في كل شهر فبراير يثار موضوع فشل اتحاد المغرب العربي كإطار لاندماج الدول الخمس المغاربية، كما يثار أيضا موضوع نزاع الصحراء، الذي أخذ في شهر فبراير منعطفات ما زال تأثيرها مستمرا ليومنا هذا، ويجزم الجميع بأن مصير منطقة المغرب الكبير مرتبط بالعلاقات المغربية الجزائرية المتأثرة جذريا بنزاع الصحراء.
في هذا التحليل، نطرح السياق التاريخي السياسي لنزاع الصحراء في إطاره المغاربي، سياق قد يساعد في فهم الموقف المتصلب للدولة الجزائرية تجاه نزاع الصحراء.
كثيرون قد يسألون أليس هناك إمكانية للتجاوز؟ بيد أن الأمر أكثر تعقيدا يكاد يصل مرتبة مرض عضال بالنسبة للدولة الجزائرية تجاه جيرانها الست، مرض من مخلفات الاستعمار الفرنسي ونهاية الثورة الجزائرية في العام 1965، الذي شهد بداية عهد ما يسمى في الجزائر بجنرالات فرنسا، وبناء دولة تبني شعاراتها على الماضي فقط، وعدوين مفترضين، فرنسا، الأم والعدو، والمغرب الذي يمثل عقدة الدولة والتاريخ، ولذا يتكرر في خطاب المنتسبين لهذا التيار مصطلح « المخزن» عند الحديث عن الدولة المغربية.
العلاقات المغربية الجزائرية بالخصوص تجسد ليس فقط الذاكرة المتوترة، بل أيضا قصر أزمنة الانفراج، التي سجلت أحداثا من قبيل معاهدة الحدود في الفترة الممتدة من 1969 إلى 1972، و معاهدة الاتحاد المغرب العربي التي ولدت في فترة انفتاح بين البلدين امتدت من 1987 إلى 1992، عدا ذلك هو زمن التوتر الذي يكاد يصل في بعض الأحيان إلى حالة إعلان حرب.
فترات الانفراج، كان وراءها بالخصوص الملك الراحل الحسن الثاني من خلال مبادرات امتدت من 1963 إلى 1992، حيث فتح الملك بابا كبيرا لإعادة العلاقات المغربية الجزائرية إلى زمن 1954-1962 ، وذلك بموافقة البرلمان المغربي في 28 ماي 1992 على معاهدة الحدود المؤرخة في 15 يونيو 1972 . وكان الأمر هدية من المغرب للرئيس محمد مضياف، الذي قبل على مضض أن يكون رئيسا للجزائر بعد توقيف المسلسل الانتخابي من لدن الجنرالات.
في 24 يونيو، صدرت الموافقة البرلمانية في الجريدة الرسمية عدد 4156 ، لكن عقدة « الدولة» الجزائرية أبت إلا أن توقف هذا الأمل باغتيال بوضياف يوم 29 1992، أي أربعة أيام بعد صدور الموافقة المغربية في الجريدة الرسمية. وانفكت ألسن بعد ذلك تربط بين اغتيال بوضياف والتخوف من حل نزاع الصحراء وتسوية العلاقات بين الجزائر و المغرب.
في هذا التحليل، محاولة لقراءة بعض الوثائق الرسمية حول موضوع الصحراء من المغرب وموريتانيا والجزائر وليبيا.
هوية نزاع الصحراء
لكل نزاع مرجعية وإحالة تاريخية تشكل هويته، ونزاع الصحراء الذي ناهز عقودا عدة، يجد إحالته التاريخية في الزمن الممتد من يناير 1972 إلى فبراير 1976، مع فترة مفصلية أنتجت كل هياكل نزاع الصحراء، يتعلق الأمر بالفترة الممتدة من يونيو 1975 إلى فبراير 1976
في سنة الفترة الفاصلة ما بين 1969 – 1972 عرفت المنطقة توافق المغرب والجزائر وموريتانيا على حل المشاكل الترابية، وموازاة مع المخططات الإسبانية في الصحراء، المرتبطة بالتحولات الداخلية التي عرفتها إسبانيا أواخر عهد مرحلة فرانكو، بدأ الحضور المغربي مشعا على الساحة الإفريقية، لقطع الطريق أمام المؤامرات الاستعمارية الإسبانية في «الصحراء الإسبانية».
