الإيكولوجيا المضادة: أي مستقبل ينتظر الأرض؟

بلا شك يظهر أن مفهوم «الايكولوجيا المضادة» صار يقتحم تدريجيًّا باحات الفكر الفلسفي والإنساني بنهاية عِقد الستينات من القرن الماضي، وذلك تحت تأثير رجع الصدى الذي أحدثه تقرير نادي روما البيئي 1968 (1)؛ في سياق مُفعمٍ بالتحولات السياسية والإيديولوجية الكبرى. قاد التقرير فيما بعد نحو الإعلان عن انعطافة تاريخية غير مسبوقة في تاريخ الوعي الإيكولوجي بعالم ما بعد الحداثة، لِمَا أثاره من إدانة لرجال الأعمال والاقتصاد ولمالكي وسائل الانتاج والإكراه من جهة، ولمَا تعرضت إليه مُحررته الإيكولوجية هيلاري ميدوز من مضايقات ومساومات، وهي تطلق صافرة الإنذار الأولى بخصوص سياسية الافتراس البيئي/ الرأسمالي تجاه البيئة قبيل انعقاد قمة ستوكهلم 1972 من جهة ثانية.
نحن هنا أمام لحظة فارقة في تبلور الوعي الإيكولوجي بالأخطار الكبرى المحدقة بكوكب الأرض، ولحظة تأسيسية بامتياز، وإن بدا أن براديغم الإيكولوجيا المضادة يجد تأصيلا فلسفيا له في متون الفلسفة المعاصرة.
نقترب هنا من مفهوم مشابه لدى الفيلسوف الفرنسي إدغار موران تحت مسمى «الثقافة المضادة» ضمن كتاب يحمل عنوان السنة الأولى من العصر الايكولوجي l’an première de l’ère écologique، الذي هو في الأصل تأليف مشترك رفقة هيلو 1970، بتأثير من زملاء له بجامعة بيركلي الأمريكية.
بعيداً عن جدل التأصيل، تترصد واقع بشرية اليوم ثلاثة أخطار كبرى مُحدقة، حاولت الايكولوجيا المضادة بتصوراتها الجذرية (العميقة/ النسوية/ السياسية) والبيداغوجية (الإصلاحية) أن تكشف عنها من أجل فهم بنية الافتراس البيئي وتوصيف أكثف للظاهرة البيئية: (2)
الخطر النووي: يعتبر رواد الإيكولوجيا المضادة أن نبقى أحياء مع هذه الترسانة العسكرية التي تحيط بنا من كل جانب ليشكل أعظم معجزة تمنحها لنا الأرض، 300 قنبلة نووية كافية لتوقيف معالم الحياة بهذا الكوكب، أمريكا لوحدها تتوفر على 75000 منها. أَوَ ليست الكارثة في نهاية المطاف كما يقول المفكر الفرنسي جيل كيبل إلا التقاء رجل وسياق. اعتبارا لذلك، حسب هؤلاء، يتمثل الحل في التفكيك الشامل والسريع لهذه الترسانة العسكرية من دون مزايدات سياسية ولا إيديولوجية.
الخطر السياسي: مفكرون إيكولوجيون عظام من أمثال جان زغلر وادغار موران وجاك أتالي وبيير رابحي وستيفان هيسيل… ما فتئوا يطلقون صفارات الإنذار، منبهين إلى أن كوكبنا لم يعد يتحمل أنانيتنا المفرطة. الحل حسب عرَّاب الزراعة البيولوجية في إفريقيا والعالم الثالث بيير رابحي، إعادة النظر جذريا في مفهوم التنمية المستدامة من أجل مفهوم التنمية القابل للتحمل développement soutenable، من أجل اللانموla décroissance، من أجل التقييد الذاتي للحاجيات l’autolimitation des besoins، من أجل عودة الانسان إلى البساطة والعفة السعيدة la sobriété heureuse. يجب إعادة النظر جذريا في رؤيتنا للحياة، لموقعنا فوق الأرض، في التغيير الجذري للوجهة le changement radical du cap.
الخطر الاقتصادي: لا يمكن فصل المسألة الايكولوجية عن سياسة الافتراس الرأسمالي التي أنتجت المافيات والعصابات المفترسة، أو ما يسميها ستيفان هيسيل بالضواري، التي جعلت البشرية تستهلك أكثر مما تملك، وأصبح إيقاع العيش يتطلب كوكب آخر غير كوكب الأرض، ومنطق الانتاج والاستهلاك اللانهائي سيقود حتما إلى الارتطام الحائط.
