الإنجيل برواية القرآن: ناسوت عيسى 2/2

يعتبر المفكر والباحث السوري فراس السواح من أوائل المغامرين المشرقيين الذين أبحروا في غياهب منتجات العقل الإنساني من حكمة ودين وميثولوجيا، محفزًا بكتاباته عقول كل من رافقه في رحلاته الروحية و المعرفية الممتعة في تاريخ الدين والأسطورة والآثار للبحث عن إجابات للأسئلة المفتوحة التي لا تنضب في مؤلفاته.
يعمل السواح حاليًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية، عضو في الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب وعضو في اتحاد الكتاب في سورية.
ما طرحه السواح في أبحاثه هو طغيان الفكر الغيبيّ على العقل العربي لكنه في المقابل، عوّل على المنهج العلمي في تقليص هيمنة سلطة هذه الأفكار، من خلال استنطاق النصوص القديمة المبعثرة بمنهجية صارمة قد تضع العالم العربي على عتبة أخرى في التفكير لذلك سعى إلى هدم «سلطة النص» وتحريره من قدسيته التاريخية، لهذا لم يقف السوّاح عند باب اليقين مرّة واحدة في رحلة تشوبها الريبة من الإيديولوجيات الجاهزة إذ كان يصف الظاهرة من دون الحكم عليها، على عكس ما تتكفل به الدراسات التي تنتمي إلى نقد الفكر الديني، ذلك أن الأساطير، حسبما يقول «هي حكايات مقدّسة، أبطالها من الآلهة، وتاليًا فهي المنبت الأول للنصّ الديني».
فلا يكمن التميز في السرد التاريخي، بل في التحليل وتوضيح الطبيعة العلائقية بين الأحداث التاريخية والأدب والأديان وتأثيرها القوي على ما آلت إليه الأمور في عصرنا هذا.
فما يجب أن يفعله المؤرخ، فهو ليس مجرد حافظ للأحداث، بل عليه أن يعرف القصة التي خلف القصة لأن لا شيء يأتي من فراغ، وكل حدث يوجد ما مهد لوقوعه وما نتج عن وقوعه، وربما تكون القصة محض خيال، ولكنها أحدثت تغييرات عميقة وخطيرة، ليست مبنية على أساس واقعي.

 

