الأشغال المنزلية، أو «الشقا» كما هو متعارف عليه عندنا، عبء تتحمله النساء منذ قديم الأزل، ودائما ما كان الطبخ والغسل وترتيب البيت وغيرها من صميم معيشهن اليومي، لا يتقاسمه معهن الرجال إلا في ما ندر، لكن أمورا استجدت، منها جائحة كورونا، دفعت الرجال دفعا نحو العالم الخاص بالنساء وأصبح بعضهم يزاحمهن بل يتفوق عليهن أحيانا في شغل البيت، في الورقة التالية نستطلع رأي الطرفين ورأي علم الاجتماع في التغيرات المجتمعية التي أفرزت رجالا لا يخجلون من اقتحام المطبخ ومساعدة الزوجات والأمهات، خصوصا خلال شهر رمضان …
لا شك أن شهر رمضان الفضيل، زيادة على كونه شهر الصيام والقيام والنفحات الإيمانية التي تغلف الصائمين بغلالة من نور الإيمان والتقوى، وتزرع في قلوبهم الرحمة والتآزر والإحساس بالآخرين، بفضل كل مظاهر التعبد التي تميزه عن غيره من الشهور، يجمع كل ما يدعو إليه ديننا الحنيف من قيم إنسانية نبيلة وخصال حميدة، إلا أنه يعتبر، بحق، شهر الأعمال المنزلية الكثيرة التي تتضاعف وتيرتها بشكل ملحوظ خلال أيامه ولياليه، فقبل موعد الإفطار بساعات، تشمر النساء عن سواعد الجد ويلبسن لباس المعركة التي سوف تدور رحاها تحت قيادتهن، تتساوى في ذلك ربات البيوت مع العاملات، لا فرق بينهن، فهن في سبيل تجهيز ما لذ و طاب لأسرهن سواء، لا فرق بين ربة بيت أو عاملة إلا في ما تصنعه أيديهن من شهي المأكولات ولذيذ الطعام، كل واحدة حسب مقدرتها ومهارتها وقدرة بيتها الشرائية، ليقدمنه عند الإفطار وجبة رائقة لأحبابهن. في الشهر الفضيل. تنقلب المطابخ قبيل الإفطار وبعده إلى ساحات وغى، تتعارك الأطباق مع الملاعق وتبحث الكؤوس عن مكان لها فوق طاولة المطبخ وتلتقي «الزلايف»، بعد سنة من الفراق، مع المغارف الصغيرة المصنوعة يدويا من الخشب في موعد سنوي يضربونه لبعضهم البعض، احتفاء باستقبال أهم وجبة يفطر بها المغاربة في هذا الشهر الكريم، كل هذا تحت أنظار سيدات وفتيات متعبات من الوقوف طوال النهار لتجهيز الطعام، فوضى عارمة ستتطلب وقتا طويلا للقضاء عليها، وفي نفس الوقت ينصرف بعض الأزواج والأبناء وبعد أن بللوا العروق، كل إلى ما يسترعي انتباهه من أنواع الملهيات وأصناف الهوايات! يغرسون أعينهم في شاشات هواتفهم أو يغرقون في مشاهدة مسلسلاتهم الرمضانية، وممثليهم المفضلين، أو يجلسون لمتابعة مباريات كرة القدم، ورغم أصوات المعركة الحامية وطيسها في المطبخ القريب إلا أن واحدا منهم لا يحرك ساكنا لمد تلك الجندية الشجاعة بالعون والمدد أو يتبادر إلى ذهنه أن الأعمال المنزلية المفرطة التي تسقط على كاهل الإناث في شهر رمضان ليست قدرا منزلا عليهن وحدهن، بل هي فقط سوء طالع جعلهن يظفرن