البروفيسور محمد قنبيب: قوة المغرب في أصالة المكون اليهودي – المغربي.. في تضحية اليهود المغاربة من أجل وطنهم.. وصيانتهم لعهدهم بملوك المغرب .. بشهادة عالمية من اليهود المغاربة أنفسهم !

من «خطاب العرش» في يوليوز إلى خطاب «افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية»، طرح الملك «محمد السادس» العديد من الموضوعات الأساسية و الحساسة منها : «مدونة الأسرة من أجل تحقيق مساواة أفضل بين الجنسين»، «التدابير الاقتصادية لاحتواء التضخم نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية»، «مواصلة مشروع الحماية الاجتماعية»، «تخفيف حدة التوتر مع الجارة الجزائر»، «أهمية توضيح مواقف مختلف البلدان من قضية الصحراء»، «إعطاء الأولوية لمواضيع المياه و الاستثمار»… إلا أن أبرزها تركيز جلالته على ما يرتبط بشأن «اليهود المغاربة» في الخارج و ارتباطهم بغرض «التوطيد للروابط المشتركة بين مغاربة العالم و مئات الآلاف من اليهود من المغاربة في الخارج»..
لذلك توجه موقع «لو بوان أفريك» (Le Point Afrique) إلى «محمد قنبيب» (مدير «المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب» التابع ل»أكاديمية المملكة المغربية») الذي وافق على الإجابة على أسئلة الموقع، و تفضل بشرح «أهمية هذا الموضوع كجزء لا يتجزأ من تاريخ المغرب».

o o هل يمكنك أن تخبرنا بالأسس و المظاهر الرئيسية لتعايش المسلمين و اليهود على مر القرون، ذلك من خلال البحث التاريخي ل»العلاقات الإسلامية – اليهودية في المملكة المغربية»؟

n n ينبغي أن نذكر بأن «التواجد اليهودي» في البلاد، يعود إلى أكثر من 2000 عام، إذ تميز في العصور القديمة بعملية «بربرة اليهود وتهويد البربر» و على أن بعض اليهود يحملون أسماء ذات أصول بربرية اليوم، ومنهم الذين اعتبروا أنفسهم من «السكان الأصليين» (توشابيم) و من ذوي الأصول من «المتدينين الفارين من اضطهاد القوط الغربيين» ومن الذين طردوا من «إسبانيا» تحديدا «غرناطة» سنة 1492 (Megorachim)، و «البرتغال» في نهاية القرن ال15 – أشهرهم «عائلة مارانوس» (وهي مجموعة تنتمي إليها عائلة «سبينوزا»، و ربما عائلة «مونتين» كذلك) – ما يعني أن التنوع داخل المجتمعات اليهودية موجود، و أنهم تمتعوا بالحماية فقط مع المسلمين (عرف «أهل الذمة»).
و في ما يتعلق ب»أسس العلاقات اليهودية – الإسلامية»، ينبغي الإشارة بإيجاز إلى أن «تأصيل المجتمعات اليهودية في البلد، وإقامة علاقات «يهودية – إسلامية»، أعطى نفسا جديدا في الدولة ووطد الولاء لحاكم البلاد، في حين أن التقارب و التأثيرات المتبادلة على مستوى «التدين الشعبي» خاصة في ما يتعلق ب»بركة القديسين» (بعضها كان شائعا ومبجلا من قبل الجميع) عزز «الشعور القوي» بالانتماء المشترك في مواجهة كل تحد كان (خاصة الجفاف) و «تهديدات الغزوات الإسبانية والبرتغالية»…
إقتصاديا، كان لذلك أثر على المجال الزراعي كالتشارك في «الصلوات» و «الأصيام» و «مواكب التوسل» ب»الرحمة الإلهية» في أوقات الجفاف. أما من حيث التجارة (مسافات طويلة)، كان اليهود في «سجلماسة» وغيرها على دراية بجولات القوافل ومستفيدين من روابطهم بإخوانهم في الدين في «تمبكتو»، و نفس الأمر في «التبادلات البحرية» بين القرون ال16 وصولا إلى القرن 19، كان التجار اليهود مثل نظرائهم المسلمين في قلب ما يسمى بنظام «تجار السلطان».. دعونا نتذكر «شهادة شخصية عظيمة ومحببة لي» من اليهودي المغربي الراحل «إدمون عمران المالح»، خلال ندوة نظمت في «كلية الآداب» في «الرباط» سنة 1995، جاء فيها: «(كان هناك في المغرب) هذه الطريقة الطبيعية والعفوية التي تميزك ك»يهودي»، سواء من «الصويرة»، «مراكش»، «دمنات»، «تارودانت»… تمنحك حضورا طبيعيا في المجتمع… (كان هناك أيضا) مجتمع قائم على إسلام سمح متشبع ب»الروحانية الدينية»، تنظمه كل تلك التفاصيل اليهودية – المغربية..».