في الرواية الإنجيلية وصف يسوع نفسه بالنبي. فعندما أظهر أهل الناصرة استخفافهم به ولم يؤمنوا بتعاليمه، لم يستطع إظهار معجزاته بينهم بسبب قلة إيمانهم، وقال: “ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته.” (متَّى 13: 54-57). وفي رواية لوقا للحادثة نفسها، يعقد يسوع مقارنة بين ما جرى له في الناصرة، وما جرى للنبي إيليا وللنبي إليشع، اللذين أظهرا معجزاتهما بعيداً عن موطنيهما: “وبالحق أقول لكم إن أرامل كثيرة كن في إسرائيل في أيام إيليا حين أُغلقت السماء مدة ثلاث سنين، ولم يرسَل إليا إلى واحدة منها إلا إلى امرأة أرملة إلى صرفة صيداً. وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل في زمان إليشع النبي، ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان السرياني.” (لوقا 4: 25-27).
وقد وصفه الآخرون أيضاً بالنبي، وقرنوه بيوحنا المعمدان: “وكان أناس يقولون إن يوحنا المعمدان قام من بين الأموات، ولذلك تجرى المعجزات على يده. وقال آخرون إنه إيليا (النبي)، وقال غيرهم إنه نبي كسائر الأنبياء. فلما سمع هيرودوس بأخباره قال هذا يوحنا الذي قطعت أنا رأسه قد قام.” (مرقس 6: 14- 16). وعندما سأل يسوع تلاميذَه عما يقول الناس أنه هو: “فأجابوا وقالوا: يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا، وآخرون إن نبياً قام.” (لوقا 9: 18-19). وعندما أقام يسوع الشاب الميت في بلدة نايين: “أخذ الجميع خوف ومجدوا لله قائلين: قد قام فينا نبي، وافتقد الله شعبه.” (لوقا 7: 16). وعندما دخل أورشليم: “ارتجت المدينة كلها قائلةً: من هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل.” (متَّى 21: 10). وقال الفريسيون ورؤساء الكهنة لأحد محاوريهم وكان مؤمناً بيسوع: “ألعلك أنت أيضاً من الجليل؟ فتش وانظر إنه لم يقم نبي من الجليل.” (يوحنا 7: 52). وقالت له المرأة السامرية التي طلب منها عند البئر شربة ماء: “يا سيد أرى أنك نبي.” (يوحنا 4: 19). وعندما قبل يسوع العطر من المرأة الخاطئة، قال صاحب البيت: لو كان هذا نبياً لعلم من هذه المرأة التي تلمسه وما هي، إنها خاطئة.” (لوقا 7: 39). وعندما فتح عيني الأعمى، قالوا له (أي الأعمى) ماذا تقول أنت عنه، من حيث أنه فتح عينيك؟ فقال: إنه نبي.” (يوحنا 9: 17). وفي سفر أعمال الرُسُل يقرن بطرس الرسول يسوع بموسى، مقتبساً من العهد القديم قول موسى: “إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، تسمعون له في كل ما يتكلم.” (أعمال 2: 22).
وعندما يستخدم النص الإنجيلي كلمة “النبي” عوضاً عن “نبي”، فإنه يشير بذلك إلى النبي الذي سيبعث في آخر الأزمنة عند حلول يوم الرب، والذي سيتجسد فيه إيليا النبي الذي رُفع حياً إلى السماء، على ما تفيد نبوءة سفر ملاخي: “ها أنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على الآباء.” (ملاخي 4: 5- 6). ولهذا فقد سأل الكهنة الذين جاؤوا من أورشليم يوحنا المعمدان قائلين: “إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب لا.” (يوحنا 1: 19- 21). ولهذا أيضاً أرسل يوحنا المعمدان من سجنه إلى يسوع يسأله، وقد اعتقد أنه النبي الآتي: “أ أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟” فأجاب يسوع إجابة تدل على الموافقة عندما قال للرسل: “اذهبا وأخبرا يوحنا بما سمعتما ورأيتما، إن العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشِّرون.” (يوحنا 1: 18- 32). وإلى هذه الشخصية أيضاً أشار إنجيل يوحنا عندما وضع على لسان الذين رأوا معجزة تكثير الخبز والسمك: “إن هذا بالحقيقة النبي الآتي العالم.” (يوحنا 6: 14).
