«البحر المحيط» لألساندرو باريكو

ثمة على الدوام بحر ، بحر يناديك

 

خطوة إثر خطوة، بدهاء وحكمة بحار عجوز، وبلغة نثرية تشبه الشعر، تومض فيها الصور وتتداخل مصائر الشخوص والحكايات، وتتحرك، لتندغم في أفق اكتمال المعنى وتعدده. يقودنا الروائي الإيطالي، ألساندرو باريكو، نحو عوالم البحر؛ الكون الموازي لصلابة المادة، الواضح حد الغموض، البحر المسرود من زاوية نظر مغايرة ؛ هو ليس ذاك البحر العادي، ولا ذلك الفضاء المفتوح على المغامرات البطولية، الذي نجده عند كونراد ، أو ميلفيل، أو ستيفنسن، أو هيمنغواي..إنما هو بحر حسي، مبهم غارق في مفارقاته وأبعاده الغرائبية، يشارك  في مغامرة إنسانية، يصوغ مصائر الأحداث والأشياء والبشر، عوض أن يكون موضوعا لها، يباغتك بحضوره المجازي، يأتي إليك قبل أن تذهب إليه:
( – كيف سنبلغ البحر؟- سأل الأب بلوش.
-سيكون هو من سيأتي ليأخذكم.ص: 64).
يفتح أمامنا- المؤلف- الطريق لولوج حكاية تمتح من تيمات سردية قديمة، تختلط فيها الأسطورة بفضاءات عجائبية، وأحداث لا متوقعة، عهدناها عند كبار رواة الملاحم، والأساطير، والرحلات البحرية، حيث يختلط الواقع  بالمعنى الرمزي والمتخيل الساحر، وحيث تبدو الشخوص وكأنها تسير وتنزلق في الهواء، والأشياء محلقة/معلقة، أو طافية في السماء، وأطفال يشبهون في تصرفاتهم ملائكة تجول في مملكة الدهشة وتطفو خارج إطار الزمن؛ الملائكة الحاملة لأجوبة عن كل الأسئلة التي يطرحها غموض البحر ولبس الحياة والعالم، (أيها المسيح . عنده أجوبة لكل سؤال ، ذلك الطفل ص : 102)..
شخوص شفافة حد الانطفاء أحيانا، وإشكالية ، مجردة من أي ملامح بطولية أحيانا أخرى؛ هي مثل البحر، تستمد قوتها من هشاشتها، وكل موجة تروي حكايات زمن  غامض، متوتر، ميتافزيقي ومبهم، يتناوب  فيه الحلم والواقع أدوار الحضور والغياب، وتتماس حدودهما، لدرجة نعجز عن الفصل بينهما، داخل عالم تصبح فيه ( الحقيقة دائما لا إنسانية ص:62 ) شخوص لعلها هنالك – داخل زمن الرواية -، منذ لحظة، أو لعلها هناك منذ الأزل..تنتظر أن ينصرم الزمن و يمضي، شخصيات يرسم  البحر طريقها في رحلة غرائبية للبحث عن الذات، وسط أحداث سوريالية، شخوص تتوزع على حكايتين،  وتفتش عن ملاذ للنجاة من حالة «الغرق»، عن طريق الصراع من أجل الحياة على متن قارب نجاة، أو عن طريق النظر إلى البحر للبراء من الأعطاب الوجودية والنفسية التي تسكن لا وعيها وأجسادها، وأرواحها المعذبة، ولا يطهرها سوى فعل النظر الى البحر لمعرفته، معرفة طهرانية فيها ميلاد جديد.
السرد هنا يخضع لقانون زمن البحر، الجزر والمد، أحيانا يأتي تيار الكتابة جملا طويلة مسترسلة تشبه المونولوج، تدمغ المعنى بتلوينات وصفية و صور  مختزلة، وتشابيه أصيلة يحسن الكاتب استولادها بأسلوبه الخاص في الكتابة، وأحيانا، هي فقط جمل قصيرة، في حوار مقتضب/ ممسرح، أو مقاطع شعرية/ صلوات، تلوح داخل متن الرواية كما كاسِرات الأمواج، أو صخور تنتأ في أفق النثر، وتشكل  جزر الاستعارة والمجاز،   تشكل وقفات يسترد عندها السارد أنفاسه قبل أن يرتطم  بالشاطئ، شاطئ «سردُ البحر»، حيث تمتص الرمال قوة ضربات موج النثر، وتتحول إلى جمل  يغلب عليها طابع «اللا