بالأعمال الشاقة الرمضانية، وحسن طالع منحهم هم الذكور سعادة الجلوس على جنب الراحة، ينعمون بالسكينة والهدوء أمام التلفزيون أو غيره، «فرحين بما أتاهم الله من فضله»، في انتظار الوجبة القادمة، لكن هناك استثناءات لهذه الفئة من الرجال لا بد من الإشارة إليها، والتي برزت بشكل جلي مؤخرا مع ظهور جائحة كوفيد 19، حيث فرض الحجر على الرجال كما النساء البقاء داخل المنازل لفترة طويلة، وهو الوضع الذي قلص عالمهم ورسم حدود تحركاتهم ودفعهم دفعا نحو ذلك المكان الصغير الذي كان غريبا عنهم قبل الجائحة، وأصبحت خطواتهم تتجه رغما عنهم إليه بسبب الضجر من انسداد الأفق أمامهم، محاولين قتل الملل الذي أصابهم جراء بقائهم طوال النهار والليل داخل منازلهم، فلم يجدوا غير ذلك المكان الغريب عليهم ملجئا لتزجية وقتهم، فإذا بهم يجدون متعة في ذلك، فقد اقتحموا المطابخ وتصالحوا مع الأعمال المنزلية وتعرفوا على أمكنة ترتيب الأواني والصحون وجربوا وصفات وجهزوا أنواع المخبوزات ومنهم من وثق ذلك على شبكات التواصل الاجتماعي فخورا بما أنجزه، فمن كل بقاع العالم غزت صور الرجال وفيديوهاتهم موقع اليوتيوب او انستغرام وهم يعجنون أو يغسلون الأطباق أو يمسحون الأرضيات فرحين بما يقومون به وكأنهم اكتشفوا عالما سريا وغامضا، لم يعرفوه قبلا، ففي أحد مقاطع الأنستغرام مثلا يقوم شابان، وعلامات الفرح بادية عليهما، بعجن الخبز بينما يتساءلان في مرح من منهما سيغسل الصحون، وفي مقطع آخر يجلس مجموعة من الرجال في مشهد كوميدي وهم يخبزون ويغنون في نفس الوقت ويبدو من خلال كلامهم أنهم يقضون وقتا ممتعا في إنجاز هذا العمل، بينما فضل أحد الأزواج أن يوجه دعوة للرجال من أجل مساعدة زوجاتهم في الأعمال المنزلية منتقدا كل من يبخس من عمل المرأة داخل البيت ، دعوة قد لا تحبذها بعض النساء، تقول إحداهن باستنكار(أ.ر)وهي موظفة بالقطاع الخاص وأم لثلاثة أولاد: لا أحب أن يدخل زوجي معي المطبخ، نفضل نشقا بوحدي، هو غادي غير يروّني، ما كيعرف يدير والو أصلا»، وتنبري زميلتها في العمل (م.أ) لتأييد قولها قائلة بحسرة : أنا ملي كنمشي من العمل نشقى ونطيب الفطور بوحدي،هو الحاجة الوحيدة لي كيعرف هي التعياب..ولا مشى حتى دخل يطيب شي حاجة كل شي يخليه فوق البوطاجي، خصني نشقا من وراه»، بدورها (ح .ف) موظفة وأم لطفلتين أبدت تبرمها قائلة إن زوجها لايحب دخول المطبخ إلا في بعض الأحيان التي تضطر فيها إلى الخروج، «لكن الأمر لا يعدو طهي البيض الذي يتفنن في صنعه مقليا أو مسلوقا ، بالحليب أو بالجبن»… وتعزو (ح.ف) الأمر إلى التربية النمطية في مجتمعنا والتي تقصر دائرة المطبخ على النساء، وما يعمق ذلك أنه «وحيد والديه».