o o في خطابه الذي ألقاه في 20 من غشت بمناسبة «يوم ثورة الملك و الشعب»، أصر الملك محمد السادس بشكل خاص على الأحكام التي تظهر الأهمية المعلقة على المكون اليهودي لدى الشعب المغربي.. لذا كيف كان تطور هذا المكون في عهد الحكام العلويين؟

n n لنا أن نجيب بالتذكير بأن جلالة الملك محمد السادس لم يتوقف، منذ أن كان وليا للعهد، عن إظهار اهتمامه باليهود المغاربة أينما كانوا.. هذا جلي في دستور المملكة المعتمد في عام 2011 الذي «يفتخر بهم ويعزز شعورهم بالإنتماء للوطن»، حيث تنص ديباجته (حالة استثنائية في العالم العربي و الإسلامي)، على : «أن المملكة المغربية، بوصفها دولة مسلمة ذات سيادة، تعتزم الحفاظ على هويتها الوطنية الواحدة وغير القابلة للتجزئة، ووحدتها التي تشكلت من خلال التقاء مكوناتها العربية الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية،المتشبعة بروافدها «الإفريقية» و «الأندلسية» و «العبرية» و «المتوسطية».. إن التفوق الممنوح للدين الإسلامي في هذا الإطار المرجعي الوطني، نراه يسير جنبا إلى جنب مع تمسك الشعب المغربي بقيم «الانفتاح» و «الاعتدال» و»التسامح» و «الحوار» من أجل «التفاهم المتبادل» بين جميع ثقافات وحضارات العالم».
شجع الملك الراحل «الحسن الثاني» سابقا، المواطنين المسلمين و اليهود على «الانغماس في هذه القيم و الدعوة إلى الوفاق بين المجتمعات و التمسك بالهوية المغربية». و بعد توليه العرش، واصل إيلاء إهتمام كبير بهم في المغرب، إنعكس أثره خلال زياراته إلى «أوروبا» و «الولايات المتحدة»، حيث استقبل من الوفود اليهودية هناك في مناسبات عدة، و تثمينا منهم «لسعيه لتسوية سلمية للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني»، و «التأثير الإيجابي» في قرارات مختلف القمم العربية والإسلامية مثل «قمة فاس» على وجه الخصوص، و كرئيس ل»لجنة القدس» أيضا. اتخذ سلفه، الملك الراحل «محمد الخامس»، موقفا شجاعا كذلك خلال الحرب العالمية الثانية ضد تنفيذ «قوانين فيشي العنصرية»..
إن اهتمام هؤلاء الملوك تحديدا ب»يهود البلاد» كان مستمرا منذ عهد أسلافهم الميامين باختلاف الأزمنة والسياقات التاريخية.. في هذا الصدد، لنتذكر ما فعله السلطان «سيدي محمد بن عبد الرحمن» (1859-1873) الذي حث موظفي الدولة على التقيد الدقيق (تحت طائلة العقوبات) بأحكام «الظهير الذي ختمه في فبراير 1864»، أمرهم فيه : «معاملة اليهود، على ترابنا، كما يأمر الله عز وجل، و بحيث لا يكون أي منهم ضحية لأدنى ظلم، ولا يصيبهم أي شر، ولا يحق لأي شخص آخر أن يؤذيهم سواء في شخصهم أو ممتلكاتهم… نحن نعارض (كل ظلم معروف) لأن جميع الناس في نظرنا متساوون في العدالة.. و بناء على ذلك، سنعاقب، بعون الله، كل من يرتكب ظلما أو يؤذي يهوديا».. تجدر الإشارة أيضا إلى ما قام به السلطان «مولاي إسماعيل»، الذي دافع عن رعاياه ضحايا التحرش أثناء إقامتهم في أوروبا، موبخا (عبارات شديدة اللهجة) سفيرا إنجليزيا في مكناس (1718) «طرد رعايا يهود من «جبل طارق» و الإستيلاء على ممتلكاتهم».

