سعى الإنسان منذ البدايات الأولى لتواجده على كوكب الأرض إلى استغلال الطبيعة واستعمال مختلف الموارد التي تتيحها له، لتحقيق عيشه وتطويره، وضمان استمراره كعنصر من عناصر هذه الطبيعة، وعليه حاول مبكرا توفير الحماية من تقلبات الطقس ومن مخاطر العدو، إنسانا أو حيوانا كان هذا العدو، وحرص أشد الحرص على استغلال هذه الموارد الطبيعية للبحث عن مكان آمن يأويه، فكانت الكهوف والمغارات ملجأه، وبعدها فكر في بناء مكان يحقق له هذه الأهداف أكثر فأكثر، وييسر له سبل العيش والاستقرار بشكل أفضل، فقام بتحويل بعض هذه الموارد الطبيعية موادا لبناء منازل صالحة للسكن.
فكل الكتابات التي اهتمت بهذا الموضوع، تشير إلى أن البدايات الأولى لظهور فن العمارة كانت ضمن الفنون الهندسية القديمة التي عرفها الإنسان منذ حاجته لبناء مأوى له، وهو الفن الذي يعكس طبيعة الثقافة العامة والتراث السائد في هذه المنطقة أو تلك، فله-أي فن العمارة- كان الفضل في التعرف على ما كانت عليه المجتمعات من قيم اجتماعية، دينية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية وفنية، فيكفينا -اليوم- إلقاء نظرة بسيطة على المنشأت السكنية لمختلف الشعوب حتى نستجلي بعضا من الملامح أو المؤشرات التي تساعدنا على استقراء هذه المجتمعات، وكيف كانت تفكر وتعيش وتتفاعل مع محيطيها ومع غيرها.
فالعمارة العامية، وغيرها من المصطلحات التي تطلق على هذا النوع من فنون العمارة، أو على الأصح تطلق على مرحلة من مراحلها، من قبيل تسمية: العمارة البيدائية، العمارة التلقائية، الهندسة المعمارية المجهولة والعمارة التقليدية…وهي كلها مصطلحات يتم استعمالها لتصنيف طرق البناء التي تعتمد على الموارد المتاحة محليا لتلبية احتياجات الساكنة، وهي بطبيعتها -أي هذه العمارة- تميل إلى التطور مع مرور الوقت لتعكس الظروف البيئية الثقافية وكذا السياق التاريخي الذي وجدت في محيطه…فهو مصطلح يشير أساسا إلى البناء الذي يبنى من طرف أشخاص غير محترفين، أي دون تدخل المهندس المعماري، ويستعمل كذلك الطرق التقليدية في البناء.
السكن التقليدي بمنطقة الريف: حرم للاحتماء والانعزال
إذا كانت المصادر والمراجع التاريخية تحرمنا من معرفة الكثير من التفاصيل عن العمارة الأمازيغية بمنطقة الريف، بفعل -ربما- إهمال الدراسات والأبحاث، قديما، لهذه الجوانب الثقافية والحضارية للمنطقة، فإن هذا لا يمنعنا من تكوين فكرة عامة حول هذا النوع من العمارة وخصائص السكن التقليدي ببعض قبائل الريف، أو على الأقل للسكن الأكثر شيوعا بها، وهو السكن الذي يعكس جانبا مهما من الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لقاطنيه، الذين كانوا يبنون بما توفر لديهم من مواد محلية، حيث يمكن إدماج هذا السكن ضمن ما يعرف بفنون “العمارة المحلية” أو “العمارة العامية”.
فأول، وأهم، ملاحظة حول السكن أو “ذزدغث” بمنطقة الريف (شمال المغرب) يمكن أن تتجه نحو طغيان عنصر البساطة، أي غياب الزخرفة الفنية والنقوش وكثرة الألوان…، وهو ما يمكن أن يجد تبريره في أن الهدف الأساس من السكن أو الدار “ذدث” لدى الأمازيغي الريفي كان هو بناء مأوى للاحتماء (من الطبيعة والعدو أساسا) والاستغلال النفعي (أي يتم خلق هذا الفضاء انسجاما مع ضروريات الحياة وليس للكماليات)، ولكون طبيعة المنطقة لا توفر إلا مواد بناء محلية بسيطة، وربما أيضا لعدم انفتاحه على عمارات باقي الحضارات لكونها لا تخدمه ك”أمزدوغ”/ساكن بهذه المنطقة، لأنها لا تستجيب في جزء منها لطبيعته الاجتماعية والثقافية التي تمنح ل”الخصوصية” اعتبارا خاصا، إن لم يكن مقدسا.