لعل السؤال الأكثر وجاهة في هكذا سياق، إلى أين نسير بهذا العالم؟ إلي أين يقود العلم الانسان؟ وهل ثمة بدائل وممكنات أخرى غير التي توجد فوق الأرض؟(3)
يجب علينا أن نفكر بجدية في ناشئة اليوم والغد، يجب أن نعيد النظر بشكل جذري في كل هذه الفانتازمات التي صنعتها الرأسمالية ولا تزال، وهي تسوق للحياة الاستهلاكية السعيدة، يجب أن نؤمن أن حياة فرد واحد من حياة سبعة مليارات والعكس، غدا لن ينفع الأطفال لا الدبلوم الرفيع ولا الفيلا الخارقة ولا السيارة الفارهة ولا الحساب البنكي السمين، ما دامت البشرية تتوجه للارتطام بالحائط، كل هذه تبقى أوهاما رأسمالية انغرست في اللاوعي البشري.
منهجيا حيثما هناك خطر، ثمة إمكانية للانعتاق حسب الفيلسوف الألماني هولدرين، والتفكير بشكل متشائم مهم جدا لأنه يسمح بالفهم، بفهم الكارثة، بفهم مداخل المواجهة، بينما التفكير بشكل متفائل يقتل الفهم، ويمنحنا فهما مشوها للواقع. ديانتي في الحياة هي أن نفكر بشكل متشائم ونفعل بشكل متفائل، وهي في الأساس، تلتقي مع رؤية صاحب كراسات السجن أنطونيو غرامشي، ورؤية مثقف الكرامة المهدي المنجرة.
تصور الإيكولوجيا المضادة للقضية البيئية يمر عبر عدة أطروحات أساسية:
1- لا يمكن اختزال المسألة البيئية في جوانب تقنية مشوهة وخادعة، فأن نعتقد مثلا أن تقليص انبعاثات الجو كاف لمعالجة الوضع، نكون كمن يريد معالجة السرطان بالمهدئات، السؤال البيئي إما أن يطرح بشكل شمولي intégral أو لا يطرح أصلا، إما أن نفكر بشكل جذري أو نصرف التفكير أصلا في العطب، فالمشكل في الجسد وليس في الأعراض.
2- ما يجب تغييره ليس المناخ وإنما البيئة الحاضنة له، أي منظومة اقتصاد السوق، إنقاذ الأرض يمر عبر اجتثاث النموذج الرأسمالي الذي يعتبر الأرض بيتزا لا نهائية وكعكة غير محدودة، اجتثاث النموذج الذي يسعى إلى تحقيق الربح السريع والفوري ولو على حسابات المصلحة العليا للإنسانية. الرأسمالية التي تصنع الإنسان المخرب، التي تتحكم في العقول والتمثلات والخرائط الذهنية، في رؤية العالم لذاته وللعالم، في إنتاج إنسانية مفرطة الاستهلاك، منخرطة بعمق في اللعبة ، متحالفة ضد مصلحة البقاء، متواطئة ولاهثة. يمرر هذا القصف في أثواب ناعمة تدعى الإشهار، الأفيون الذي يحرك الرغبة الطبيعية والأصيلة في اللاوعي الانساني، الرغبة في التملك والمراكمة لتحقيق السعادة والنشوة.
لقد استطاع الإشهار أن يحدث انقلابا جذريا حتى في المفاهيم الفلسفية الكلاسيكية، فأصبحت السعادة هي تحقيق النشوة المادية الفورية، والعدالة حق الجميع في الوصول الى الكعكة الاستهلاكية، والنجاح إحاطة النفس بأكبر قدر ممكن من الماركات والملابس والحسابات البنكية…الإشهار يوقظ الاستيهامات لدى المستهلك، ولا يخمدها إلا ليعيد إيقاظها من جديد.
سبق لدومنيك كيصادا أن تحدث عن تحقق الفلسفة في الإشهار L’achèvement de la philosophie de la publicité، واعتبر الرأسمالية استراتيجيا إنهاء الفلسفة ومشروعها التقليدي، إلى درجة استطاعت أن تنتج سلعا عاطفية بتحقيق لأعلى مراحل النشوة، من صناعات التجميل الفائق والسيارات الباذخة وتكنولوجيات اللهو، بل وأعلنت عن نفسها حتى في قلب مدن الصفيح، وهي تعصف بنظرية الجغرافيين «المركز والهامش»، وتدفعها إلى المراجعة.
