الإنجيل برواية القرآن: – 32 – مكانة مريم في كلا النصين (2/2)

يعتبر المفكر والباحث السوري فراس السواح من أوائل المغامرين المشرقيين الذين أبحروا في غياهب منتجات العقل الإنساني من حكمة ودين وميثولوجيا، محفزًا بكتاباته عقول كل من رافقه في رحلاته الروحية و المعرفية الممتعة في تاريخ الدين والأسطورة والآثار للبحث عن إجابات للأسئلة المفتوحة التي لا تنضب في مؤلفاته.
يعمل السواح حاليًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية، عضو في الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب وعضو في اتحاد الكتاب في سورية.
ما طرحه السواح في أبحاثه هو طغيان الفكر الغيبيّ على العقل العربي لكنه في المقابل، عوّل على المنهج العلمي في تقليص هيمنة سلطة هذه الأفكار، من خلال استنطاق النصوص القديمة المبعثرة بمنهجية صارمة قد تضع العالم العربي على عتبة أخرى في التفكير لذلك سعى إلى هدم «سلطة النص» وتحريره من قدسيته التاريخية، لهذا لم يقف السوّاح عند باب اليقين مرّة واحدة في رحلة تشوبها الريبة من الإيديولوجيات الجاهزة إذ كان يصف الظاهرة من دون الحكم عليها، على عكس ما تتكفل به الدراسات التي تنتمي إلى نقد الفكر الديني، ذلك أن الأساطير، حسبما يقول «هي حكايات مقدّسة، أبطالها من الآلهة، وتاليًا فهي المنبت الأول للنصّ الديني».
فلا يكمن التميز في السرد التاريخي، بل في التحليل وتوضيح الطبيعة العلائقية بين الأحداث التاريخية والأدب والأديان وتأثيرها القوي على ما آلت إليه الأمور في عصرنا هذا.
فما يجب أن يفعله المؤرخ، فهو ليس مجرد حافظ للأحداث، بل عليه أن يعرف القصة التي خلف القصة لأن لا شيء يأتي من فراغ، وكل حدث يوجد ما مهد لوقوعه وما نتج عن وقوعه، وربما تكون القصة محض خيال، ولكنها أحدثت تغييرات عميقة وخطيرة، ليست مبنية على أساس واقعي.

 