وكما كان أنبياء العهد القديم يتنبأون حين يحل عليهم روح الرب، كذلك كانت بعض أحوال يسوع. فقد قال أمام المجتمعين في مجمع الناصرة: “روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب… إلخ” (لوقا 4: 16- 18). وفي موضع آخر نقرأ عن تلك الحالة: “وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب رب السماوات والأرض… إلخ” (لوقا 10: 21). وهو لم يشرع في كرازته إلا بعد حلول روح الرب عليه. وعلى حد قول يوحنا المعمدان: “قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه.” (يوحنا 1: 32).
إن إطلاق لقب النبي على يسوع كان له ما يبرره من وجهة نظر الذين شهدوا أعماله ومعجزاته. فهذه الأعمال كانت تنسج على غرار أعمال أنبياء العهد القديم الكبار من أمثال إيليا وإليشع، ولم تكن بالجديدة على التقوى الدينية للمنطقة. فالنبي إيليا أنزل ناراً من السماء أكلت جنود ملك السامرة (الملوك الثاني 1: 9-11)؛ وأنزل من السماء مطراً أنهى فترة جفاف طويلة (الملوك الأول 18)؛ وعندما كان يعتزل في البرية كانت الغربان تأتي له بالطعام (الملوك الأول 17: 2-6). وعندما أقام لدى امرأة أرملة في بلدة صرفة زمن المجاعة، كانت أوعية الدقيق والزيت تمتليء كلما نفذت. ولما مات ابن هذه الأرملة أعاده إيليا إلى الحياة (الملوك الأول 17: 10- 24)؛ وعندما أراد عبور نهر الأردن مع تلميذه إليشع، ضرب الماء بردائه فانشق ومشى الاثنان على اليابسة (الملوك الثاني 2:
7-8). وبعد ذلك ارتفع إيليا إلى السماء مثلما ارتفع يسوع، وجاءت مركبة من نار تجرها خيول من نار فأصعدته على جناح العاصفة حياً إلى السماء (الملوك الثاني 2: 11-12). ومن أعمال أليشع أنه جعل الحديد يطفو على سطح الماء (الملوك الثاني 6: 5- 7)؛ وزاد زيت المرأة التي توفي زوجها حديثاً حتى أنها ملأت منه كل أوعية المنزل واستعارت من الجيران أيضاً، فباعته ووفت ديون زوجها (الملوك الثاني 4: 1-7). وعندما كان في ضيافة أسرة في بلدة شونم، مات ابنهم الوحيد فأعاده إلى الحياة (الملوك الثاني 4: 8- 37) وجاءه رجل بعشرين رغيفاً فأطعم منها مئة شخص وزاد عنهم (الملوك الثاني 4: 42- 43). وكان يشفي من المرض عن طريق غمر المريض في ماء الأردن (الملوك الثاني 5: 8- 14).
وفي الحقيقة، فإن الطابع النبوي لتعاليم يسوع يبدو لنا واضحاً منذ كرازته الأولى. فكما كان يوحنا المعمدان يكرز بقرب حلول اليوم الأخير قائلاً: “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله.” (متَّى 3: 1-2)، كذلك كانت الكرازة الأولى ليسوع: “وبعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت لله ويقول: لقد كمل الزمان واقترب ملكوت لله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل.” (مرقس 1: 14-15). أي أنه اعتبر رسالته مكملة لرسالة يوحنا النبوية، الذي كان يُعمد من أجل التوبة ومغفرة الخطايا، ويبشر بقرب حلول ملكوت لله.
ولقد حاز ملكوت السماء والمتطلبات الأخلاقية لدخوله على القسم الأعظم من تعاليم يسوع، في الأناجيل الإزائيَّة الثلاثة متَّى ومرقس ولوقا؛ حيث ورد تعبير “ملكوت لله: أو “ملكوت السماوات” نحو ثمانين مرة، الأمر الذي أسبغ على رسالة يسوع طابعاً آخروياً طاغياً. وحتى بعد قيامته من بين الأموات، بقيت تعاليمه تدول حول هذا المفهوم، على ما نفهم من سفر أعمال الرسل الذي قال مؤلفه بأن يسوع بقي يظهر لتلاميذه مدة أربعين يوماً وهو يتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله (أعمال 1: 1-3).
أخيراً، فإن لقب النبي لم يكن غائباً عن الأناجيل المنحولة التي ذكرته أكثر من مرة، ومن بينها ما ورد في إنجيل العبرانيين، الذي تداولته الشيع المسيحية- اليهودية، مثل الإبيونيين والنصارى، وهو إنجيل ضائع بقيت منه شذرات أوردها المؤلفون المسيحيون، ومنها هذه الشذرة التي تصف لحظة خروج يسوع من ماء العماد، وحلول الروح القدس عليه: “وحدث عندما خرج يسوع من الماء أن مَعين الروح القدس هبط واستقر عليه، وقال له: “أي بُني. من بين كل الأنبياء كنت أنتظر قدومك لتكون فيك مسرتي.”


الكاتب : فرس السواح

  

بتاريخ : 18/06/2021