إن العاشق المتيم بالقراءة، سرعان ما تستهويه مطالعة الروايات الجميلة، الأعمال الأدبية العالمية التي تخلد تجارب النفس البشرية، والرواية المغربية لا تنفصل عن هذا الأدب، بل هي جزء لا يتجزأ منه، لما تملكه من خصوصيات ومقومات، وهي تستمد أفكارها من التراث الشعبي والموروث الثقافي المغربي، ما يجعل منها صالحة للقراءة والكتابة في كل زمان ومكان. والقارئ المطلع والمتتبع لمسار الرواية المغربية، يلاحظ أنها قطعت أشواطا إضافية طويلة، عبر مراحل تطورها، من التأسيس إلى التجريب على مستوى الشكل والمضمون، لتصبح على ماهي عليه الآن، مما يجعل مواضيعها ذات أبعاد إنسانية متنوعة ومتعددة.
وتعتبر رواية “الأطلسي التائه” للكاتب المغربي امصطفى لغتيري، الصادرة عن دار الآداب ببيروت، في طبعتها الأولى، من الروايات القلائل الناجحة التي بلغت أوجها في مرحلة من مراحل تطور الرواية المغربية المعاصرة. والتي تدل على عمق تجربة الكاتب المغربي الذي ساعدته تجربته وتمكنه من السرد وغزارة إنتاجه من مواصلة التألق في القصة والرواية المغربية.
يتناول الراوي في روايته قصة أحد أولياء الله الصالحين، أقطاب الصوفية في المغربي العربي الكبير، واسمه أبو يعزى الملقب بالهسكوري”، فيسرد مختلف مراحل طفولته، وانتقاله المبكر من منزل أبيه الفض، الذي كان يستغله لمصلحته راعيا لغنم مولاي الشريف الشرقاوي، إلى سفره والتقائه بالعباد والزهاد الذين لقنوه المعرفة والحكمة الإلهية.
رواية تغوص في خبايا النفس البشرية، الحالمة والعطوفة، محبة الخير لنفسها وللآخرين، وهي في المقابل نفس متعطشة للحكمة والمعرفة، تواقة لما تملكه من روح إنسانية نبيلة، ومن طهارة عفوية وصدق وسماحة. وهذا ما تكنزه شخصية يعزى “الهسكوري” وتتمثله، ليفلح الكاتب في رسم ملامحها باقتدار كبير، ويسهب في وصف هذه النفس الصافية، التواقة للمعالي وعظائم الأمور، يقول: ” … لكن هذه النفس الأمارة بالسوء لا تهدأ أبدا ولا تستقر على حال، لقد حنت في تلك اللحظة بالذات إلى آمالها وأحلامها القديمة، إذ سرعان ما طفقت تهفو إلى العلا وتعاند قدرها… “. وهي نفس عظيمة مجاهدة قنوعة لأبي يعزى، الذي تحمل الكثير في صبر وتجلد، وقاده ديدنها، وتعطشه للمعرفة للوقوع في أيدي أهل الخير والصلاح، وشيوخ الطرق الصوفية. وبعد سنوات من السفر والطواف، سيحط الرحال بمنطقة ” تاغية”، وسط جبال الأطلس، ليصبح الولي الصالح ” مولاي بوعزة الهسكوري”، أحد أهم أقطاب التصوف في تاريخ المغرب السياسي ـ الديني.
يسرد الروائي المغربي لغتيري حكاية الشيخ الصوفي، بصدق وتؤدة وروية، دون مخاتلة أو تصنع، بحيث يشعر القارئ أن كل ما يكتبه صادق، إذ يداخله إحساس أن الكاتب غير مضغوط بزحام الوقت، أو مشغول بشيء يلهيه عن الكتابة. فتتدفق الكتابة في أعماله سلسلة منقادة وطيعة، بلغة واضحة وغير عصية، وهي إضافة لما تملكه، أضحت السهل الممتنع، وهي نابعة من تجربته الطويلة وهو يمارس فعل الكتابة، يكتب، فيشعر بصدق ما يكتب، ويمتع القارئ معه. فيبدع في هذه الرواية، خصوصا الفصل الأول والثاني، إذ يجد فيهما القارئ، حضور المكان بتجلياته وبهائه، وهو وصف ساحر للطبيعة ، منطقة الأطلس الكبير، فيوظف لذلك الغرض معجم الطبيعة، من نباتات وأزهار وأشجار، وتضاريس جبال الأطلس الشامخ.
يشعر القارئ وهو يطالع رواية ” الأطلسي التائه”، بالتفوق المغربي على المشارقة، من حيث جمالية السرد ورشاقة العبارة، وعفوية اللغة…، فينتابه إحساس عميق بمعاني الأدب الحقيقي، تجعلها في متناول القارئ العادي والمتمكن على حد سواء، رواية تجنح نحو كل ما هو روحي إنساني وصوفي وجداني تأملي.
المصادر والمراجع:
1. انظر “الرواية المغربية من التأسيس إلى التجريب” دراسة نقدية، عبد العالي بوطيب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، ضمن سلسلة أبحاث ودراسات، العدد 29/ 2010. ومقالة مركزة في الانترنيت لصاحب المؤلف عن الرواية المغربية. وكتابنا السرد المعاصر في المغرب، المنهج والرؤية، دراسة نقدية، الحسين ايت بها، دار سؤال الجزائر، الطبعة الأولى 2020.
2. الأطلسي التائه، رواية مصطفى لغتيري، دار الآداب، بيروت، لبنان. الطبعة الأولى: عام 2015.
3- أبي يعزى يلنور، مقالة نشرت بواسطة جمال بامي بتاربخ: 2010ـ 06ـ 18.