في مشهد عرس قانا في الجليل حيث دُعي يسوع وأمه والتلاميذ، لدينا دليل على الدفء المفقود في العلاقة بين يسوع وأمه. فلما نفذت الخمر والحفل مازال في منتصفه، توجهت أم يسوع إلى ابنها ليجد حلاً لهذا الوضع المُحرج: “ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: ليس لهم خمراً! فقال يسوع: مالي ولك يا امرأة. لم تأتِ ساعتي بعد. قالت أمه للخدم: مهما قال لكم فافعلوه.” (يوحنا 2: 1-10). يلي ذلك قيام يسوع بأولى معجزاته وهي تحويل الماء إلى خمر. بعد ذلك علينا أن ننتظر إلى نهاية الإنجيل لنقابل أم يسوع مرةً أخرى واقفة عند الصليب: “وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه، وأخت أمه مريم التي هي زوجة كيلوبا، ومريم المجدلية. فلما رأى يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً قال لأمه: يا امرأة هو ذا ابنك. ثم قال للتلميذ هو ذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته.” (يوحنا 19: 25-27). هذا كل ما لدى هذا الإنجيلي الذي تجاهل قصة الميلاد ليخبرنا به عن مريم.
في بقية أسفار العهد الجديد لا يرد ذكر مريم إلا مرة واحدة فقط، وذلك في سفر أعمال الرسل، وبطريقة عابرة. فبعد أن ارتفع المسيح إلى السماء بعد أن أمضى أربعين يوماً يظهر للتلاميذ على فترات متقطعة، عاد التلاميذ إلى جبل الزيتون بالقرب من أورشليم، وكان معهم مريم وإخوة يسوع الذين آمنوا به على ما يبدو بعد صلبه وقيامته: “ولما دخلوا صعدوا إلى العُلية التي كانوا يقيمون فيها: بطرس ويعقوب ويوحنا… إلخ. هؤلاء كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطِلبة مع النساء ومريم أم يسوع وإخوته.” (أعمال 1: 9-14).
بعد ذلك تختفي مريم في سفر أعمال الرسل. أما إخوته فقد بقوا، أو بقي بعضهم، عضواً في كنيسة أورشليم الجديدة، لأننا نعلم من سير الأحداث أن أكبرهم وهو يعقوب قد صار رئيساً لهذه الكنيسة وحمل لقب أخو الرب. وهناك أخ آخر له يدعى يهوذا تنسب إليه إحدى رسائل العهد الجديد المعروفة برسالة يهوذا.
فإذا نظرنا إلى رسائل القديس بولس التي تشغل الحيِّز الأكبر من العهد الجديد، والتي كانت الأساس الذي بنت عليه الكنيسة لاهوتها السامق، لم نعثر لمريم العذراء على أثر، وليس في إشارته العابرة الوحيدة إلى أن يسوع قد ولد من امرأة أي صلة بالسيدة مريم، لأن كل كائن بشري قد وُلد من امرأة، حيث يقول: “ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني.” (غلاطية 4: 4-5).
فإذا انتقلنا إلى الرواية القرآنية للإنجيل، وجدنا لمريم حضوراً طاغياً لا يقارن بحضورها في العهد الجديد. فقد ورد في الرواية القرآنية، على قصرها واختزالها، اسم مريم نحو 43 مرة في مقابل 19 مرة في جميع أسفار العهد الجديد البالغ عددها 27 سفراً. وهي المرأة الوحيدة التي ذكرها القرآن بالاسم، أما بقية النساء فقد نسبن لأزواجهن كقوله: امرأة عمران وامرأة لوط وامرأة فرعون، أو نسبن لما اشتهرن به مثل ملكة سبأ. وفي مقابل صمت الأناجيل الأربعة عن أصل مريم وحسبها ونسبها، والذي نجد نموذجاً عنه في قول متَّى: “أما ولادة المسيح فكانت هكذا: لما كانت أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا. وُجدت حُبلى من الروح القدس.” فإن الرواية القرآنية تنسبها إلى سلسلة الأنبياء العظام في تاريخ الوحي الإلهي، وتجعلها سليلة أسرة نبوية مصطفاة على العالمين: “إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. ذرية بعضهم من بعض، والله سميع عليم.” (3: 33). وإضافةً إلى انتمائها إلى هذه الأسرة المصطفاة، أسرة آل عمران، فإن مريم هي أشرف وأنبل نساء الأرض قاطبةً: “وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين.” (3: 42). وهي نموذج التقوى والصلاح: “يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين.” (3: 43). وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين.” (66: 12). وهي مثال العفة والطُهر: “ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا.” (66: 12). وتبلغ عظمة مريم ذروتها في قوله تعالى: “وجعلناها وابنها آية للعالمين.” (21: 91). “وجعلنا ابن مريم وأمه آية.” (23: 50).
وتتابع الرواية القرآنية تعداد فضائل مريم: “ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط… وضرب الله مثلاً للذين آمنوا… مريم ابنة عمران.” (66: 10-11). ويصفها النص بأنها صديقة: “وأمه صِدِّيقة.” (5: 75). والصِدّيق هو لقب من ألقاب التشريف الخاصة بالأنبياء: “واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً.” (19: 41). “واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً.” (19: 56). ومريم وابنها محصنان ضد الخطيئة ولا سبيل للشيطان إليهما. وهذا هو مؤدى قول والدة مريم لما وضعتها: “وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم.” (3: 36). وقد ورد في الحديث الشريف ما يشرح هذه الآية: “ما من ولد يولد إلا مسَّه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً، إلا مريم وابنها.” (رواه الشيخان). وقد ورد في إنجيل متَّى وإنجيل لوقا ما يشير إلى حصانة يسوع ضد الشيطان وذلك في قصة تجربة الشيطان له وعجزه عن إغوائه (متَّى 4 ولوقا 4). وفيما بعد، بنى اللاهوت المسيحي مفهومه الخاص عن حصانة مريم عندما اعتبرها قد وُلدت مبرأة من الخطيئة الأصلية التي يشترك بها بنو آدم.
وتدافع الرواية القرآنية عن سمعة مريم التي حاول اليهود طيلة تاريخهم تلطيخها واتهامها بالزنى: “فيما نقضهم ميثاقهم (أي اليهود) وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء… وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً.” (4: 155-156) فلقد استخدم اليهود شخصية مريم في سياق انتقادهم للمسيحية والحط من قدر يسوع الذي وصفوه بأنه ابن غير شرعي لمريم من جندي روماني يدعوه التلمود بانتيرا.
وقد غادر بانتيرا هذا فلسطين بعد أن حملت منه مريم. وقد كان للعثور على شاهدة قبر لجندي روماني من مدينة صور الفينيقية، توفي في ألمانيا، كتب عليها: تيبريوس جوليوس عبدي بانتيرا، دور في إعادة فتح هذا الملف الذي لم يغلقه اليهود حتى اليوم. وفي هذا الشأن يقول الباحث Morton Smith في كتابه: Jesus the Magician (N.Y.1978, P47)، بأن الاسمان الأولان في هذا الاسم المركب هما تيمنّا باسم الإمبراطور تيبيريوس الذي خدم هذا الجندي خلال حكمه، والاسم الثالث “عبدي” هو اختصار للتعبير السامي “عبد شمس”، وأما الثالث “بانتيرا” فهو ترجمة للاسم السامي “فهد” وهو الاسم الأصلي لهذا الجندي. ثم يتساءل إذا كان هنالك صلة بين هذا البانتيرا وبانتيرا التلمود


الكاتب : فرس السواح

  

بتاريخ : 10/06/2021