(س.م)، وهي ربة بيت وأم لابنتين تتذكر أيام الحجر الصحي قائلة: «خلال الحجر الصحي شعر زوجي وكأنه محبوس في قفص، فقد كان معتادا على التجوال والجلوس في المقهى بعد العمل، وبعد أن مل التلفزيون والهاتف حاول في إحدى المرات أن يعينني في المطبخ، ولم يختر غير العجين ليبدأ به تجاربه المطبخية، غير أنه فشل فشلا ذريعا، وبعد عدة محاولات استطاع أن يصنع رغيفا أو شكل رغيف فرح به مثل طفل صغير ، وظل يتكلم عن الأمر طوال أسبوع، صور راسو كيعجن وصيفط التصاور لصحابو وعائلتي…(تضحك)»، وعن مساعدته لها خلال رمضان قالت ساخرة « في بعض المرات كيهز معايا الطباسل من فوق المائدة ويرجع بحالو بالزربة».
بالمقابل اعترفت أخريات، بفخر، أن أزواجهن يساعدنهن في كل أعمال البيت، مثل (م.ح) وهي ربة بيت وأم لطفلين، التي لم تنكر أن زوجها يقوم ببعض الأشغال داخل المنزل رغم أنه يقضي النهار في العمل، فبغض الطرف عن أيام الحجر أو شهر رمضان، القيام بالأشغال المنزلية عادة اكتسبها منذ كان طالبا يقطن وحده، « ملي كيشوفني عيانة وملهية مع الاولاد، كيقوم بأعمال البيت من طبخ وغسل للأواني ، بل هو يتقن هاد الشغال أحسن مني. وفي رمضان كيعاوني بزاف… «.
سيدة أخرى( ج ب) انبرت في تعداد الأطباق التي يصنعها زوجها قائلة بحماس «راجلي كيعرف يطيب احسن مني، يطيب الكسكسو ، الخبز، ينقي الحوت ، الدجاج، يدير كل شي ، ما عندوش مشكل، في العيد الكبير اختصاصو المجمر وبولفاف».
مجموعة من الرجال الذين استقت الجريدة رأيهم في الموضوع أجمعوا كلهم أنهم يقومون بشكل عادي بأعمال المنزل دون مركب نقص مؤكدين أن عقلية زمان تغيرت يقول( إ.ب ): نعم أساعد زوجتي فالحياة تعاون، فكما تساعدني هي في عدة أمور تخصني أساعدها بدوري، وأحاول قدر استطاعتي تخفيف الحمل عليها، راه تبدلات العقلية ومشى الفكر الأناني بين الرجل و المرأة» ويؤكد قوله ببيت شعري من قصيدة زجلية نظمها بالمناسبة» كل شي بالتفاهم والتناغم …وخديم الناس مولاهم» يوافقه زميله (ع. ب) بحماس « علاش ما نعاونهاش ؟؟مالها ماشي بنادم، أنا كنصاوب كل شي، وكاين شي أطباق نصايبهم وما ناكلهمش بسبب السكري».
ولنفهم أكثر هذا التغير في سلوك بعض الرجال تجاه نظرتهم للأعمال المنزلية، يقول الدكتور عادل بلعمري الباحث في علم الاجتماع إن هناك «حلحلة وتغيرا نسبيا على مستوى الصور النمطية التقليدية لأدوار النساء والرجال داخل المجتمع المغربي ولم تعد النساء فقط هن من يتحملن أعباء الأشغال المنزلية لوحدهن داخل البيت، وإنما هنالك فئة من الرجال يقومون بمساعدة زوجاتهن داخل المنزل وهذا لا ينقص من قيمة الرجل بل يزيد العلاقة الزوجية مناعة ويقويها لأنها تقرب الزوجين في ما بينهم، علما أن مجموعة من النساء أصبحن يشتغلن ويتقاسمن الفضاء العام مع الرجال».
