الإنسان المهدور في السينما الكورية الجنوبية

تشكل دراسة الدكتور مصطفى حجازي «الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية» (2005) منطلقا نظريا لمحاولة تلمس مظاهر هدر مقدرات الفرد والمجتمع، كما صورها المخرج والسياسي الكوري الجنوبي bong joon ho في نماذج من أفلامه الناجحة، خاصة فيلم parasite الحاصل على جائزة أوسكار أحسن فيلم، ومخرج، وسيناريو لسنة 2020.
يعرف حجازي الهدر بأنه: التنكر لإنسانية الفرد، وعدم الاعتراف بقيمته، وحصانته، وكيانه، وحقوقه. ويتخذ أشكالا ثقافية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، تمس الأفراد، والمجتمعات، والجنسين، وكل الفئات العمرية، في جميع بقاع العالم، بما فيها بالطبع المجتمعات المتطورة ككوريا الجنوبية.
يصور فيلم parasite (2019) أسرة من العاطلين الذين ما إنْ حصلوا على عمل لدى أسرة غنية، حتى أتقنوا كل ما أنيط بهم من مهمات. مما يوحي بأن عطالة المواطن، وعيشه باعتباره طفيليا في قبو عمارة، يتصيد شبكة «الويفي» من جيرانه، ويتحايل على الفقراء أمثاله لينزع منهم وظائفهم، إنما يعود للسياسات الاقتصادية الرأسمالية الفاشلة، الموبوءة بالأزمات الدورية. سياسيات بوأت امرأة لا تتقن شيئا صدارة المجتمع، تتقزز مثل زوجها من رائحة من هو أدنى منها، مهما اجتهد لتغيير وضعيته الاجتماعية والاقتصادية.
هذا الاحتقار هو الذي جعل الأب العاطل، يستهزئ من سياسات دولته في مواجهة العدو الشمالي الشيوعي، بصيغة تقارب التفكير في الخيانة. وهو ما دفع ابنه المتقن للغة الإنجليزية إلى الإصرار على العمل لغايةٍ استهلاكية، هي اقتناء الفيلا التي يختبئ في قبوها والده الهارب من العدالة، مُتعيِّشا على بواقي ملاكها. وهو قرار سلبي، لأن العمل لسنوات طوال لأجل هذا الهدف سيهدر زهرة شبابه.
ويبدو أن فيلم barking dogs never bite 2000 صور هذا الهدر والتضييع أفضل تصوير، حين جعل أستاذا جامعيا يقدم رشوة ليترقَّى، مُتخلِّيا عن مبادئه. كل ذلك بعد أن كاد يصاب بالجنون جراء احتقار رفيقته له، وإزعاج كلاب الجيران إياه، وفشله في ربط علاقة عاطفية سوية بفتاة طيبة عاشقة للطبيعة.
في فيلم the host 2006 تشخيص عجائبي للهدر الذي تعاني منه البيئة الكورية، جراء مخلفات القواعد العسكرية الأمريكية المتمركزة هناك. وهو ما أنتج أيضا معاناة البسطاء من الكوريين اقتصاديا بسبب انتشار البطالة والتشرد، ونفسيا من خلال احتقار الذات، والتخلي عن الأهداف. هدر يعمقه التلاعب بهم إعلاميا وصحيا، بتواطئ من المسؤولين المحليين. غير أن النهاية كانت مشرقة حين ازداد وعي البسطاء وتلاحمهم.