o o لننتقل إلى القرن ال20 و «فترة الحماية»… ما النظام الذي طبق على اليهود المغاربة بين 1912 و 1956؟

n n كان لخطاب في طنجة عام 1913، ألقاه «حاييم توليدانو»، اليهودي المغربي بصفته رئيسا ل»جمعية الطلاب السابقين لمدارس التحالف الإسرائيلي العالمي»، أن يعكس على هذا النحو وبنوع من «الإستباق» ما كان سيحدث بعد عام 1912، إذ قال لزملائه الطلاب : «إن «العصر الجديد» الذي ينفتح عليه المغرب مفعم بالحياة.. لكنه سيستثني أولئك الذين قاموا بتحصين أنفسهم من كل تغيير.. إن جماهير الإسرائيليين الأصليين ستواجه قريبا الضغط الاقتصادي للنظام الجديد.. لكنني سأمتنع عن التطرق هنا إلى مسائل ذات «طابع اجتماعي» أو «العنصرية» بشكل أكثر دقة ذات الاتباط الوثيق بالحقائق الاقتصادية للنظام العالمي الجديد».
من بين الأحداث التي وقعت في الفترة ما بين 1912-1956، المؤثرة على جميع سكان البلد من المسلمين واليهود سوية، كانت «التحولات التي أحدثها النظام الاستعماري»، و بما يتعلق تحديدا بالمجتمعات اليهودية، آثار أكثر وضوحا كنهاية «شبه الاحتكار» الذي كان يمارسه في السابق «التجار اليهود» الأكثر ديناميكية على «التجارة البحرية»، فضلا عن «الصعوبات التي يواجهها الحرفيون المتدينون (بنفس الطريقة التي يعيشها المسلمون) من «انغماس» في «حالة من الركود» بسبب المنافسة من «المنتجات الأوروبية و»اليابانية» التي تستفيد مما يسمى بنظام «الباب المفتوح» الذي أنشأته «الاتفاقية الدولية للجزيرة الخضراء» (1906)، و من «إفقار الفلاحين الذين سحقتهم الضريبة الزراعية» و «تجريدهم من ممتلكاتهم و حيث كانوا «الزبائن الرئيسيين» ل»الحرفيين» و»الباعة المتجولين» اليهود ل»مغرب ما قبل الإستعمار».

o o ماذا عن وضع اليهود المغاربة في ظل «نظام فيشي»؟ و عن الرغبة في نقل «مرسوم كريميو» في الجزائر و التأسيس له في المغرب على أنه «جهاز تشريعي مستوحى من النظام الأساسي لليهود الصادر في فرنسا»؟

n n مما لا شك فيه، أن وضعهم ك»رعايا مغاربة» هو الذي حماهم من مصير مماثل لإخوانهم الأوروبيين. بهذه الصفة، قام السلطان «سيدي محمد بن يوسف» بحمايتهم. فخلال هذه السنوات من الفوضى العارمة، وجد «اليهود المغاربة» أمنهم مع السلطان بصفته الملاذ الأخير لهم ضد محاولات تطبيق «قوانين فيشي العنصرية» في المغرب. جاء في رسالة من «وكالة الاستخبارات الفرنسية» بتاريخ «25 مايو 1941»: «علمنا من مصادرنا، أن العلاقات بين سلطان المغرب والسلطات الفرنسية أصبحت متوترة بشكل ملحوظ منذ اليوم الذي طبقت فيه الإقامة الفرنسية التدابير ضد اليهود.. حيث (رفض الملك) أن يفرق بين رعاياه جميعهم، الذين وصفهم بالمخلصين له». و منه، رفض تطبيق «القوانين الفرنسية المعادية لليهود» بحجة أنه «لم ير أي اختلاف في الولاء لدى رعاياه، و أعلن صراحة أن الحكومة الفرنسية يمكن أن تطلب منه تلقينها دروسا في التسامح».
من المؤكد، أن محاولات تطبيق «قوانين فيشي» كان لها آثار نفسية كبيرة بين «النخب اليهودية» و «خيبة الأمل» من فرنسا ما بين 1920 – 1930 بسبب «رفض طلباتهم للتجنس»، غير أن ما تعرضت له الطائفة اليهودية في المغرب، يعتبر أقل حدة مما عاشته في المستعمرة الجزائرية الفرنسية و المأساة التي وقعت في أوروبا. و اليوم، هناك «آثار حية» تحتفظ بها الذاكرة الفردية والجماعية لليهود المغاربة، أينما كانوا، لمواقف «سيدي محمد بن يوسف» خلال «عهد فيشي»، إذ لا شيء يوضح مكانة هذه الذكرى و الامتنان المرتبط بها، أفضل من الحفل الذي نظم في دجنبر 2015 بأكبر «كنيس سفاردي في نيويورك»، قدمت فيه «جائزة مارتن لوثر كينغ للحرية» التي منحت الأميرة «لالة حسناء» اعترافا بجدها «سيدي محمد بن يوسف»

o o كيف كان وضع «يهود المغرب» في أعقاب حصول البلاد على الاستقلال، خاصة بعد «أزمة السويس» في الربع الأخير من عام 1956؟