فإذ ما استقرأنا خصائص ومكونات وملحقات السكن التقليدي بالريف، نجد أن معظمها يحيلنا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى تحقيق هدف أساسي وهو حماية هذه “الخصوصية المقدسة” لدى الإنسان الريفي الأمازيغي، بداية من اختيار موقع إقامة وبناء هذا السكن، ومرورا بتقسيم مكوناته إلى رئيسية وملحقات خارجية وداخلية، وتشكيل المرافق وتنظيمها بحسب وظائفها الأساسية، واختيار موقع الأبواب والنوافذ…وانتهاءا بتسييج فضاءات خارج السكن كساحات جانبية “إزاكاون” بنباتات شوكية كالصبار بمختلف أنواعه “إفوذا” أو “أكفير” أو بالقصب “غنيم” وذلك لضمان فضاء أوسع لممارسة وحماية هذه “الخصوصية”.
اختيار موقع السكن: اعتبارات أمنية واجتماعية
أول ما يفكر فيه رب الأسرة وهو يريد إقامة سكن جديد، هو اختيار موقع “استراتيجي” غالبا ما يكون ضمن الحدود الجغرافية لنفس قريته، وكثيرة هي المحددات التي تتحكم في هذا الاختيار، من بينها وضعه الاجتماعي والاقتصادي وطبيعة ملكيته للأرض، وحجم الأسرة، وهي نفس المحددات التي تتحكم أيضا في جودة وحجم ونوع السكن المقام وتجهيزاته ومرافقه وملحقاته…، هذا، مع تسجيل ملاحظة أساسية هي أنه بالرغم من كل هذه الاعتبارات والمحددات فإنه قليلا ما تجد فوارق كبيرة بين سكان “إمزداغ” المنطقة حيث كان جلهم ينتمي إلى عائلات فلاحية أو حرفية بسيطة تميل إلى التقشف في الحياة.
و”استراتيجية” اختيار الإنسان الأمازيغي الريفي لهذا الموقع غالبا ما كان يتحكم فيها هدف أساسي يتعلق بتحقيق “سكن آمن” و”منعزل”، زيادة على السعي، قدر المستطاع، إلى التقرب من الفضاءات التي ستوفر له -ما أمكن- العيش الرغيد، السعيد والكريم… فغالبا ما كان ما يتم اختيار موقع البناء في “الأعالي” محاطا بالكدية أو الجبل ليصلح أولا بمراقبة كل الفضاء المحيط بالسكن، وتوفير الحماية من تقلبات الطبيعة ومن العدو، وكذلك توفير نوع من الإنعزال يسمح بحرية التحركات لجميع أفراد الأسرة، خاصة النساء…، وعنصر الإنعزال، هذا، تؤكده ملاحظة أن الريفي كان ينأى بسكنه -ما أمكن- عن الطريق العمومية.
فالأخلاق، الأعراف، والتقاليد بمنطقة الريف لا تسمح لأي كان بالاقتراب من مسكن الغير، أو حتى من محيطه الخارجي وملحقاته، فالأمر مقيد بجملة من الأدبيات والسلوكيات، وخرقها يعتبر اعتداءا واضحا على حرمة المسكن والأسرة، ففي الغالب نجد طريقا رئيسية تؤدي إلى عمق الدوار أو المدشر “دشار” أو “ثارفيقت” فيما تتفرع عنها طريق تؤدي إلى التجمعات السكانية، وهذه التجمعات تكون في الغالب الأعم للأسرة الواحدة الممتدة “زي إجن أجاجكو”، وبعدها تجد مسالك ومعابر صغيرة تؤدي إلى منزل كل أسرة “النوبث”، وكل واحدة من هذه الفضاءات، لها أدبياتها الخاصة في التعامل، ولا يلجها أي كان، وغير متاحة للعموم.
