مقاربة لديوان «عتبة تشايكوفسكي» للشاعرة أمل الأخضر
منذ بزوغ فجر الشعر وإلى يومنا هذا، شكل موضوع الحب جوهر التجارب الشعرية. لا يخلو ديوان شعر من كلمة «الحب». يستوي في ذلك الشعراء والشواعر…
و»الحب» من أكثر المفردات تواترا في القرآن الكريم في حين اختفت منه كلمة «العشق». والسبب ـ في نظر بعض المفسرين ـ هو أن «العشق» هو انجذاب القلب بدافع الاشتهاء، أما «الحب» فهو انجذاب القلب بدافع التقدير والاحترام.
اتخذ الحب أشكالا ومظاهر متنوعة في الشعر العربي التقليدي كالشعر الحسي أو الإباحي، والعذري، والصوفي… الذي تحول عند الشعراء الصوفيين إلى مذهب وعقيدة، ورفعوه إلى درجة القدسية.
في الشعر الحديث لا ينقل لنا عاطفة بسيطة ومعزولة، وإنما ينقل مشاعر متشابكة ومعقدة. وأصبح وسيلة وأسلوبا للرقي بالروح الإنسانية، يقدم لنا صورة الإنسان في جوهره، والكون في ثباته وتحوله، والحياة في سكونها وصخبها، والموت في حضوره وغيابه. يصبح «الحب» قوة تربط بين الذوات، ويؤسس علاقات بين الواقع واللاواقع…
وستعمل في هذه المقاربة لتجربة الشاعرة على تتبع تجليات الحب وألوانه على مستوى الدلالة، وإبراز جانب من جماليات القول الشعري على مستوى الأسلوب.
أولا: البعد الدلالي
سنتتبع في هذا العنصر ما أسميه «ألوان الحب» كما تجلت في تجربة الشاعرة باعتباره أحد أهم مقومات التجربة، ويقترن الحب في وجدان الشاعرة بصور شتى منها:
1. الحب عدو مشتهى
قصيدة «أمضي في الحب» فاتحة الديوان، هي أشبه ببيان تعلن فيه الشاعرة أنها مقبلة على الاحتفاء بالحب، وعلى المتلقي أن يتأهب ليحتفل معها، ويتقاسم معها هذا الاحتفاء.
تبدو العلاقة بين الشاعرة والحب علاقة متوترة، قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة، الذهاب للقاء الحب هو ذهاب لمواجهة عدو لذود في معركة تتطلب اتخاذ الإجراءات اللازمة لتتقي غوايته… تقول:
«أمضي في الحب كمن يمضي إلى حتفه، أكتب وصيتي الأخيرة، وأؤدي الديون التي علي، وأرتب بيتي الذي سيزوره المشيعون بعدي..» إنها معركة جهادية مع «الحب» وهي مستعدة للاستشهاد من أجله…(الديوان. ص5)
2. «الحب» وفاء
يتجسد في سلوك المرأة العجوز التي تعيش العزلة، يبقى الإخلاص والبقاء على العهد ديدنها. عزاؤها ما تبقى من ثيابه الذي ترتديها أو تحيكها على أمل عودة المحبوب الغائب يوما ما. تقول في قصيدة «في الحب»:
«في الحب تجلس على أريكتها، المرأة المسنة تحوك بأصابعها قميص حبيبها الذي لم يعد منذ عشرين عاما.»
هذا الحضور الرمزي للحب نلتقي به في قصيدة «على حافة بئر مهجور» ويتمثل في رزمة رسائل تعود إلى الزمن الجميل لمحبوب طال غيابه لمدة ثلاثين عاما، رسائل تؤنس وحدة وفراغ امرأة وحيدة. تقول:
صمت ثقيل شفاه امرأة جميلة
رسائل حب لا تبرح مكانها
منذ ثلاثين عاما.