اكتمال»، تتركك أمام بياض المعنى ومفارق التأويل، قبل أن تتبخر بين يديك وتذوب في زبد  العدم الشعري، أوتغرق في يم  المعنى والدلالات المحتملة، بأسلوب يطفو بنا على سطح الحياة، ثم ينقلب بفجائية ليجرنا نحو جوف مأساة الوجود البشري،  في خضم أحداث  غير مرتقبة ، مباغتة؛ لنفاجأ برؤية وجه امرأة في الوقت الذي كنت تنتظر فيه رؤية موجة:(كان بارتلبوم، في واقع الأمر، ينتظر موجة، أو شيئا من هذا القبيل. رفع ناظريه، ورأى امرأة ملتفعة بملاءة بنفسجية بديعة.ص: 41). وحيث لا ينظر أحد ولا تلتفت أعين  الانتباه،( ثمة شيء خارق للمألوف يجري هناك)…ثمة على الدوام بحر ، بحر يناديك .
شخوص الرواية موزعة  عبر حكاياتها،  شخصية جاءت إلى البحر/الخلاص/الترياق، لتبرأ من مرض» الفجور»/العشق/الخيانة، وشخصية  جاءت إلى البحر/الغموض، لتعلن أن البحر أيضا «ينتهي» أو ليفتش عن « أين ينتهي البحر»، وتكتب رسائل غرام إلى امرأة تعيش فقط في خيالها ، هنا تحضر تقنية أسلوب المراسلة، السارد يكتب رسائل غرام، إلى امرأة مفترضة/مثالية، تعيش في خياله..المرأة/ الحلم/.. ليتحمل ثقل الحياة ،(إن الكتابة إلى أحدهم هي الطريقة الوحيدة لانتظاره دون أن تتألم»ص: 213).تلك الرسائل التي ستنتهي إلى مصير تراجيكوميدي. و رسام يحاول أن يقتنص وجه  البحر اللامتناهي، ويسجنه في لوحاته البيضاء، يرسم الماء بالماء..وقس يؤلف صلوات وترانيم شعرية، و أخرى قذفها البحر على شاطئ الرواية، كي تحكي حكاياتها الغريبة وكأنها خارجة لتوها، من أسطورة غنائية مأساوية، شخصيات تحمل تناقضاتها الأليمة في داخلها، تتقاطع مصائرها عند الأفق الذي يبدأ فيه الجنون وينتهي البحر، شخصيات تنوس حيواتها في زمان يبدأ وينتهي بالبحر، ومكان يتماهى بين الوجود والغياب، ( هذا مكان يكاد يكون لا وجود له)، فضاء هلامي ، تتحرك فيه شخصيات تغرق في لا انسانيتها، بشاعتها، وجنونها، على سطح سفينة/مقبرة، مجرورة مع تيار الماء،  محكومة بالغرق في البحر، البحر حيث ( ليس ثمة كلمات، ولا مشاعر ، ولا حركات، لا شيء. ليس ثمة خطأة ولا أبرياء، لا مدانون ولا مخلصون. ثمة البحر وحسب، كل شيء تحول بحرا.141) البحر الذي يكتب البدايات والنهايات معا.
الساندرو باريكو – إذا استعرنا أحد تعابيره من داخل الرواية- « يرسم البحر بالبحر»- (وتلك فكرة تبعث على الارتعاش)…ص:13
ذلك البحر الذي ، وأنت تتوغل في أغواره ، سيظل هديره يطاردك طوال صفحات الرواية، وحتى حين تخرح من عوالمها، إلى عالمك الواقعي، ليصبح البحر في نظرك شيئا آخر، وتقف حائرا بين الوجود المألوف لذاكرة الماء واليابسة، وبين وجود يشذ عن كل حالات التوصيف والتسمية؛ وجود يتحقق ويتلاشى، عبر تقنيات الكتابة، أمكنتها، أزمنتها، وأحداثها، واقعها اذا كان هنالك واقع .. أم أننا فقط أمام سراب كوني، نتخيل وجوده، دون أن ندركه، واقع يشبه الشاطىء، حيث ينتهي البحر وتبدأ اليابسة، شاطىء الوجود السرمدي المتناهي، في حضوره وانتفائه :
(-هذا شاطيء البحر، أيها الأب بلوش.لا هو بالأرض، ولا هو بالبحر. إنه مكان لا وجود له.ص 120…).
* ملاحظة: هذا مجرد انطباع ذاتي، عن رواية استمتعت بقراءتها. 


الكاتب : علي أزحاف

  

بتاريخ : 06/04/2022