في نص جميل لشارل بوازيس حول التحليل النفسي للعلاقات الاجتماعية Psychanalyse du lien social، يتحدث عن قدرة الرأسمالية أن تعوض الفرد بالجديد le nouveau ، أصبحنا نبحث عن شريك استهلاكي استعراضي spectaculaire ،لم نعد نهتم بالإنسان الآخر، إنسان القيمة ،إنسان الأخلاق، أصبحت عقيدتنا الاستهلاكية «كول ولبس وما سوقيش» تجسيدا كاملا للعالم l’incarnation total du monde، أصبحنا نظل مع الآخر ما دام قادرا ماليا وعاطفيا على أن يحقق لنا الربط بالعالم، بالاستهلاك، بالاستعراض، بالمتعة، بالنشوة…علاقتنا بالآخر في سياق لعبة مرتبطة بمدة صلاحية.
3- رواد الايكولوجيا المضادة لا يعولون على الفوق، على السياسيين، صاروا مشلولين يظهرون كما أنهم غير مفوضين من طرف البشرية، مات السياسيون لنتركهم يخلدون في مزبلة التاريخ، لنراهن على التحت، لنبدع أساليب جديدة من النضال والتغيير، لننطلق من التحت، من الفرد والعائلة، من الحي والمدينة، لنشتغل على مقاطع دقيقة من الفضاء الاجتماعي، لنفكر في أفق آخر، اقتصاد آخر، أسلوب آخر، نمط عيش آخر، لنستلهم حكمة الكولبري، الطائر الذي تصدى لوحده لحريق الغابة، الطائر الذي ضحكت منه جميع الحيوانات، وقال بمسؤولية لا تخلو من تقدير je fais ma part (4)
نحن في حاجة إلى ثورة أنثربولوجية كبرى بمفهومها الشامل على الاستهلاك، على القيم التي تربطنا بتحقيق السعادة الاستهلاكية، نحن في حاجة كذلك إلى الترفع عن الحاجات المادية والعيش بسخاء نحو ممارسة حياة لا مادية ولا مشروطة، إلى الخروج من منظومة اقتصاد السوق.
علينا أن نشيع الوعي ونحفز الأطفال والشباب والنساء للخروج من دائرة اللامبالاة نحو الوعي الصارم بواقع الاشتباك والتداخل، من دائرة العقيدة الفاشية إلى دائرة العقيدة الإنسانية، علينا أن نطلق انقلابا جذريا في سُلَّم القيم، في سلم الأهداف والأولويات في الحياة، علينا أن نعيد التفكير جديا في إعادة بناء شاملة للتربية، للعلوم، للدين ولأنساق الحياة، علينا أن نكون كولبريين، فكل ثانية نضيعها تزيد من حظوظ ارتطامنا بالحائط.
لننصت إلى أحد حكماء هذه الأرض في لحظة ارتجاج العقل البشري، الحل في نظر الثوري الجميل بيير رابحي لا يمكن أن يخرج عن إعادة النظر جذريا في مفهوم «التنمية» من أجل «اللانمو» الذي يعني التقييد الذاتي للحاجيات، وعودة الإنسان إلى محضنه الأصل، إلى البساطة والعفة والكفاف، إلى الأصل البيولوجي/ الأنتربولوجي الذي اندثر بفعل المدنية الزائفة.
البيئة تحتاج إلى بشرية تلد الإنسانية، إلى ضمائر تنصت إلى تأوهاتها، إلى من يوقف نزيفها، وحركتها الآخذة سيرا نحو الارتطام بالحائط، نحو الهاوية بتعبير إدغار موران، إلى من يجعل من إنقاذ الأرض همه اليومي، ويوتوبيا حياته، إلى من يفكر في الآن والآتي، باختصار إلى من يفكر بمنطق مستديم.
الإحالات:

1- نادي روما يُعرف نفسه كأنه منظمة للأفراد تتقاسم هَم التفكير في مستقبل الإنسانية، وفهم التحولات الكبرى التي تواجهها على المستوى الإيكولوجي، عبر اقتراح حلول عملية وإقامة تحاليل علمية، مع مراعاة بعد الاختلاف والتمايز، تأسس سنة 1986 في أكاديمة ديلانسا بروما، يضم تشكيلة متنوعة من الشخصيات السياسية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية…اكتسب سمعة كبيرة عقب صدور تقرير The Limits to Growth سنة 1972.
2-Mohammed Taleb, L’écologie vue du sud, Edition Sang de la terre, 2014.
3- Corine Pelluchen, Eléments pour une éthique de la vulnérabilités, Les hommes, Les animaux, La nature, Edition Harmattan, 2014.
4- محمد منير الحجوجي، إنقاد الأرض، رواد الفكر/ العيش البيئي، مدخل إلى الايكولوجيا السياسية، دار القلم، 2016، ص 13.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 24/10/2025