كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.
خلال السنوات الأولى تم بناء الدولة – الأمة، كما في كل الدول الخارجة من الاستعمار في إطار الصراع، حيث كانت التوترات دائمة داخل الاستقلال وحركة التحرر الوطني، كما بينه وبين القصر. ومع ذلك، ففي هذه اللحظة التأسيسية التي سرعان ما انتهت إلى تقوية هذا الأخير (القصر) على حساب مختلف قطاعات الحركة الوطنية، كانت هناك خيارات تم الوصول إليها في إطار مشترك بعيدا عن التعارضات: قيم فرضت نفسها كما برز نفس الفهم لقضية التفاوتات والعدالة .. وحدهم الشيوعيون ظلوا خارج هذه الرؤية. وهذا لا يعود فقط الى أصل الحزب الشيوعي المغربي، المرتبط بالحزب الشيوعي الفرنسي والخاضع لهيمنة النخبة المغربية اليهودية، ولا مرتبطا باختياره عدم إعطاء الأولوية لقضية الاستقلال قبل تحرير إطلاق البروليتارية العالمية ، بل إن الحدود الدينية هي التي رسمت الفرق، حيث إن الحزب الشيوعي المغربي كان يعتبر مناهضا للإسلام. وعليه فإن حظره في 1959 ، بكل ما فيه من تعسفه ، لأنه كان مبنيا على خطاب الملك فقط ، أثار القليل من المواقف وردود الفعل من طرف الفاعلين الرئيسيين في الحركة الوطنية.
لقد كانت الإشارة إلى مكانة الليبرالية السياسية في مسار المغرب قليلة من طرف التأريخ الكلاسيكي، واتخذت أشكالا عديدة إيديولوجية كما عملية. وإن لم تفرض نفسها أبدا كتيار فكري مهيكل ولا كقوة في الحقل السياسي في طور البناء ، فإن الليبرالية السياسية تجسدت في مجموعة حزب “الأحرار المستقلين” بقيادة رشيد ملين ( محمد رشيد ملين أنشأ حزب الأحرار المستقلين في 1937 لحظة القطيعة بين علال الفاسي زعيم الاستقلال ومحمد حسن الوزاني زعيم الشورى والاستقلال).. وتقوى بالتواصل مع الفرنسيين الليبراليين، لاسيما في إطار مجموعة البحث والتفكير الاقتصادي والاجتماعي بالرباط ( المجموعة تم إنشاؤها في الدارالبيضاء، ثم توسعت لتشمل الرباط ، وكان هدفها هو إعداد المغاربة للممارسة السياسية والإدارية للسلطة”.
ومن 1957 الى 1960،نجد أن هذه المجموعة من الناس الحضريين ، والتي تعود الكثير من شهرتها الى تمرد حزب الشورى والاستقلال بزعامة الحسن الوزاني، ظلت محشورة بين الرؤية المحافظة للدولة الأمة عند “الاستقلال” وشيوعية الحزب الشيوعي المغربي ، الشيء الذي لم يمنعها مع ذلك من المشاركة في الحكومتين الأوليين ..بفضل المصادفات والمناسبات السانحة، تقاطع هذا التيار مع مصالح الملكية، لاسيما في ما يتعلق برغبتها في الاستقلال عن الأحزاب السياسية. وبعد أن أزيح عن الحكومة أحمد بلافريج وعبد الله إبراهيم، عاد إليها في 1960 بعد تعيين ولي العهد مولاي الحسن نائب رئيس المجلس. هذا التحالف ( من سخرية التاريخ أن نعرف أن أحد ملهميه هو أحمد رضا اكديرة الذي سيشغل منصب وزير للداخلية، ثم مدير الديوان الملكي ومستشارا للملك لمدة طويلة ،خصوصا في سنوات الرصاص ). هذا التحالف سيسمح للملك بتكسير احتكار الاستقلال. وقد تحقق ذلك عبر بعض الرجال أمثال عبد الهادي بوطالب وأحمد بنسودة من الشورى والاستقلال ومحمد رشيد ملين (سرعان ما سيختفي) ، وأحمد رضا اكديرة عن الليبراليين المستقلين. في 1963 تحالف هذا الأخير مع الشورى والاستقلال والحركة الشعبية ( حزب أسسه المحجوبي أحرضان والدكتور الخطيب، وفي خطابه في المؤتمر الأول في دجنبر 1959 برر أحرضان هذا التأسيس بالحاجة إلى الكفاح ضد دكتاتورية الحزب الوحيد )، أي المتمردين من العالم الأمازيغي ضد الاستقلال لتشكيل جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (فديك). وهذا التكتل منح للملكية عناصر القاموس الليبرالي بدون أن تعتمد هذه الأخيرة المنظومة الفلسفية لليبرالية. هاذ التلاقي المثير للدهشة ، المضاد للطبيعة وغير المتوقع، ولا ينقصه عنصر المفارقة، لم يكن مع ذلك توظيفيا واستعمالاتيا فقط، ولم يكن بالأساس بدون آثار، حيث يفسر حضور مقترحات ليبرالية في ميثاق الحريات العامة في نونبر 1958 ، وفي الفهم الأصلي لآليات اشتغال المجلس الدستوري، والدستور في 1962 وجعلت النقاش غير المسبوق في بلد إسلامي ، بخصوص حرية المعتقد بمناسبة محاكمة البهائيين نقاشا عاديا !
اتخذت الليبرالية كذلك شكلين آخرين: من جهة، استلهمت الليبرالية داخل الحركة الوطنية الإصلاحيةَ الإسلاميةَ. فعلال الفاسي، وقد حمسه الفقه المقاصدي، فكر في نفس الوقت في الطابع الحتمي للاَّمساواة والوضع المقدس للملكية الخاصة والعمل الحر والتجارة ، وهوما قاده الى «مَفْهمة »معارضته لسياسات الحسن الثاني داعيا الى التعادلية وليس المساواة والمغْرَبَة.
بالنسبة لحسن الوزاني ، وعلاوة على قراءة مستنيرة للدين ، فقد عبأ المعارف التي اكتسبها على المقاعد الباريسية للـ«مدرسة الحرة للعلوم السياسية»، للتفكير بحق نخبة مستنيرة في السلطة وإعادة تعريف الديموقراطية بناء على الشورى. أما المرافقة الطويلة لليبرالية الفرنسية من طرف عبد الرحيم بوعبيد، فقد أفضت إلى ليبرالية قريبة من ليبرالية الفرع الفرنسي للاشتراكية العمالية، sfio والتي وجدت ترجمتها في ممارسة السلطة في الحكومتين الأولتين في ما سمي ب “سيستيم بوعبيد ” أو نظام بوعبيد، ويعني مجموعة من المؤسسات العمومية وشبه العمومية ـ cdg; bnde;bmce:bepi صندوق الايداع والتدبير ، والبنك الوطني للتنمية الاقتصادية والبنك المغربي للتجارة الخارجية مكتب الدراسات والمساهمات الصناعية ـ والهدف منها هو العمل كرافعة لتشجيع ازدهار القطاع الخاص..
من جهة أخرى، عبرت الليبرالية عن نفسها، داخل المجتمع عبر مركزية النشاط التجاري، المستند على ثقافة المدينة و الثقافة الدينية ، لكنه أيضا يستند على التاريخ للمعاصر الذي جعل من التجارة نشاطا للإنسان الحر المنفلت من الوظيفة العمومية الكولونيالية..