برزت قضية استرجاع الصحراء من اسبانيا،على الخصوص، بعد بدء الحديث عن خلق دولة في هذه المنطقة، تكون تابعة لإسبانيا شكلا ومضمونا، وفي هذا السياق كتبت مقالات تشبه ما يتم الإعداد له في الصحراء بما تم في فلسطين سنة 1947، كمقال الولي مصطفى( مؤسس البوليزاريو) في مجلة أنفاس، عدد مزدوج يناير 1972: بعنوان «فلسطين جديدة في الصحراء». وهي أصل لدراسة أعدها الولي حين كان طالبا في الرباط، ونشرها المرحوم يعتة ( حزب التحرر والاشتراكية) في مذكرة خاصة من مجلة المبادئ، ثم أعيد نشرها في دورية الاختيار الثوري ابتداء من أكتوبر 1977.
في سنة 1969 أعادت إسبانيا للمغرب منطقة سيدي إفني، في حين عملت على الاحتفاظ بالصحراء، وأنها كانت في الأصل أرض خلاء لا تخضع لأي سيادة أو إدارة للتهرب من تطبيق قرار تصفية الاستعمار، وشنت حملة دبلوماسية بأن أمر الصحراء لا يهم المغرب فقط، بل الدول المجاورة أيضا، وعند فشل هذه الخطة جهرت إسبانيا بموقف جديد، وهو أن المسألة لاتهم إلا طرفين، الإسبان والصحراويين.
في سنة 1970 عقد مؤتمر ثلاثي بمدينة نواذيبو بموريتانيا بين الملك الحسن الثاني ورئيس موريتانيا المختار ولد داده ورئيس الجزائر هواري بومدين لمناقشة مسألة الصحراء. في يوليوز 1973 حصل اجتماع قمة بين الملك الحسن الثاني والرئيسين الموريتاني والجزائري، أكد فيها بومدين الانتصار للمغرب في قضية أسبنة الصحراء. وخطب بوتفليقة، الذي كان وزير خارجية بومدين في قمة وزارية إفريقية بأديس أبيبا بأن الجزائر تضع كامل إمكانياتها لمساندة المغرب في استعادة الصحراء.
في سنة 1974 لجأت إسبانيا إلى تنظيم إحصاء أسقطت منه القبائل الصحراوية المهجرة إلى الشمال أواخر عقد الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وحددت عدد السكان في 74 ألف نسمة.كان الهدف من ذلك خلق دويلة صحراوية تابعة لإسبانيا، هذا الإحصاء سيصبح مرجعية أساسية في الثمانينات والتسعينيات بالنسبة للأمم المتحدة وأطراف النزاع. وأصدرت إسبانيا قانون الجنسية الصحراوية وواقف عليه مجلس الجماعة الصحراوي. وفي 20 غشت 1974 أعلنت إسبانيا عن نيتها في إجراء استفتاء لتقرير المصير
أمام التحركات الإسبانية في الصحراء الغربية تجندت الدول الإفريقية ومنظمة الوحدة الإفريقية للدفع بالمغرب وموريتانيا لتوحيد جهودهما من أجل قطع الطريق على إسبانيا، وفي هذا الصدد، صرح الكاتب العام لمنظمة الوحدة الإفريقية وليام مبوموا بتاريخ 29 أكتوبر 1974، برفض مشروع إسبانيا باستفتاء في الصحراء، واعتبر الأمر استعمارا جديدا، وابتهج لانضمام موريتانيا إلى المبادرة المغربية.
الأمم المتحدة ترسل بعثة تقصي إلى الصحراء: ماي – يونيو 1975
مع إصرار إسبانيا على خلق دولة في الصحراء، وإصرار المغرب على تطبيق تقرير المصير في المنطقة، احتدت المواجهة في الأمم المتحدة، فتقرر إرسال بعثة استطلاع وتقصي إلى « الصحراء الإسبانية»، وهو تقرير تم تغييبه سواء في إحالات قرارات مجلس الأمن، بل إن المغرب لا يتذكره ولا يستعمله رغم أهميته بالنسبة للطرح المغربي. يتعلق الأمر بتقرير أعدته لجنة أممية زارت «الصحراء الإسبانية» في ماي ويونيو من العام 1975، تطبيقالقرار أممي رقم 3292 صادر عن الجمعية العامة بتاريخ 13 دجنبر 1974.
