يقول أدونيس محددا الرمز في الشعر:” الرمز ما يتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص” إذا كان هذا التعريف لأدونيس في الشعر، فالرمز في القصة يبدأ في نظري حينما تنتهي القصة، وتبدأ مرحلة التأمل والغوص في المضامين المضمرة للخطاب. هذه هي وظيفة النقد الثقافي الذي يبحث في الأنساق الثقافية للنص.
في المجموعة القصصية المعنونة ب “الشوارع” لمحمد الشايب، نجدها تضم بين دفتي كتابها اثنتا عشر قصة، يهيمن عليها مصطلح الشارع إن على المستوى الأفقي كعناوين موضوعاتية تشرّح هذا المصطلح وهي على الشكل التالي: شارع الحرية/الساحة/شارع الغريب/ وشوارع الليل.أو على المستوى العمودي نافذا لأعماق النص وبواطنه، حيث نلمس كثافة استعمال المصطلح بأوجه مختلفة وكأنه بؤرة وبوصلة النصوص.
بناء عليه إذا تأملنا نص ” شارع الحرية” نكتشف أن السارد يعيش قلقا وجوديا وهو يبحث عن شارع الحرية، وتكمن قيمة الموقف الوجودي للحرية عند السارد باعتباره إنسانا يدافع بشكل مستميت من أجل تحقيقها وتحققها. والحرية هنا هو المطلب الإنساني الحقوقي الكوني الذي يتطلب التضحية والنضال. هذا الهم هو الذي يحمله المثقف ويناضل من أجله، بكتاباته وتنظيراته، خصوصا المثقف العضوي الملتحم بقضايا المجتمع حسب التوصيف الكرامشي. لذا سنكتشف مع السارد عبر تجواله في شوارع المنجز القصصي عمق تشرد وضياع مجتمع. يقول السارد : ” في الشارع رأيت الناس يجرون، يلهثون، في الشارع أيضا متشردون …” كما لا يفوته أن يصور لنا الحركات الاحتجاجية المنظمة التي صادفها في طريقه وهو يبحث عن الحرية، وكأن حال مضمره يلمّح إلى النضال و احتلال الساحات العامة و ترديد الشعارات المناوئة للمسؤولين قصد الحصول على الحرية و الكرامة. يقول السارد في هذا الصدد : ” وجوه الشارع تتكرر … ثم آخرين يحتلون ساحة فسيحة قرب النافورة يحتشدون و يرددون الشعارات، يلعنون اللصوص و الاستعمار و الصهيونية و ينادون بالتغيير ” خصوصا إذا علمنا ان طبيعة الصراع تقتضي النضال و ان المسؤولين سالبين لهذا الحق بالقوة و ناكرين له، وهو المعبر عنه بشكل رمزي في شخص شرطي المرور لما سأله السارد عن شارع الحرية أجابه : “لا يوجد في هذه المدينة شارع للحرية” إلا ان الكاتب في نص ”الفرح” سينسج خيطا ناظما بين الحرية و الفرح اذ سيمتح رؤيته النافذة من أغوار المجتمع ومن واقع الفئات الاجتماعية الهشة المنتمية الى قاع المجتمع والتي تحاول ان تنشد الفرح بشتى الطرق مما ستجعل من محطة تزويج طامو من عبد القادر نقطة العيور الى نشدان الفرح. الاّ انه في ظل جمالية القصة نكتشف القبح المضمر في عباءة البلاغي الجمالي وهو ما يعرف عند عبدالله الغدامي بنظرية القبحيات كآلية للكشف عن حركة الأنساق والمقصود بها هو ” كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي وللحس النقدي ” في هذا السياق سنكشف عن بعض العبارات التي تضمر هذا النوع من الخطاب، فمثلا جملة ” مسكين تزوج بمسكينة وتهنات المدينة ” تحيلنا على أن الزواج سيتم بين مسكينين ، وفي المخيال الشعبي الزواج ستر وغطاء للمرأة، وكلمة مسكين ومسكينة لها من الدلالات ما يحيلنا على واقع البؤس والفقر الذي تعيشه كل من طامو وعبدالقادر، خصوصا إذا علمنا أن الاثنين يشتغلان في ضيعة البرتقال التي يملكها أحد الجنرالات. وهذا المعطى يقودنا إلى التفكير في الصراع الطبقي الذي يعرفه المجتمع المغربي، بين طبقة نافذة في المجتمع تملك وسائل الانتاج. تسيطر على معظم الأراضي والضيعات الفلاحية والمتمثلة في عسو وغيره من الأسماء، وبين طبقة لا تملك شيئا وتعيش تحت رحمة هؤلاء الاقطاعيين، كحال عبدالقادر وطامو وأمثالهم كثر. ونحن نغوص في ثنايا النص باحثين عن هذا الفرح الذي خطه السارد كعنوان لنصه نصطدم بواقع المدينة المنتمية إلى الهامش. فمن الطبيعي أن نصادف شبابا وصفهم السارد بشكل مدهش ومنزاح بقوله ” عادت جماعة الليل، بعدما صبت في بطونها كل قناني النبيذ. ”