n n بعد عام 1956، بدأت التغييرات التي يعود تاريخها إلى القرن ال19 بالفعل بسبب الضغوط الأوروبية الرامية إلى جعل البلاد معتمدة «اقتصاديا» و «اجتماعيا» و «ثقافيا» على عدة موامل : «التحولات المرتبطة بنظام الحماية» و «الحرب العالمية الثانية» و»الهولوكوست» و «إنشاء دولة إسرائيل» و «الحروب العربية الإسرائيلية» (1948، 1956، 1967، 1973) و «العراقيل في الحوار الإسرائيلي – الفلسطيني»، كل هذه «العوامل التراكمية»، من شأنها أن تشكك على المدى الطويل في «استدامة المجتمعات اليهودية في المغرب»، التي كان قوامها في يوم من الأيام حوالي 250 ألف يهودي في جميع أنحاء البلاد تقريبا.
و مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن أحفاد من غادروا المغرب، ما زالوا متمسكين بالمكون المغربي لهويتهم و يحافظون على اتصال وثيق مع بلدهم الأصلي. فخلال «المسيرة الخضراء» (1975)، حشدوا للمشاركة في استكمال الوحدة الترابية للبلاد.. و اهتمامهم بالمبادرات التي اتخذها جلالة الملك «محمد السادس» ل»ترميم معابدهم اليهودية وصيانة مقابرهم»، و الاهتمام الذي يوليه ل»المكون اليهودي من تراث البلاد و المتاحف المكرسة له»… دون أن ننكر الدور الأساسي الذي لعبه الراحل «شمعون ليفي» في تأسيس «المتحف اليهودي – المغربي» في الدار البيضاء و دوره في «تعبئة إخوانه في الدين في أمريكا اللاتينية و أماكن أخرى حول العالم لاستكمال الوحدة الترابية للبلاد واستعادة أقاليمها الصحراوية»، و بادرة «يهود كاليفورنيا المغاربة» في نونبر 2019 في «لوس أنجلوس» بمبادرة «تحية للمغرب.. تكريم لسلالة التسامح» ك»تكريم نابض بالحياة للملوك الثلاثة للمغرب».

o o هل لك أن تتحدث عن المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب (IRRHM)؟ و عن مهامه و أولوياته؟

n n يعتبر المعهد، جزءا من «أكاديمية المملكة المغربية». تتم البرمجة الخاصة به بالتشاور مع الأمين الدائم للأكاديمية، البروفيسور «عبد الجليل لحجمري»، الذي يولي اهتماما خاصا للتاريخ ويحرص عليه، و يتضح ذلك في المكانة التي يشغلها هذا الانضباط في «المؤتمرات» و «الدورات السنوية» للأكاديمية، من بينها عندما ركزنا على «إفريقيا كأفق فكري»، و أسسنا بعدها ل»كرسي الآداب و الفنون الإفريقية» في الأكاديمية.
تتمثل إحدى المهام الرئيسية لنا في «تحفيز البحث في تاريخ المغرب»، استنادا إلى معايير هذا التخصص والانفتاح المعتمد على ثقافات العالم. ففي أنشطتنا، تمثل «المؤتمرات» و «الندوات» فرصا للتواصل مع الباحثين المغاربة والأجانب رفيعي المستوى، إذ تساهم هذه الديناميكية في تشكيل «مجموعات بحثية حول مواضيع محددة ومبتكرة»، و «شراكات مع الجامعات و المعاهد»، و إطلاق «مشاريع ذات اهتمام مشترك» و «نشر أطروحات غير منشورة».. كما يتابع العديد من طلاب الدكتوراه المؤتمرات والندوات التي تنظمها أكاديمية المملكة، و من المقرر أيضا عقد حلقات دراسية محددة لهم.
بشكل عام، نهدف إلى «جعل التاريخ في متناول الجميع» و خاصة الشباب و الأطفال، و المغاربة في جميع أنحاء العالم. وبطبيعة الحال، فالمهمة ليست بالسهلة في سياق عام يكون فيه التاريخ، موضوعا في كل مكان تقريبا في العالم لتحديات جذرية في جميع أنواع القضايا، غير أن هذا لا يمنعنا من المضي قدما، و التشجيع على وجه الخصوص على ظهور «جيل شاب من المؤرخين المدعوين إلى المساهمة في مواجهة هذه التحديات وإحراز تقدم في المجال التاريخي المغربي»، من خلال التنسيق و التآزر مع «المعهد الأكاديمي للفنون» و «الهيئة العليا للترجمة».

(المصدر : موقع «لو بوان أفريك» (Le Point Afrique)


الكاتب : ترجمة : المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 21/10/2022