خلص التقرير إلى صعوبة إجراء استفتاء لتشتت التركزات السكانية وإلى نمط العيش المرتبط بالترحال، وأن نسبة المستقرين لا تتعدى بضعة آلاف في العيون والداخلة والسمارة، وخلص التقرير إلى توصيات تطالب باتخاذ كافة الإجراءات لتمكين كل الصحراويين الذين لهم ارتباط بالإقليم، للتقرير في مصيرهم وإرادتهم في مناخ الأمن والسلم.
طالبت الجمعية العامة في هذا القرار إصدار فتوى من محكمة العدل الدولية، وأمرت اللجنة الخاصة المعنية بحالة تنفيذ منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة أن تبقي الحالة في الإقليم قيد النظر، بما في ذلك إيفاد بعثة زائرة إلى الإقليم». ( ينظر قرار الجمعية العامة الصحراء الإسبانية، رقم 3458. د- 30) وحثت الجمعية العامة في نفس القرار « الدولة القائمة بالإدارة( اسبانيا) على تأجيل الاستفتاء الذي تعتزم إجراءه في الصحراء الإسبانية إلى أن تبت الجمعية العامة في أمر السياسة التي يتعين اتباعها للإسراع بإنهاء استعمار الإقليم وفقا للقرار 1514( د- 15) في أحسن الأحوال الممكنة ، في ضوء الفتوى التي ستصدرها محكمة العدل الدولية» ( نفس المصدر). وحمل القرار رقم 3458، الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 10 دجنبر 1975 إحالات إلى تقرير اللجنة التي زارت الصحراء ، وإلى فتوى محكمة العدل الدولية، التي أصدرت في 16 أكتوبر 1975، وهو رأي يقضي بوجود علاقات تاريخية بين الصحراء الغربية/الإسبانية من جهة والمغرب وموريتانيا من جهة ثانية.
البلاغ المغربي الجزائري حول « الصحراء الغربية»
في نفس السياق، صدر يوم الجمعة 4 يوليوز 1975 بلاغ مشترك بين المغرب والجزائر، بعد زيارة وزير الخارجية الجزائري بوتفليقة للرباط. جاء في هذا البلاغ المشترك فقرة لها أهميتها في قراءة إخفاء الدولة الجزائرية لنواياها في الصحراء. يؤكد البلاغ على استقبال الملك الحسن الثاني لعبد العزيز بوتفليقة ، الذي صرح بأن « الجزائر وهي تؤكد أن لا مطمع لها في الصحراء الغربية التي ترزح تحت نير الاستعمار الاسباني، تسجل بكامل الارتياح، التفاهم الحاصل بين البلدين الشقيقين المغرب وموريتانيا في شأن المنطقة، والهادف إلى توطيد دعائم الأمن والطمأنينة والاستقراروالتعاون ( …) وتمسكا بمبدإ محاربة الاستعمار بجميع أشكاله.وقد أعرب الجانبان المغربي والجزائري عن اقتناعهما بضرورة احكام وسائل التنسيق لوضع حد عاجل للاحتلال الاسباني ومحاولات الحكومة الاسبانية للإبقاء بصورة أو بأخرى على نفوذها في الصحراء…».
رسالة الملك الحسن
الثاني إلى الرئيس بومدين
إلى هذا البلاغ يحيل الملك الراحل الحسن الثاني في رسالته إلى بومدين غداة أحداث امغالة،وإلى ما حمله وزير الخارجية الجزائري إلى الملك بخصوص الموقف الجزائري من الصراع. فهل ارتبط تغير موقف الدولة الجزائرية بحرمانها من شيئ في اتفاقية مدريد؟ وهل تسببت سرعة المغرب في الأخذ بزمام المبادرة في الدفع بالدولة الجزائرية إلى خيار الإعلان عن « جمهورية صحراوية»؟ لكن الرسالة التي بعثها الملك الحسن الثاني للرئيس الجزائري بومدين يوم 5 يوليوز 1975، مباشرة بعد زيارة بوتفليقة للمغرب، تكشف أن تنسيقا ما تمت الموافقة عليه، فالملك يشير في رسالته إلى الرئيس الجزائري، إلى استقباله لوزير الخارجية مرتين ، وأضاف الملك : « ولنا اليقين بأن السيد عبد العزيز بوتفليقة سيفضي إليكم بأصدق مشاعرنا ويحمل إليكم أجمل تحايانا…», وتحدث الملك في رسالته عن المستقبل المشترك، وأن « المغرب سيجد من جهته في فخامتكم، وفي سياسة الحكومة الجزائرية من السند والتأييد لمطالبه المشروعة التحررية، ما يثلج صدره، ويثبت قراره في شق طريقه نحو وحدة الترابية وأخوته الراسخة مع الجزائر…». إن الإشارة إلى « المطالب المشروعة التحررية» وإلى « الوحدة الترابية» خير دليل على أن المغرب كان يستشير القيادة الجزائرية في ما يتعلق بنزاع المغرب واسبانيا حول الصحراء، على الأقل إلى حدود يوليوز 1975.