هته الجماعة ستحطم أفق انتظار القارئ بإفسادها للعرس ليتحول إلى حزن. وتحضر الدولة في شخص البوليس. يفر من يفر ويعتقل من يعتقل. بناء على ما سبق فالنص رغم تأتيث فضائه بأجواء العرس الدال على الفرح إلا أننا نصطدم بهذه الثنائية الضدية المقصودة في الكتابة والمعنى، وكأن الكاتب بوعي يريد أن يحاكم واقع البؤس المسؤول عن حالة تمرد الذات الجماعية. وفي نفس سياق رؤية الكاتب التواقة إلى تشخيص واقع الحرمان، يطالعنا نص الساحة كنص صارخ على ما تعيشه فئات عريضة من المجتمع، يقول السارد : ” متسولون، مهرجون، لصوص، …عربات صغيرة…، وأصوات متعددة تتعالى في الهواء. ” فضاء مجتمعي يعكس طبيعة الأنشطة الاقتصادية التي تمتهنها هاته الفئات الاجتماعية. عراك ونصب واحتيال من أجل البقاء، باستثناء علال وصفية المنفلتين من هذا الواقع. أراد السارد أن يؤسس بهما وعي الضمير المجتمعي الذي يعمل بجد من أجل إثبات الذات بعيدا عن الانزلاقات القيمية. وهما يتجاذبان النظرات والأسئلة الحارقة لمجتمع الساحة تضيع الأجوبة بين فوضى البؤس والحلم بغد أفضل. يخلصا في النهاية على أن الساحة لم تعد صالحة للعيش. فقررا مغادرة المكان بهدوء. هذا الحل يحيلنا إلى موضوع هجرة الشباب بعد انسداد الآفاق المشرقة في مجتمعهم، مما يجعلهم عرضة لمخاطر قوارب الموت. يستسلمون للسماسرة بدل المطالبة بحقهم في العيش الكريم، بكل الأشكال المتاحة. نخلص في النهاية أن فساد الساحة من فساد المجتمع الذي لم يستطع توفير العيش الكريم لمواطنيه. وأمام هذا الاستبداد وعدم القدرة على مجابهته يفضل الشباب الهروب والهجرة بدل المجابهة مع نظام فاسد. هنا تغيب قيمة التضحية وتطغى الانهزامية والاستسلام. في سفرنا المضني مع الكاتب بحثا عن شارع الحرية، ونحن ننتقل بين شوارع المنجز القصصي لم نجد له أثرا على أرض الواقع، ولم نستطع القبض على مفهوم الحرية. منذ القصة الأولى ارتبطت الحرية بالذات الحالمة للسارد عبر المخيلة ، وهو الحلم الوجودي للإنسان في تحقيق ذاته بعيدا عن أية إكراهات خارجية. وعبر تقنية المناجاة في القصة الأخيرة الموسومة ب “محاولة هروب” يبرز لنا السارد تعطشه للحرية إلى حد الهلوسة بعد سماعه لصوت يناديه، يصافحه ويسافر بذاكرته يقول: ” فأوصلني إلى شجرة وارفة الظلال وكثيرة الأغصان وحبلى بالفواكه.” من المفروض أن ينعم السارد بالاستقرار وينتهي السرد نهاية سعيدة، إلا أن هذا الحلم لم يدم طويلا، وانقطع الصوت وعاد السارد إلى حالته الأصلية، حيث لبسته الأحزان يقول السارد: ” وأرغمتني على العودة إلى السير في شوارع العطش.” وهي عودة نحو الذات من أجل سبر أغوار الإنسان للتسلح بزاد الفكر من أجل مواجهة تحولات الواقع وتناقضاته.
على سبيل الاستنتاج.
إن هذه النصوص التي تناولناها بالتحليل والتفكيك والتأويل ترصد حكايات إنسان يسعى في بحثه الدائم عن الحرية إلى تغيير واقع يتسم بتناقضات طبقية صارخة: وإن لم يفصح عنها الكاتب صراحة. وهي نصوص تضمر صرخة في وجه الاستبداد وتدين واقع التهميش الذي آل إليه المجتمع خصوصا فئاته الحية من الشباب التي تجد نفسها عرضة للضياع.
البعد الرمزي في القصة القصيرة المغربية المعاصرة : «الشوارع» لمحمد الشايب نموذجا
الكاتب : عبد لله استيتو
بتاريخ : 23/11/2018