فحتى محيط السكن الأصلي، من مرافق ملحقة وساحات خارجية، لها قواعدها، ولا يمكن للغريب عن الأسرة أن يقترب منها، فهي فضاءات مخصصة لتمكين أفراد الأسرة، والنساء بالخصوص، من التحرك بحرية تامة “بعيدا عن الأعين”، وذلك للقيام بالأشغال اليومية من تربية الدواجن، ربط الدواب وتمكينها من الحشائش، إعداد الفرن لطهي الخبز، لم المحاصيل الزراعية وتنقيتها وترتيبها استعدادا لوضعها في مخازن مختلفة، ويستحسن -طبعا بحسب الإمكانيات دائما- أن يكون موقع السكن ضمن مجال أوسع ويمتاز بالقرب من منابع الماء، عيونا كانت أو وديان أو أنهار أو آبارا…، وكذا من الغابة أو أي موقع توجد فيه الأشجار لتوفير الحطب أو استعمال جذوعها وأغصانها في البناء.
اختيار المواد وتوقيت البدء في البناء
إلى جانب الاعتبارات السابقة في تحديد موقع البناء، فإن رب الأسرة بالريف حينما يقرر بناء مسكن جديد غالبا ما يحاول أن يختار موقعا يتميز أيضا بتربته الخصبة وطينه الجيد، ضمانا لتوفير المواد الأساسية المستعملة في البناء والتي تتكون أساسا من الطين، الحجر، القصب والخشب…، كما تكون كذلك عملية استمرار الإصلاح والترميم دافعا إلى اختيار هذا الموقع، وهذا كله لتخفيض التكلفة وتوفير عناء المشقة التي يتطلبها أمر البناء و بعده الترميم، حتى لا يضطر إلى جلب هذه المواد من أماكن بعيدة ستكلفه المزيد من المصاريف والعناء.
وككل الحضارات القديمة، فقد استعمل الإنسان الأمازيغي الحجر في البناء، حيث تعتبر هذه المادة من المواد الأساسية المستعملة منذ القدم في بناء المساكن والبيوت من طرف العديد من الشعوب، بعد أن وجدت أن الكتل الصخرية الكبيرة ومختلف الأحجار المتوفرة في الطبيعة تصلح لأن تكون مادة مناسبة ومهمة لإقامة البنيان، وقد اعتبر المؤرخون أن كل الحضارات القديمة هي حضارات حجرية، حيث كانت بيوت الحجر والطين إحدى فنون العمارة القديمة التي تعكس جانبا مهما من التطور الحضاري للشعوب، وتعبر كذلك عن تطور حاجة الإنسان في كل زمان ومكان إلى سكن يحميه من غضب الطبيعة وتقلباتها، ويقيه شر الإنسان والحيوان، وبالنسبة لمنطقة الريف فقد استعمل الإنسان الحجر الطبيعي الذي يساعد سطحه على التشاكل والتداخل، هذا الحجر يتم جمعه مباشرة من الطبيعة دون إدخال أي تعديلات عليه- إلا فيما نذر- حيث يقوم “رمعلم نربني” بتسوية بعض زوايه الحادة وتسوية سطحه بمطرقة صغيرة.
وترص صفوف أو مداميك الأحجار ويملأ فيما بينها بقطع من الأحجار الصغيرة “أبقوق”. وإلى جانب الحجر “أزرو” كان يستعمل كذلك لبناء السكن التقليدي بالريف الطين “شار” مخلوطا بالتبن “روم”، إما على شكل قطع من الطوب “رقارب ن ربني” وهو التعبير الذي اشتق من “القالب”، فكان يعجن الطين والماء بالأقدام ويضاف إليه التبن، وبعد “تخميره” لمدة كافية، يجبل هذا المزيج ويفرغ في قالب خشبي “رقارب أوكشوذ” لصنع قطع صغيرة على شكل متوازي المستطيلات، ثم يمسح سطح القالب ويزال الطين الزائد باليد أو بقطعة خشبية، حينها يرفع القالب إلى الأعلى وتترك قطع الطوب في مكانها أسفل، لتجف على مدى خمسة أيام أو أسبوع أو أكثر، بحسب الجو، بعدها يتم بناء الجدران بهذه الوحدات من الطوب على شكل مداميك حتى تبلغ العلو المرغوب.
