يصعب الحديث عن الأغنية الغيوانية دون استحضار المسارات التي اشتغلت بعيدا عن الواجهة وأسهمت في بناء التجربة من الداخل. الذاكرة الجماعية تميل إلى تثبيت الأسماء الأكثر تداولا، غير أن العمق الفني تشكل أيضا عبر تجارب اختارت مسافة مختلفة مع الضوء، مسافة أتاحت للمعنى أن ينمو خارج الاستهلاك. تجربة حميدة الباهيري تنتمي إلى هذا الحيز الهادئ، حيز الفنان الذي راهن على الاشتغال الطويل، وعلى الصبر، وعلى الوفاء لفكرة الجماعة.
اسم الباهيري اتخذ مسارا بعيدا عن الاستعراض، وصيغ خارج منطق الواجهة الجاهزة. حضوره ارتبط بمحطات أساسية في تشكل الأغنية الجماعية المغربية، وبمراحل دقيقة من تطورها الفني والرمزي. هذا الحضور قام على التراكم البطيء، وعلى الانخراط العملي في صياغة التجربة، وعلى اشتغال يومي لم يحظ بالالتقاط الإعلامي الكافي.
الانتماء إلى فرق مثل المشاهب يعكس تصورا واضحا للفن، وللأغنية الجماعية كممارسة ثقافية قائمة على الاشتراك، وعلى توزيع الصوت، وعلى تليين الحدود بين الأفراد. الفنان داخل هذا المشروع يساهم في ترسيخ الروح العامة للعمل، ويضع الاسم في مرتبة ثانوية. هذا الاختيار منح مسار الباهيري تماسكا واضحا، حتى في فترات الابتعاد عن الواجهة.
التجربة الغيوانية حملت منذ بداياتها وعيا خاصا بالعلاقة بين الفن والمجتمع. الكلمة مشحونة بالدلالة، واللحن متصل بالذاكرة الشعبية، والإيقاع مرتبط بالجسد الجماعي. داخل هذا البناء، اشتغل الباهيري كعنصر توازن، وكصوت داخلي يحمي الإيقاع من الانزلاق نحو السطح. هذا الدور لا يظهر في الصورة، غير أن أثره ثابت في بنية العمل.
سؤال المركز داخل الفرق الغنائية يفرض نفسه عند قراءة هذا المسار. تجارب عديدة سقطت في فخ التمركز حول الاسم، وتحولت مع الوقت إلى مسارات فردية مغلقة. تجربة حميدة الباهيري حافظت على مسافة واضحة من هذا المنطق. الاشتغال داخل الجماعة ظل أولوية، مع رفض تحويل التجربة إلى رصيد شخصي. هذا الخيار يكشف عن وعي أخلاقي بالفن، وعن تصور يرى في الجماعة حماية للمعنى.
المغادرة داخل التجارب الفنية غالبا ما تتحول إلى لحظة قطيعة. مسار الباهيري قدم نموذجا مختلفا. الانتقال جرى بهدوء، دون ضجيج، ودون تحويل الاختلاف إلى خطاب صراع. هذا السلوك يعكس نضجا في فهم طبيعة العمل الجماعي، وفهما عميقا لقيمة الذاكرة المشتركة. التجربة استمرت، والأثر ظل حاضرا، والاسم بقي جزءا من السرد الغيواني.
هذا الهدوء في المغادرة يفتح سؤال العلاقة بين الفنان والتاريخ. كثيرون يغادرون مع رغبة في إعادة كتابة الرواية من موقع ذاتي. الباهيري ترك الرواية مفتوحة، واكتفى بالمساهمة في بنائها خلال مراحلها الأساسية. هذا الخيار يمنح التجربة مصداقية، ويمنح الفنان مكانة خاصة داخل الذاكرة.
الابتعاد عن الواجهة الإعلامية شكل علامة فارقة في هذا المسار. الندرة في الظهور، الاقتصاد في التصريحات، الغياب عن منصات الترويج السريع، عناصر ترسم علاقة مختلفة مع الفن. هذه العلاقة تمنح العمل فرصة للتنفس خارج الإيقاع الاستهلاكي، وتحمي الأغنية الغيوانية من التحول إلى مادة موسمية. الصمت هنا لغة تحمل موقفا واضحا من السوق ومن إيقاعه.
هذا الصمت يعكس اختيار إيقاع خاص، ويعبر عن موقف واع من الزمن الفني. الأغنية الغيوانية بطبيعتها خطاب طويل النفس، يحتاج مسافة وتأملا، ويقاوم السرعة. مسار الباهيري انسجم مع هذا الإيقاع، ورفض اختزال التجربة في لحظة عرض أو في صورة جاهزة. هذا الرفض منح العمل عمرا أطول.
الذاكرة التي تحتضن تجربة حميدة الباهيري تختلف عن الذاكرة المؤسسية. حضورها ضعيف في الأرشيف الرسمي، محدود في البرامج التلفزيونية، وغائب عن منطق التكريم الدوري. في المقابل، تحضر بقوة في ذاكرة الموسيقيين، وفي شهادات من عاشوا التجربة من الداخل، وفي تفاصيل العمل اليومي التي لا تدوّن. هذه الذاكرة الشفوية تحفظ للتجربة روحها، مع بقائها خارج السرد الرسمي.
هذا المعطى يفتح نقاشا ثقافيا أوسع حول طرق حفظ الذاكرة الفنية في المغرب. التاريخ الثقافي يكتب غالبا عبر الواجهات، فيما تهمّش التجارب التي اشتغلت في العمق. مسار الباهيري يكشف خللا في هذا المنطق، ويذكر بأن القيمة الفنية تقاس بما تضيفه إلى المعنى، لا بدرجة الحضور الإعلامي.
قراءة تجربة حميدة الباهيري اليوم تتيح إعادة التفكير في مفهوم الريادة. الريادة تعني القدرة على حماية التجربة من التفريغ، وعلى الحفاظ على توازنها الداخلي. هذا الدور الهادئ منح الغيوان قدرة على الاستمرار، ومنح الذاكرة الفنية طبقة أعمق من المعنى.
الهامش الذي اختاره الباهيري كان مساحة حرة. هذه المساحة سمحت له بالحفاظ على استقلاله، وعلى مسافة نقدية من تحولات الساحة الفنية. هذه المسافة تحمي الفنان من الذوبان، وتحمي العمل من التبسيط، وتمنح التجربة قدرة على الصمود.
تجربة حميدة الباهيري تفرض قراءة تتجاوز الحنين والسرد الزمني. قراءة تضعها في موقعها داخل تاريخ الأغنية المغربية، بوصفها تجربة ساهمت في بناء المعنى، وحمت الروح الجماعية، ورفضت الاختزال. هذا الرفض منحها قيمة إضافية، وجعل أثرها مستمرا رغم محدودية التوثيق.
ما يقدمه هذا المسار درس ثقافي وفني في آن واحد؛ درس في الصبر، وفي احترام الإيقاع الداخلي للفن، وفي الوفاء لفكرة الجماعة. بعض التجارب تمر عبر الصورة، وبعضها يمر عبر المعنى. تجربة حميدة الباهيري تنتمي إلى الفئة الثانية، فئة تشتغل بهدوء، وتترك للأثر أن يتكلم.
احميدة الباهيري: اشتغال هادئ داخل الأغنية الجماعية
الكاتب : الحسين خاوتي
بتاريخ : 22/12/2025


