجا، وقد حاول في ورقته إيجاد تسويغ لقراءة الزجل وإطلاق بعض القضايا النقدية التي يجب الاهتمام بها، لوضع القصيدة الزجلية على سكة الطريق الصحيح، لأن النص الإبداعي الزجلي على حد تعبيره «صار اليوم يعرف خرقا أو خلطا في المفاهيم التي تؤطره. ولا نريد أن نقيم وزنا لتلك الآراء التي تزعم بحداثة القصيدة الزجلية، لأننا نميل إلى اعتبار القصيدة الزجلية الآنية تعيش مخاض الأزمة، التي تكمن في تشتتها، وغياب معايير تنتظم وفقها، لكي نحكم على من يخرج من جلباب النسق والأنموذج، وهي ظاهرة حضارية ناتجة عن غياب حركة نقدية وافية تستجيب لتطلعات القصيدة الزجلية وأفق تنوعها الإبداعي والتراكمي». وقد خَلُصَ المتدخل إلى أن عبد العزيز غالي طبع عالمه الزجلي بسخرية لاذعة من العالم والكائن، فالكلمات تتشابك وتتحاور وتتكرر، وتبني في تجمّعها معان حاملة لتوب المجذوب يحملها جسد أو بالأحرى تجرجره، وكأنه شيء من ضمن الأشياء التي لا شكل لها سوى تلك القيم الحقيقية اللابدة في الظل؛ بحثا عن وداعة إنسانية للحياة، في صخب الاختلاف.
كما قدم في هذا اللقاء الكاتب عبد الإله الرابحي شهادة في حق المحتفى به عبد العزيز غالي، عبر من خلالها عن سعادته كون الزجل ولج إلى مِحْرَاب الجامعة وإلى الدراسات الأكاديمية؛ ليتناوله الباحثون بالدرس والتمحيص. وقدم الرابحي ورقة بعنوان «عزيز غالي أو الكلمة المنسية» اعتبر فيها أن غالي «قد حمل كلمة نبوغ الزجل المغربي، كيف لا وهو الذي ردد رفقة عبد الله ودان: البالة والفاس تمارة قهرت الناس… تأبط زجلا وقال: «لخبار فروسكم»، لم تسعفه الكلمات وقال: «لابد لهذه الكلمة من أروقة تساويها بكل الكلام المسموع»، عَزَّ في نفسه أن يعيش الزجال على هامش التاريخ منبوذا كالبعير الأجرب، فحمل معوله ذهابا نحو مراكز القرار، محملا بتركيب واحد هو ذا السبيل الصحيح للكلمة المسجاة الكلمة الهادفة، علم الكائن الرمادي الساخر-حسب تعبير الرابحي- أن لعنة الكلمة المنسية تطارده ولن يجد منها فكاكا، وأذاع السر بين الصفوف كي يكون شاهدا على عصر التواكل، فقال جملته و ضاع في الزحام؛ «لخبار في فراسكم». عن الذات قال «في نْصَاصَات الليل كاعَدْ في الظلمة نْحَاجِي للظلام» وعن العالم قال: «كَنْحَرَّد الكَبْدَة تخَلِّينا نْرَبِّيو ولادنا بلا خوف»، وعن الكون قال: «على ظهر السفينة غشاها السراب». فمكث حاضرا لا يأبه للنسيان هو ذا عزيز غالي لا يعرف للمستحيل منطقا، يهيئ المقام بين ليلة وضحاها ويغني الزجل الصامد». وفي كلمته؛ عبر المحتفى به عبد العزيز غالي عن شكره وامتناه لمختبر السرديات، كما تحدث عن المؤثرات الرئيسة في تجربته الزجلية، وخاصة مؤسسة الراحل عبد الله ودان. ولم يبخل غالي على الحاضرين بقراءة قصيدتين من ديوانه الجديد «380 فُولطْ» (380 volt)، وقصائد أخرى من ديوانيه السابقين.
وفتح باب المداخلات أمام الحضور من الطلبة والباحثين والزجالين، وكانت عبارة عن شهادات وأسئلة همت مساحة حرية التعبير في الزجل المغربي، ودوره في الثقافة المغربية، وأهمية التقعيد للكتابة الزجلية، ودور الجامعة المغربية في التعريف بالزجل ونقده، وضرورة الحذر من العديد من الأقلام التي مَيَّعت القصيدة الزجلية، واستسهلت كتابتها.
وختم اللقاء بإلقاء بعض القصائد لزجالين أتوا من مناطق مختلفة منهم: عبد الرحيم لقلع من مدينة المحمدية، وقصيدته «سر الكون»، وفقيهي الصحراوي وترجمته إلى الفرنسية لقصيدة «لرياح»، وسعيد بلهواري وقصيدته «سولني خيالي»، ورشيد كريم من المحمدية وقصيدته «موال لبلاد»، وأحمد أوحمو من الجديدة، وقصيدته «زْوَيَّف حَايَاتِي»، كما قدم الزجال عزيز غالي في مبادرة كريمة منه ديوانيه الزجليين هَدِيَّة لكل الحاضرين.