كما كان يتم استعمال الطين الممزوج بالتبن والماء كخليط يوضع لملء الفراغات والفجوات بين الأحجار في بناء الأساس الذي يحضر بعد رسم موقع البيت على شكل مربع، ثم تحفر هذه الأساسات بنحو نصف متر عرضا ونحو متر في العمق، ويوضع فيه الحجر يوم الأربعاء، ويذبح عنه ديك أو خروف احتفاءا بالمكان وأهله -من الإنس والجن- والعمال، ويستعمل أيضا هذا الخليط- الذي يشبه تقريبا ما يعرف لدى بعض الشعوب بالجالوص- في ملء فراغات جدران البيت إذ ما تقرر بنائها كذلك بالحجر، وغالبا ما يكون الطين، هنا، من النوع الذي يتوفر على قدر من الحصى لقدرته الكبيرة على التماسك، أما للتبليط أو اللياسة أو الملاط فيستعمل الطين الأبيض، وتسمى العملية ب “إشاث أكو” وبعدها مرحلة “أوحناك” وأخيرا التبيض بطين يطلق عليه محليا ب “أومرير”
أما الخشب فيتم استعماله في السقف كأعمدة “إسوثان” لرفعه هو وسقف الإيوانات/إسقفين” أو “أسقيف”، بركائز “ذكيذث” تنتهي ب “أشماش” مفتوح إلى الأعلى على شكل هلال، فكان يتم اختيار عمود “سوثو” واحد طويل بحسب طول ضلع الغرفة ويوضع من المدماك إلى المدماك المقابل له، فيما يتم وضع المتوسط الطول منه (أي من الخشب) بشكل متعامد مع العمود الطويل، كما كان الخشب يستعمل في التسقيف على شكل “ألواح” يطلق عليها محليا ” ذفججت”، وبعد الإنتهاء من رص هذه الأعمدة الطويلة والمتوسطة الطول، يتم وضع طبقة من القصب أو فروع وأغصان الأشجار بشكل متراص مع بعضها البعض، يطلق -عليها محليا “أرص”.
و “أرص”، هذه، يجب أن لا يترك الفراغ بينها، ثم توضع فوقها بعض الأسمال أو أحصرة قديمة فتغطى بالتراب الجاف من فوق استعدادا ل “ذيغرتش”، وهي أن توضع على ما سبق طبقة من معجون الطين والتبن، حيث يسوى السقف “ذازاقا” بشكل جيد، مع تشكيله بنوع من الميلان لتوجيه جريان مياه الأمطار نحو الميزاب “رميزاب” حتى لا تتجمع مياه الأمطار فوقه وتساهم في تأكل الأساسيات والجدران وبالتالي ردم المنزل، وإمعانا في هذا الإحتياط فقد كان يراعى أن تكون مسافة إسناد الأعمدة والأغصان على مداميك البناء بشكل زائد، لتشكل شرفة تسمى “ذكوست” أو “إكبيشن” وذلك بنحو أربعين أو خمسين سنتمترا خارج الجدران الخارجية أو الداخلية (واجهة الإيوانات) حتى تقع مياه الأمطار بعيدة عن الجدران كنوع من الحماية، كما كان الخشب يستعمل في صنع النوافذ “ذيوجوين” والأبواب “ذيوورا” وعتاباتها “إعثبيون”
أما فيما يتعلق بالتوقيت فينطلق البناء -وفق طقوس خاصة يمتزج فيها الاحتفالي بالخرافي- وتحضر أساليب التعاون والتضامن بين الساكنة وأفراد العائلة “ثويزا” وبالخصوص أثناء حفر الأساسيات وكذا في عملية التسقيف وإحضار مواده من الخشب والقصب والحجر…، ومن ناحية الفصول غالبا ما يتم اختيار فصل الخريف للبدء في البناء وذلك ربحا لخصائص هذا الفصل، حيث يوفر عدة مزايا مناخية تساهم في تماسك المواد المستعملة حيث المناخ البارد والممطر، أما الأيام فغالبا يتم اختيار يوم الأربعاء من دون أن يرد في المصادر أو المراجع أي تفسير لهذا الأمر، ومن جهتنا لم نتوصل إلى أي معلومات في هذا الإتجاه، تفيد تفسير هذا المعطى.