ويعود فيلم memories of murder (2003) إلى الثمانينات، حين كانت كوريا الجنوبية ترزح تحت حكم دكتاتوري مقنَّع، يتقوى بترهيب الناس من هجوم الشيوعيين، وبرجالِ شرطةٍ لا يتورعون عن قمع المظاهرات بوحشية، بالإضافة إلى تعذيب وهدر كرامة كل من اشتبهوا به، دون مراعاة لحقوق الإنسان، أو العمال، أو مساطر التحقيق الجنائية. وقد كان هذا النظام من التجذر، أنه استطاع إفساد الشرطيين المؤمنين بعالمية حقوق الناس، خاصة في القرى، والمراكز الحضرية المهمشة التي تنتشر فيها مختلف الأمراض النفسية والعقلية، والعقد والجرائم الجنسية، الحاطَّة من احترام الفرد لنفسه. ويبدو أن الفيلم حاول تحذير مشاهديه، من مغبة عودة هذا الماضي الأسود، حين عاد الشرطي الفاشل –الذي أضحى وكيل مبيعات زمن الديموقراطية– إلى مكان أول جريمة للقاتل الغامض. أما التفاؤل فتأتَّى من اختيار الديموقراطية نظام حياة أنتج تلميذة أسعدت المشاهد ببراءتها.
غير أن فيلم mother ناقض هذا التفاؤل، حين شخَّص أُما تصارع المجتمع لحماية ابنها المختل عقليا. بل وارتكبت القتل حماية له، لما ثبت لها أنه فتك بتلميذة عن غير قصد، وذلك لتبقيه معها، وتحت رقابة حبها الامتلاكي الأناني، وخوفا من أن يفضح محاولتها قتله ذات يوم، لأن العناية به حرمها الاستمتاع بحياتها، وهَدَر طاقتها الجنسية. كما أنه حب أضاع ملكات هذا الشاب الذكي، صاحب الذاكرة القوية، المتطلع لحياة جنسية سوية.
ويغرِق فيلم snowpiercer 2013 في الخيال العلمي، مصورا حقبة جليدية عمت الكوكب نتيجة تجربة علمية فاشلة. ليحمل قطار خارق وحيد آخرَ من تبقى من البشرية، يتميز بطبقية صارمة، وتحكمٍ مطلق من الفئات الغنية في ركاب الدرجة الأخيرة، عبر زعماء مزيفين، وخطب سفسطائية، وسيكولوجية جماهير ذكية، تدفع إلى ثورات جياع يرغبون في التحرر. غير أن هذه الثورات تبقي على عدد قليل منهم، ينجبون أطفالا يُبقُون القطار مشغَّلا، تماشيا مع نظرية «مَالْتُوس» الاقتصادية السكانية. وقد كان الحل للخروج من هذا الهدر، والتحكم، وتحريف الثورات الداعية إلى الحرية والمساواة، تحطيم القطار، والعودة إلى البدائية الأولى لبناء حضارة جديدة، قائمة على التضامن الإنساني.
وحتى يدين تلاعب شركات الأغذية بالمستهلك، عبر إيهامه بأطعمة طبيعية «بيو» رخيصة ولذيذة، لكنها تهدر صحته، وماله، مثَّل فيلم okja (2017) تعلُّق طفلة بدوية بخنزيرة ضخمة معدلة جينيا، ستقدم للمستهلك على أنها سلالة طبيعية نادرة، استهلاكُها للموارد الطبيعية قليل، وانبعاثاتها الكاربونية معتدلة. ورغم محاولات َجد الفتاة إقناعها بالتخلي عن خنزيرتها لأجل حياةٍ عاطفية شبابية في المدينة، وزواجٍ حتما سيهدر حريتها وإنسانيتها، وحبها للطبيعة، فقد استطاعت الفتاة تحرير الخنزيرة، بمساعدة من جمعية تنشط في مجال حقوق الحيوان، وفضْحِ الشركات الرأسمالية العملاقة.
لقد عرت هذه الأفلام المنتمية إلى الكوميديا السوداء مقدار الهدر، والاغتراب، والاستلاب الذي يعرفه المجتمع الكوري الحديث، أفرادا وجماعات، حتى في زمن الديموقراطية، والازدهار الاقتصادي والتكنولوجي. مما يدفعنا إلى ضرورة الوعي بهذه التجاوزات الحاضرة أيضا في مجتمعاتنا العربية، ثم التصدي لها. هذا دون نسيان جوانب الهدر التي يختص بها عالمنا العربي، الناتجة عن غياب الديموقراطية، وشيوع العصبيات المختلفة، وسلطان الفكر الغيبي، وتغول العولمة، والرأسمالية، والفقر.


الكاتب : مصطفى لكزيري

  

بتاريخ : 20/10/2022