لكن في مقابل هؤلاء هناك مجموعة أخرى من الرجال ورغم الحجر الصحي إلا أنهم لم يقتحموا هذا الميدان وظلوا أوفياء لعاداتهم، والتي ليس من بينها الطبخ أو مساعدة زوجاتهم في أعمال الطبخ والترتيب، يقول واحد منهم، نافيا بشكل قاطع مساعدته لزوجته « لا ما كندخلش للمطبخ، حتى خلال الحجر ما حاولتش، كنخليها هي دير كل شي «، عن سبب ذلك يقول « تعودت ألا أساعدها في أمور تخصها وحدها !».
توجد نماذج كثيرة تشبه هذا الرجل وخلال هذا الشهر تتحمل زوجاتهم أو أمهاتهم، بصبر كبير بل وبطيب خاطر في كثير من الأحيان، كل التعب، وهن صائمات، وقد لا يحظين بكلمة شكر يتيمة على ما يقمن به من مجهود، بل يا ويل بعضهن إن نسيت أن تضيف الملح إلى طبق من الأطباق أو كانت الحريرة حامضة أكثر مما يستسيغه ذوق زوج نزق أو ابن مدلل، تقول س.ح : راجلي كيعرف غ التعياب، وكيسمعني من «المنقي خيارو» من أنواع «النكير» المشكّل على طاولة الإفطار إذا ما عجباتوش شي حاجة. وحتى ولدو ولا بحالو»!
إن التربية التي يتلقاها الأطفال منذ الصغر داخل أسرهم خصوصا الأبناء الذكور، تؤثر بشكل كبير على شخصيتهم، حيث تغرس فيهم كل أفكار مجتمعنا الذكوري فيكبرون ويكبر معهم الإحساس بالعظمة والتميز والتعالي، ورغم بعض الاستثناءات، إلا أن الكثير منهم يعتبرون دخول المطبخ للمساعدة عيبا، يعدون غسل الأطباق مذمة في حقهم وتصغيرا من شأنهم، وعن دور الأسرة في ذلك يقول الدكتور بلعمري إن «المجتمع عن طريق التنشئة الاجتماعية يقوم بتحويل الطفل من كائن بيولوجي فطري إلى كائن اجتماعي. والتربية هي عملية مستمرة طوال الحياة وعبر العصور والأجيال، وتحتل مكانة هامة جدا خلال سنوات الطفولة وصولا إلى سن الرشد، وخلال هذه السنوات الحاسمة تتم عملية الانتماء الاجتماعي، وتتشكل أسس الهوية الذاتية للطفل سواء أكان طفلا أو طفلة يتشرب داخل مجتمع ثقافة الذكورة أو ثقافة الأنوثة، وهو بذلك يصبح عضوا كاملا من خلال مجموعة من المؤسسات الاجتماعية، باعتبارها وسائط حتمية مفروضة ضمن عملية التنشئة تقوم بوظيفة التأطير والتوجيه. ومن أهم هاته المؤسسات الرسمية التي تبني هاته الصور الذهنية نجد الأسرة».
النساء في هذا الشهر الفضيل، وفي كل أيام السنة، يحلمن بلحظات تعاون ومؤازرة من طرف أولادهن وإخوتهن وأزواجهن، وأن تخفف معاناتهن اليومية ولو بالكلمة الطيبة، مع «الشقا»، وهو بالمناسبة اسم على مسمى، هو شقاء يقصم الظهور، ويتعب العضلات، ويسرع من دقات القلب، ويمر على الأيادي الناعمة فتنقلب بقدرة مواد التنظيف إلى أيد خشنة مشققة كأرض قاحلة أصابها الجفاف.. فهل التغير النسبي على مستوى الصور النمطية التقليدية لأدوار النساء والرجال داخل المجتمع المغربي سيمتد ليشمل كل رجال مجتمعنا، وهل المصالحة التي تمت «بدعم ومباركة» من كورونا بين بعض الرجال و الأعمال المنزلية ستستمر بعد الجائحة أم أنها لن تكون سوى فاصل ينصرف بعده الرجال إلى هواياتهم المفضلة ويقفلون باب المطبخ وراءهم نهائيا ويرمون المفتاح؟