نموذج للعمارة الصامتة في الوصف والتشكيل
بالرغم من أنه ليس هناك بمنطقة الريف صنف سكني ذو هندسة معمارية موحدة تقريبا، فإن الغالب هو الشكل المربع الذي لم يكن يحمل أية طوابق علوية سوى في بعض الحالات، حيث كانت بعض المنازل تحمل طابقا يتكون من غرفة واحدة تسمى (غوفت) ذات دور أمني/ رقابي أكثر من باقي الأدوار، فقد كانت تخصص هذه الغرفة لمعاينة محيط السكن والقادمين نحوه، بالخصوص وأن المنطقة مرت من حروب وصراعات أهلية عديدة، وكانت عادة الثأر والإنتقام منتشرة كثيرا في مراحل معينة كما في “الريفوبليك”، وكان هذا السكن مهما تمدد فهو على طبقة واحدة يغلب عليه المربع كإطار عام واسع المساحة، ومن الداخل قد يتمفصل في غرف عديدة ومختلفة مستطيلة الشكل، سواء كانت للسكن الأصلي أو كملحقات ومرافق.
فالسكن التقليدي بالريف بمرافقه الأساسية الداخلية قد يحتوي تقريبا على ثمانية غرف كل واحدة منها بوظيفة خاصة، زيادة طبعا على الساحة الداخلية، الفناء، التي تكون مفتوحة على السماء للتهوية والإضاءة، وتسمى “أزقاق”، فعند المدخل الرئيسي للدار -الذي يكون جهة القبلة “ضواث نرقيبتش” أي باب القبلة- نجد على اليمين المطبخ الذي يكون على شكل غرفة أو إيوان فقط، ثم غرفة مخصصة للأولاد الذكور، بعدها غرفة الضيافة “لبيت إفنجوين” وهي مقطعين: الأول ضيق وهو للنظافة، أما الثاني فهو واسع لاستضافة أكبر عدد ممكن من الضيوف، وعادة ما يكون لها بابان يؤدي أحدهما إلى فناء المنزل، وله علاقة برب الأسرة ونقل وجبات الطعام للضيوف، أما الثاني فخارجي له علاقة خاصة بدخول وخروج الضيوف يطلق عليه “ضواث نتخوخت” وهي الغرفة المشابهة –من ناحية الوظيفة- لما يطلق عليه في بعض القبائل العربية ب “الديوانية” أو “البراني” أو “المضافة”.
أما يسار المدخل الرئيسي فنجد الفران “تاينوث” والكانون “ذيغاغث”، ونحن نتقدم إلى الداخل في نفس الإتجاه نجد ساحة مخصصة للمطامر “ذسافت/ذيسافين” والخزانات “أخزان/إخزنن” المخصصة لخزن الحبوب من الشعير والقمح والذرة…أما باقي المنتجات من زيت، دقيق، قطاني، بطاطيس فكانت لكل منها طريقة تخزينها…والبعض
يطلق على هذا الجناح “الداموس” ويحظى بعناية واهتمام خاص فهو القلب النابض للسكن بالريف، بعدها غرفة للبنات، أما الجهة المقابلة للمدخل الرئيسي، أي الغرفة المستطيلة الواقعة غربا، وبابها إلى القبلة، فتخصص لرب الأسرة وكبيرها وعميدها، وهي تتكون من ثلاثة مقاطع يفصل بينها بالقصب المثبت بالطين، حيث المقطع الجنوبي منها يخصص لخزن لماء والنظافة، “ذيمطهث” أي “المطهرة” ومقطع في الوسط يكون هو الأوسع للجلوس والصلاة والأكل وحيازة بعض “الخزانات” المتنقلة، ومقطع شمالي يثبت فيه السرير المرفوع لعلو يطلق عليه يسمح بإيواء بعض الحيوانات المحتاجة للرعاية ويسمى “أريثو”.