(الديوان. ص 11)
(الديوان. ص ص7)
الحب يجمع ويوحد بين الكائنات والموجودات الأشباه والنظائر، وبين المتناقضات، هذه الصفات التي تميز الحب هي يمنحه إمكانية الوجود، والديمومة والاستمرار، يرفض البقاء على حالة واحدة، إنه يجدد نفسه بحسب مقتضيات المكان ومتطلبات الزمان. تقول:
«في الحب بروق ونيران.. خطايا وصبوات.. طين وصلصال، وأيادي العشق تحاول.»(الديوان. ص 9)
3. الحب المصيدة
يتحول الحب إلى فخ تحاذر الشاعرة الوقوع فيه، تخشى أن تخدع وتصبح ضحية ثقتها العمياء خصوصا عندما ينتابها الشك وعدم اليقين، والخوف والتردد.. تقول في قصيدة «بفم مطبق»:
جئت يسبقني الفزع
وتقودني الخطط
أحاذر الوقوع في الحب
أحاذر البسمات الصفراء.
(الديوان. ص 45)
4. الحب والطبيعة
وهي تتأمل حديقتها من شرفتها، تفاجأ بالحب الحاضر بقوة بين عناصر الطبيعة، إنه يؤثث النسيج العلائقي بينها.. ولتتفادى التهم التي قد توجه للشاعرة لأنها هي من جمعت بين هذه الكائنات، تتبرأ وتتنصل من كل مسؤولية.. تقول:
لا يد لي في ما حصل
اللبلاب العنيد خلسة أنشب بذوره
أسفل الشجرة المطلة على شرفة غرفتي
وضم في عناق شرس جسدها العريض
(الديوان. ص..)
5. الحب والموت
في تأمل الشاعرة لحركة الدؤوبة للكائنات الحية، من كل الأصناف والأنواع والأشكال: الطائر والزاحف والماشي، القاتل والمقتول، المرئي والمخفي، المائي والبري… تخبرنا الشاعرة عن الصراصير والعناكب والذباب والعصافير.. لتعلن في النهاية عن عجزها عن فهم ما يجري… تقول في قصيدة «لست سليمان»:
العناكب ترقص رقصة الحب البهلوانية ثم تموت
……
أتلصص على صندوق أسرارهم
وأدوّن أحوالهم في الحب بمداد الدهشة
ثم أنسخها بحدب العارفين.. (الديوان. ص 113-116)
6. الحب والخلوة
الحب ليس مجرد قيمة إنسانية وطبيعية ووجودية بل مرتبط بعالمنا الجواني النفسي، واختياراتنا في الحياة… وعندما نصرح بهذا الاختيار علنا، فهذا يعني أننا نثمنه.. اختارت الشاعرة العزلة لأنها تمنحها فرصة الاختلاء بالذات، وإعادة ترتيب الجسد والروح والأحلام والآمال.. في العزلة يحضر الإلهام، يتدفق، وتستمتع بالإبداع. تقول في قصيدة «عزلة حبيبة»:
تلوذين كغيرك بدفء الصخب
وألوذ برحابة عزلة حبيبة» : (الديوان. ص 111)
ما نخلص إليه بعد هذه الجولة القصيرة في علم الشاعرة وعلاقتها ب «الحب» أنها تؤمن به، وتبذل ما في وسعها لتقنعنا بوجهة نظرها ورؤيتها وهي تحتفي به.
ثانيا: البعد الشكلي والجمالي
في تتبعنا لهذا البعد، سنلاحظ أن الشاعرة استعانت بجملة من الأدوات في إطار احتفائها ب «الحب». وسنقتصر على استعراض اللافت للانتباه منها والذي ساهم في بناء جمالية التجربة الشعرية. وتتكرر هذه الأشكال في معظم الكتابات الشعرية عند الشاعرة وأصبحت طقسا من طقوس قولها الشعري، وتظل وفية لأسلوبها.
