الأنا في ديوان «تحتحيت السؤال» لعبد الكريم الماحي

يقول هارولد نيوتنى لي
«الأرجح أن تذوّق الجمال أفضل من فهمه»

هذا ما ينطبق على الزجل ــ بعدما أضحت اللغة سندا مقاولاتيا في الكتابة بمفهوم التداول ــ بعيدا عن كل نظم لغتُهُ محكية. فاللغة فقط كائن حيوي لتمرير خطاب ما.. والزجل لا يقل شأنا عن قوى التخييل في مجال الأدب بكل أصنافه مادام «لا يشترط في الشعر غير التخييل» بمفهوم حازم القرطاجني.
راه من لمبدا
حملت بيا الدنيا
ابحور وويدان
ديما الما (ء)
كيطفي جمر اللوم
من اللوم تحرقت شلى قومان
لهذا، نرومه ــ في غياب الإلقاء، وما يصاحب هذا الأخير من تأثيرات لسانية وسيميائية، في قالب غنائي يجعل مفعوله أكثر على المتلقي ــ حتى نكرس أدبية الزجل وشعريته، التي لا تبتعد عن الشعر في مدلولاتها. فقط يكمن الاختلاف في اللغة، يقول توماشيفسكي «يوجد في اللغة حقا كل ما يوجد في الشعر باستثناء الشعر نفسه»، وهذا يؤدي بنا إلى البون الشاسع في تمييز لغة الأدب/ الزجل عن لغة المحكي اليومي..
تقرا نية العشرة.. صواب
تقرا طول المحبة
اشريط مفتول
بْرَيْ لصحاب
تقرا لمزمَّم بالدم
على شاهد لقبر
شلا هما احنا احباب
هذا الفرش النظري يقودنا مباشرة إلى التعامل مع ديوان «تحتحيت السؤال» للماحي، بالوقوف على عتبته باعتبارها آلية تركيبية، ونص لنصوص الديوان بمفهوم تشومسكي للجملة.. إذ رمزيتها تؤالف بين المفترق والمتجانس من العلامتين، بين الملموس والمجرد. سعيا منا إلى إنتاج دلالة بالمعنى الذي نعاينه في قراءتنا.. فهذا التشاكل بين المادي فعل «تحتحيت»، الذي حركيته مألوفة المعاني في المتداول المستهلك داخل اللغة المحكية.. و»السؤال» بمجاريه المتفاوتة، نفهم منها تراكم أسئلة عالقة بذاكرة الزجال…
هذا الزواج عن طريق الانزياح، لا يجد مفعوله اللغوي إلا في سياقات معرفية مختلفة الفهم والمغزى، فواحدة من هذا «التحتحيت» تتناسل منها أخريات لأسئلة حسب الموقع والحدث، كتجلٍّ لمحطات تكون الذات الزاجلة منطلق الممكن والمحال المرافق لسيرورة اجترارها إبداعيا من أسئلة تركيبتها. لذلك فالقصيدة تعبير غير مألوف عن عالم مألوف «تلتحم في العبارة كلمات تعد متنافرة في قانون الاستعمال العادي للغة» كما يرى جون كوهن أي أن القصيدة هي « كيمياء الكلمة».
إذن بقراءتنا للعنوان تولَّدَ لدينا انطباع مبدئي لهكذا احتمال في قراءتنا لوحدات الديوان الكبرى (تقليقت الذات.. تقليقت الوجود.. تقليقت لبغو..). وقبل ذلك يواجهنا تقديم يقر فيه الزجال بموهبته، وتفتقها بالانفتاح على العالم الخارجي وعيوبه. ندرك منذ البداية كما يرى كارل غويستاف يونغ أن «نهاية سيرورة تَفرّد تتيح للأنا أن تتحول إلى وعي كامل بالغير والعالم».