هذا، فيما كانت بعض الأسر تكتفي في المقطع المخصص لنوم رب الأسرة ببناء دكة “أدوكن” بالأحجار والطين، تكون عالية نسبيا عن سطح الغرفة، وهي بمثابة سرير مثبت في الأرض، فيما “أريثو” -الذي كان يأوي أسفله الحيوانات المحتاجة- فإنه يقام في مرفق أخر خارج المنزل، أي في الحوش، وبالضبط في الزريبة أو الإسطبل “أفيضار”، وللإشارة فقد كان أغلب السكن الريفي التقليدي يتميز بوجود “أريثو” كغرفة يتم تقسيمها إلى طبقتين تستعمل مع الماشية والدواب التي تحتاج إلى الرعاية وأيضا لتحقيق منافع صحية، وبحثا عن الدفئ، وهو ما نجد له -تقريبا- مثيل في فن العمارة العربية يطلق عليه “العرزال”
وكتفصيل للهندسة المتعلقة بالسكن التقليدي بالريف، وفي محاولة للإشارة إلى المزيد من التفاصيل بشأن عناصرها ومكوناتها ومرافقها، فإننا نجد السكن الرئيسي الذي يتضمن مرافق نوم وإيواء أفراد الأسرة، زيادة على ما يمكن أن نطلق عليه الملحقات، وهي ملحقات داخلية وملحقات خارجية، وكذلك الساحات الخارجية التي تبقى هي أيضا لها حرمتها وقواعد حماية خصوصيتها الواجب توقيرها، وكل هذه الغرف والمرافق الداخلية عادة ما تكون مفتوحة على الإيوانات “إسقفن” ومحاطة بهها جهة الواجهة، وفي الوسط تكون الساحة الداخلية أي فناء المنزل “أزقاق” “رمراح”، والتي يطلق عليها عند بعض القبائل العربية “البراحة”
والإيوانات عبارة عن بيوتات بثلاثة جدران فقط، فهي ذات مقدمة مفتوحة على فناء المنزل، وتعتمد في رفع سقفها من الجهة الأمامية على الأعمدة والركائز بدل الجدران، وتكون أرضيتها مرتفعة قليلا عن أرضية الفناء بنحو عشرين أو ثلاثين سنتمترا، وتبنى بها دكة صغيرة “تدوكونت” بمثابة أريكة ومقعد لجلوس أفراد الأسرة، بالخصوص في فصل الصيف، كما كان مكانا للقيام ببعض الأشغال من قبيل تنقية الحبوب، وغزل الصوف غربلة الطحين….وكانت جنبات جدرانها يثبت بها مرفع أو “رمفع” وهو على شكل رف أو رفوف صغيرة خارجة عن الحائط بحوالي 20-25 سنتميتر، تصنع بالقصب وتغطى بالطين، توضع عليها بعض الأشياء…كما تدق فيها (أي في الجدران) بعض الأعواد الخشبية تسمى “جيج” أو “أسناج” تعلق إليها بعض الأغراض.
كما كانت الغرف والإيوانات تحمل في جدرانها أماكن للتخزين على شكل حفر دائرية أو مربعة في الحائط، عادة ما يطلق عليها “توجوت” أي النافذة، ولكنها ليست مفتوحة على الفضاء الخارجي للغرفة، بل هي كوة أو مشكاة صغيرة داخل الجدار كانت تستعمل لتخزين بغض الأغراض الصغيرة وحسب موقعها، فقد كان منها ما توضع فيه المجوهرات والحلي، كما كان البعض منها توضع فيه الشموع مثلا، أو مصباح الإضاءة “اللمبة” أو “رفنار” وغيرها من الأغراض الخفيفة…
ساحات وملحقات وظيفية لكل منها درجات من الحرمة
أما بالنسبة للملحقات الخارجية فهناك “أزاك” والجمع “إزاكاون” وهي عبارة عن ساحات خارج المنزل حيث تخصص عادة لعدة أعمال وأغراض من بينها الساحة الواقعة جهة الباب الرئيسي، وهي الفضاء المخصص للعب الأطفال الصغار، كما يتم فيه ربط الدواب والماشية بشكل مؤقت، وتقديم العلف للدواجن، وقد توضع بها بعض المحاصل الزراعية غير ذات الأهمية الكبيرة، هذا زيادة على أنه المكان المخصص لتنظيم التجمعات والاحتفالات، بالخصوص الأعراس”ذيمغريوين” في فصل الصيف. ويتم الاعتناء ب”إزاكاون” بشكل يومي، بالخصوص “أزاك” الواقع أما الباب الرئيسي، حيث يتم تنظيفه من طرف ربة الأسرة أو فتياتها، خلال الصباح الباكر وأحيانا قبل استيقاظ باقي أفراد الأسرة.