ومن هذه الظواهر:
1. التكرار: لعب هذا العنصر دورا وظيفيا أساسيا في تشكيل إيقاع القصيدة، تلوين نغماتها، وتنويع موسيقاها وتوزيعها بتوازن على امتداد مساحتها مكانيا وزمانيا. فتكررت الحروف والجمل والمفردات… ومن مظاهره:
1/1. التبئير على مفردة أو جملة
تختار الشاعرة من بين مفردات النص مفردة واحدة لتكون جوهر المفردات، ومركز ثقلها، وبؤرة الدلالة، والإيقاع كما في قصيدة «عازف سكسفون» ومفردة «حزينة» التي تكررت (15 مرة). ومن النص اخترت هذا هذه الأسطر أو الجمل الشعرية:
حزينة.. كشجرة زيزفون وحيدة
حزينة.. كحصاة دحرجها اليمّ
حزينة..كخطى عاشق مخذول
حزينة.. كغيمة في صيف قائظ
حزينة..كرخام بارد لمقبرة ساكنة
حزينة.. وطئت رغوة حلم قديم
حزينة…………………
(الديوان. ص 13 – 14)
وتمضي القصيدة بهذا الإيقاع التي لعبت فيه مفردة»حزينة»، وأدوات التشبيه. الكاف (8 مرات)، ومثل (6 مرات) دورا جوهريا في بناء جمالية الصورة الشعرية والإيقاع الداخلي.
ظاهرة التكرار هذه تصادفنا في الديوان وتتواتر في جملة من النصوص مثل» أمضي في الحب»، حيث تتكرر لفظة أمضي (6 مرات) فاتحة كل مقطع شعري البالغ عددها ستة مقاطع.. وفي قصيدة في الحب المشكلة من خمسة مقاطع، وكل مقطع يبتدئ بشبه جملة «في الحب» وقصائد أخرى مثل «يد باردة» و «نشيد الحب»..
1/2. حوار الأشكال
يبدو أن مقتضيات بناء التجربة الشعرية كانت الخلفية التي حكمت تنوع أشكال بناء النص، ووظفت الشاعرة نوعين من الأشكال:
الأول: الإطار الحر ويتمثل في أسطر شعرية تتراوح بين الطول والقصر، وهو الشكل الأكثر هيمنة. ويتميز هذا الشكل بالتكتيف على سواء على مستوى المكان، أو الفكرة والإحساس.
الثاني: الإطار الممدود: وهو عبارة عن جمل شعرية طويلة تنتظم وفق فقرات تختلف حجما. وهذا الشكل يمنح الشاعرة إمكانية التعبير بشكل أوسع على هواجس النفس والفكر.
الثالث المزج بين الإطارين كما في قصيدة «لا يد لي»:
اللقلاق بساقيه الرفيعتين يزاول مهامه بكل هدوء
يؤثث هندسة بيته جوار مدخنة كنيسة الحي
ويجرب مساء تدريب أصابعه على عشب الحديقة العامة دون اكتراث لحارسها المشغول دوما بعيني بائعة الحلزون على الرصيف القريب.
(الديوان. ص 89).
1/3. الصورة الشعرية
كثيرة هي القصائد التي تظهر فيها الصور كمشاهد مصورة تعتمد فيها حاسة البصر بشكل رئيس لالتقاط أجزاء هذه الصور التي تظهر كأنها وضعت بشكل عشوائي بجوار بعضها البعض، إلا أنها في جوهرها منتظمة وفق رؤية الشاعرة الخاصة والمنبثقة من طبيعة الاحساس الذي يصاحبها أثناء عملية التأمل والإبداع.
الخاتمة
ويبقى «الحب» هواحتفاء بالحياة، بالذات والآخر… هو من يقودنا نحو الأمل والتفاؤل ويساعدنا على تقبل الذات والآخر والتفاعل معه بإيجابية.. كما يصبح فلسفة ورؤية للحياة ومعادلا رمزيا لرؤية الشاعرة للكون والحياة. وتبقى القصيدة كما قال الشاعر الفرنسي بول فاليري: «هي ذاك التردد الممتد بين الصوت والمعنى».