لذلك ف»الأنا/ الذات» تجمع هذه الوحدات من خلال مفهوم «تقليقت»، كانفلات مقصود من الزجال تضمينا وانتماءً إلى حقول متداخلة، لا تستغني عن الذات والعالم الذي يؤسس لهذا النوع من «المزاج» كي يحافظ على كيانه، إذ يُعتـبَر عند ابن قتيبة الوسيلة التي تنشط الطبع .. وتحكم العلاقة بين القول الشعري وواقع الشاعر.. فانشطار الذات عن ذاتها بقوة اندفاع الإبداع، يتمثل في جريانه لإثبات هذا الكيان من خلال طبيعة هذه «التقليقة»، الذي يقارع رمزية هذه الذات كدفق دلالي للخبايا الكامنة وراء متخيلها الإبداعي. أو أحرى انفلات «التقليقات» وقائع تفاعلاتها بشكل ما، فالذات عند ويليام جيمس «ضرب من أنا امتدت إلى كل ما يستحق صفة شخصي»..
لِذا، كيف لهذه «التقليقات» أن «تتحتحت» إلى أسئلة مضمرة تفي الإجابة عنها بما هو قائم، أو محتمل النظر فيه من جهة الحيرة، عندما تلفها الذات بدفق هائل من الدلالات عن حركية الزجال لتجاوز الذاتي إلى مخاطبة الآخر بكل مرجعياته كما في نص «الما.. حي». هو تحدٍ في انبنائه وضريبة تقاطعٍ في إعادة التوازن إليها من اسمه «الماحي» كي يجعل منه موردا أساسيا للارتواء..
الما..حي
ما تهزمو يامو
الزاندة ف ڴلبو نيران
قربوا قربوا
ياك نتوما ل مشداڴين
مني تشربوا
وفي نفس السياق، لا نبتعد عن موارد تجربته الزجلية، بعد أن حقق لها طبيعتها الموصوفة (هبة من عند الله)، ومساحة أنّاها في كينونته الروحية.. وعليها أن تكتشف في نظر فرويد «.. أنسب الوسائل وأقلها خطرا للحصول على الإشباع..»، رغم عدم استقرارها النفسي، ومحنتها في تسلق كل ما من شأنه أن يجسد علاقتها بالفضاء، الذي ينتشل منه الماحي هويته شعورا وتفكيرا..
إلى أنا زجال
شكون خوا لمداد علي..
معرفتها من لعباد
ولا هذ لبلاد اتسيفات ليا
أمولاي… أسيدي
واش عندك لي شي حل
باش نحل علي
من حبس الذات…
هذا الإحساس بالمحنة وغياب الاستقرار الداخلي، له هواجسه الملموسة في إبداع سياقات متعددة لحجمها في القصائد.. تحتاج إلى تأمل باطن الزجال للإمساك بقدراته الإبداعية..فهي إشباعات للمتخيل برغبات لاشعورية كتعويض عن الواقع الذي يطمحه حسب فرويد..
ياك المحنة امغلفة
كناش عمري
شوفاتي مڴرضة
مرمدة ساردة
بدموع لفياق
مما يزيد تساؤلات الانتظار العابرة لضالته في الهوية توجُّهُه إلى التاريخ، ومعاتبته باعتبار المواطنة (التاريخ مسوس)، وفي ظل المتداول/ المأثور/ الذاكرة. جدليةٌ هي مكونات هذه الشبكة، فواقع الزجال/الشاعر كما نستقيه من رأي إنطوان خوري «يبرز الأنا كعنوان أعلى لمركب علائقي يتمحور فيه الأنا والآخر والموضوع».
حضور الذات متحكم بوعي ولاوعي الزجال ــ يخترق «أنواع التقليقات» ــ منذ الولادة، والجرح ميثاق مصاحب لأغوار هذه الذات، للتعبير عن أنطولوجيتها في الارتباط الطبيعي بالإنسان.. وجودٌ يستثمر كأداة استهلاكية لإبراز موقع الذات منها..
ودلات السمية .. عبد الكريم ماحي
بلا ذبيحة .. بلا زغاريت
تساس ڴلبي
وتطعنو صفاتو
وكلا فين جاتو
بوهالي وحدي يانا كندندن
هذا الانشحان يربو عمق الإحساس، حيث التلذذ بالمحنة حين يثور على الجماعة لأخذ موقف منها.. ويبقى نص «تحتحيت السؤال» في حمولته بؤرة جامعة لمجموعة من الأسئلة/ الإكراهات بين الأنا والأنا الجماعية، على اعتبار تشريح هذا الجسم الشمولي بحكم المشترك/ خيبة الذات وموقفها.. فيصبح الزجل متنفسه، وملاذه الطبيعي عندما تحضنه الكتابة الزجلية..