أما الساحة الجنوبية فهي تخصص ك”تزوبيث”، أي مطرح لروث الدواب ولباقي الأزبال، وفيها تحفر أفران على شكل مطامر تستعمل لإنضاج أواني الفخار، ثم ركن منها لتربية النحل يأوي بعض “تغراسين” و”إكاشوثن” كما تخصص نفس الساحة لجمع الحطب وتجفيفه تحضيرا لإستعماله، وحتى يتم إضفاء نوع من الرونق والجمالية على هذه الساحة وتوفير الاستظلال بها يتم غرس بعض الأشجار مثل الزيتون، التين، الخروب، الكروم، واللوز…أما الساحة الغربية فلها حرمة خاصة بحكم أنها تقع مباشرة وراء غرفة رب الأسرة، والساحة الواقعة جهة باب الضيافة “باب الخوخة” أو “تواضث نخوخت” فكانت كذلك تغرس بها بعض الأشجار، ويقام بها مكان لجمع مياه الأمطار”أكرمام” أو “تكرمنت” عبر مجاري أرضية أو عبر الميزاب.
على سبيل الختم
لقد خضعت العمارة بمنطقة الريف لطبيعة المواد التي يجود بها المحيط الجغرافي والبيئي، ويتم تشكيلها وفق عناصر ثقافية واجتماعية وأمنية…وكذا وفق طبيعة الملكية العقارية ولموقع صاحبها في المجتمع وحجم أسرته…وكان الشكل العام للغرف والإيوانات يخضع دائما للمربع والمستطيل خضوعا تاما لنوعية وشكل الخشب المستعمل في السقف طولا وعرضا، فكلما توفرت أعمدة خشبية طويلة كلما كانت المساحة كذلك، وكلما كانت هذه الأعمدة قصيرة أو متوسطة الطول كانت البيوت كذلك، فهنا، الإنسان الريفي الأمازيغي يخضع للمحيط والبيئة التي يتواجد بها ويحاول أن يتكيف وينسجم معها، بل ويحافظ عليها.
هكذا يتضح أن البناء التقليدي بمنطقة الريف، كان يعتمد على المواد الأولية التي توفرها الطبيعة، وهو كغيره من الأبنية وفنون العمارة القديمة لدى مختلف الشعوب، يشترك معها في الأصل، ويختلف عنها في بعض التفاصيل والفروع، فهو يشترك معها في المواد المستعملة وأحيانا طريقة تشكيلها كعمارة عامية وتلقائية، ولكن على المستوى الخاص لهندسة هذا السكن وترتيب غرفه ومرافقه وتجهيزه، فهناك نوعا من الاختلاف، وهذا طبيعي، لأن السكن يعكس في جانب منه عنصرا من عناصر الهوية، ويمنح لنا باستقراء مختلف العناصر المكونة للحضارة،
وإذا كان السكن التقليدي بالريف تعكس مختلف مكوناته وتشكيله جانبا من ثقافة الاحتماء، الإنعزال والتصدي للأعداء، فإنه بالمقابل تبين هذه العمارة مدى البساطة والتقشف الذي تحكم فيها، حيث غياب الإمكانيات وحضور مستوى الضروريات والحاجيات، أي الخضوع لمنطق ترتيب الأولويات، مما جعله سكنا بسيطا في بنيته وتشكيل فضاءاته الداخلية والخارجية…وهنا يمكن أن ندرج هذه العمارة فيما أطلق عليه سقراط “المباني الصامتة” وهو ما سبق أن قالته المهندسة المعمارية الإسبانية “آنا خوليا غونثاليث سانشو وهي تصف هذه المنازل” أن “هندسة المنازل الترابية بشمال المغرب صامتة، ليست ضخمة، لكنها وظيفية وذات حس جماعي، ولها تدرجي إنساني بارز”