(زيدوني لعوافي..)
وياتريكت بونا آدم..
ها جلدي ورقة
يثور لكلام يثور
ويخلخل في سطور
وأنا المديور مديور لي
تحت عتبة الكتبة
ما يثير انتباهنا في الديوان، أن أغلب نصوصه تتناسل في بينها بغض النظر عن «تقليقاتها». فالذات تمتح ذاتها من المحيط بكل مؤثراته العالقة بالذاكرة، تفي بهذا الإحساس عندما تحدث انقلابا على الحياة الآنية بفهم مداخل الذات المستمرة بكل مستلزماتها.. هي نظرة لمفهوم قراءة الذات الجماعية، بإعادة هيكلة جديدة من منظور هذا المأثور القائم على الأعراف، والقيم، والتقاليد في أبعادها الاجتماعية والسياسية والكونية. إذن هو جدل الذات مع العالم الخارجي لمساءلته من خلال اشتباكه به وفق هذا المأثور..
من ورا ألهيه
تڴلبو لبرا
ومن ظهرها نقراو
وصية السلاف
إلى خوات الخابية
لاش نلومو الغراف
إذن هو عالم متداخل يجعل من هذه الأنا بؤرة الانطلاق نحو رسم حدودها القصوى في اتجاه النموذج المتفرد.. ويكون إعرابها عن الإعراب في حركاته التي تسكن الذاكرة/ الألم/ العشق المضني للأنثى (نجية) عندما كانت المطلق، ولنوستالجيا المكان/ الدرب بالمفهوم الراسخ لدى كل منا، والفضاء بكل مكوناته للاحتواء خاص أو عام (المدينة، البلاد..). فالذات كما يذهب إليها دينكن ميتشل «بنية معرفية يستطيع الإنسان تكوين معلومات عن ذاته، وينظمها في مفاهيم ونماذج خاصة»
كلشي معاك كان
ف سماك كنتي نجمة
ف أرض لله كنتي كلمة
اليوم نخليك ف الكتبة
قصيدة بعنوان الوداع..
ف راس الدرب
طاح شوف الڴلب
وأنا عزري امڴيد بسواكن لبلاد
لكن أسئلة الأنا الجوهرية لوجودها في ظل قلقها وحيرتها، لم تكبح جماح شاعرية الماحي ومفهومه للحياة الحدثية، مادامت معبرة عن الوجود كما في نظر هايدغر.. لذلك فعلاقات الذات بمكوناتها المتشابكة في ظل هذا «التحتحيت»، ترتفع بالتفكير الشعري من مستواه العاطفي إلى شاعرية مؤرقة في غاياتها ومراميها، لملامسة معانيها دون قصد النص «..إلا بوصفه نتيجة حدس من جانب القارئ» من منظور إمبرتو إيكو.. ودون تغييب التأثير الضمني للجوانب الجمالية، التي تحرك تفاعلاتنا بنوع من الحس والدهشة باعتبارها ثوابت التخييل، وجدت ضالتها بشتى أشكال التعبير نحو التقاط لحظات لغوية تترجم تراكماتٍ لهواجس مختلفة، كشفت نفسها بنفسها في قصائد الديوان من خلال معجم مأثور ذي طبيعة عروبية، متداول المرجعية قرويا وحضريا (الدوار، لفقيه، الشكوة، الحمّار، روابة، كواعط، مشاڴة، الشوم، معڴودة، المحڴونة، الشكوة، امحوزرة، مفڴوع..) كي يجعل من هذا التزاوج اللغوي للمحكي اليومي وظيفة افتراضية لمتخيل الجملة الشعرية من حيث حمولتها، ولمقاربة هذا المعنى نعتمد قول مالارميه عن أحد نصوصه «إن المعنى إذا كان هناك معنى.. يثار من خلال التزاوج الداخلي للكلمات ذاتها.. لكي تثير إحساسا سحريا إلى حد ما»..
إن هذا التزاوج لم يقف عند مستوى الموالفة الانسيابية/ المصاحبة، وإنما ذهب بها إلى التقابل والتضاد، حتى أمسى ظاهرة تفرض ذاتها في الديوان (البارح/اليوم، بزاف/شوية، مزروب/معطل، موڭض/راڭد، مشيتي/جيتي..) لبلورة الذات الزاجلة بكل مفارقاتها، علاقتها بنفسها وبالعالم الخارجي، بحثا عن التوازن الذي يُطمئن الذات المادية على الأنا الزاجلة. كما ساهمت للغاية نفسها ظاهرة التكرار بكل أشكالها: كلمات، جمل، مقاطع: (ڴالت شحال ڴدي القصيدة، شوية من بزاف، بزاف من شوي، شربتو سؤال، ڴدك يا جهدي هذ العمر).. لكن هذا التماهي بين الظواهر اللغوية والبديعية ساهم أيضا في تشكيل أنساق فنية وصور انزياحية متميزة (.. كي يطفي جمر اللوم/ حصدت عمري../ ومن خابية الشمس ڴلت نشرب/ حبس الذات فراجة الروح.. شطحة لعقل/..الروح ضحكت وضحكت حتى بانوا نياب لفراق/ويلا ڴرڴر لكلام../ قراية مسرجة الزعامة/)، وهذا السياق نُثمّنه بقول كونفوشيوس «إذا تكلمت من دون أي محسنات، لن تصل كلماتك بعيدا حيث تريد». إذ الجرعة الزجلية/ الشعرية يخيم بساطها على قصائد الديوان. يزيد مفعولَها انسيابٌ إيقاعي، حتى أضحت الذات بمفهوم غنائيتها.. بمعنى «التفكير المغنى» بتعبير رامبو.. أي ما نستجيب له شعورا وعاطفة بشكل تلقائي، فرضه نمط خلق القصيدة حين تؤالف بين مقاطع تلين معها الكلمات والجمل، ضمن بناء متراص لغويا (أصواتا وعلامات) بتفاعلاتها الداخلية والخارجية. خفةٌ تميز وقع الزجل على الأذن سماعا وقياسا من خلال مجموعة من القوافي، التي وجدت ضالتها في شعر التفعيلة من حيث عدد المقاطع (اعطاني/اهداني..ويدان/قومان..شلال/زجال..البسمة/الدمعة..وشام/كلام/لثام…). أو الروي: (ثقل/حل/لعقل..سطر/لعمر..لهوال/مقال..الدم/تقدم..قوال/زجال..مجنون/يكون.)،وأحيانا تستكين إلى الإرسال فقط:
ما بقات وردة
ما بقا ليل
ولامش كحل
ما بقا نهار
إذن، فالإيقاع الذي يسود قصائد الديوان مزاجي إلى حد ما، يعكس فيضان الذات لذاتها الداخلي، فيؤقلمها مع عفويته حين تستقيم وظيفتها الشعرية في أذنه، بعد أن استراح من مخاض مخيلته، ما يجعلنا نذهب إلى جورج لويس بورج Jorge luis Borges في حديثه عن هيكو «إن معجزة شعره تكمن في أنه كان يعرف كيف يستخدم الكلمات البسيطة..» فالزجل عند الماحي قوة فطرية، لا تحتاج إلى تكلف ولا وعي شقي لتلفظها..
لذلك لا نعتبر أن الزجل حالة تقوقعٍ حول الفضاء الثقافي والأدبي الذي ينتمي إليه، بل هو كينونة شعرية تستقيم داخل اللغة المحكية، بعد أن أخذت هذه الأخيرة موقعها من ولادة القصيدة. فنجنح شيئا ما نحو التماهي الأجناسي، والمصالحة اللغوية بين اللغة العالمة ولغة الذاكرة بتعبير سوسير الوظيفي لها داخل جماعة بشرية بعينها….


الكاتب : أحمد السالمي

  

بتاريخ : 16/05/2025