وثائق جبهة البوليزاريو، خاصة المتعلقة بالمؤتمر الثاني « مؤتمر الشهيد عبد الرحمان ولد عبد الله» المنعقد من 25 إلى 31 غشت 1974، تحمل كثيرا من المؤشرات حول إخفاء الدولة الجزائرية لموقفها الحقيقي من قضية الصحراء، خاصة ما جاء في خاتمة البيان السياسي التي نص في إحدى نقاطه على : « ينظر المؤتمر باعتزاز إلى الدور الإيجابي الذي تلعبه الجزائر في قضية شعبنا شعب الساقية الحمراء ووادي الذهب»، وبعد ذلك يشيد البيان وبصفة أقل مما خصصه لدور الجزائر ب» الدور المشكور الذي لعبته الجمهورية العربية الليبية في دفع قضيتنا إلى الأمام». بين « الدور الإيجابي» الجزائري « والدور المشكور» الليبي، تحولت الوصاية على جبهة البوليزاريو من ليبيا إلى الجزائر، وهذا ما لمح إليه العقيد القذافي في رسالته إلى الملك الحسن الثاني أواخر شهر فبراير 1976، تزامنا مع إعلان تأسيس « الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية».
قرارات مجلس الأمن حول الصحراء
أصدر مجلس الأمن قرارات متعلقة بالصحراء ( 377 و379 و380) . في هذه اللحظة التاريخية، وقطعا لمناورات إسبانيا المعلنة، وتحركات ليبيا والجزائر من وراء الستار، قرر الملك الراحل إنجاز مسيرة خضراء نحو الأقاليم الصحراوية لقطع الطريق أمام مناورات اسبانيا والجزائر وليبيا، فكانت اتفاقية مدريد بين المغرب واسبانيا وموريتانيا ، وهي الاتفاقية التي تبنتها الأمم المتحدة في نفس القرار المذكور أعلاه في اللائحة ب، الفقرة الأولى من أنها أخذت علما بالاتفاق الثلاثي الذي سلم للأمين العام بتاريخ 18 نوفمبر 1975، والذي جاء بعد تحرك المسيرة الخضراء يوم 14 نوفمبر 1975. ويقضي الاتفاق بانسحاب اسبانيا من الإقليم يوم 28 فبراير 1976. وفي الفقرة الثانية يتحدث القرار عن السكان الصحراويين، وليس الشعب الصحراوي، رغم الإشارة إلى قرار 1514 المرتبط بتقرير مصير الشعوب، بل إن جبهة البوليزاريو كانت توظف في بياناتها الأولى شعب الساقية الحمراء ووادي الذهب لتصل الآن إلى الحديث عن « شعبنا في الصحراء الغربية وجنوب المغرب».
إشهار الموقف الجزائري الرافض لاتفاقية مدريد
في شهر نوفمبر 1975 تغير الموقف الجزائري إلى الجهر بالعداء للاتفاق الثلاثي. فالدولة الجزائرية، كانت ترى في اتفاقية مدريد خلخلة للتوازنات الإقليمية. فتقوية المغرب من خلال استرجاعه للصحراء، والتوافق مع موريتانيا، سيجعل منه بلدا قويا، وهذا يتناقض مع السياسة الجزائرية العاملة على إضعاف المغرب بهدف الهيمنة الإقليمية، إضافة إلى أن المغرب سيتمكن من مناجم الفوسفات ببوكراع، ومن الثروات البحرية، وهذا أمر سيقوي المغرب اقتصاديا. و احتضان الجمهورية العربية الليبية لجبهة البوليزاريو في البداية، خلق شعورا لدى الدولة الجزائرية بالاختناق وبتمدد ليبيا نحو الغرب، في منطقة اعتبرتها الجزائر مجالا حيويا لها.
في هذا السياق، تبنت الحكومة الجزائرية بشكل علني جبهة البوليزاريو، ودفعت بها إلى تأسيس حكومة، وإعلان قيام «الجمهورية العربية الديمقراطية الصحراوية» ( 27 فبراير 1976)، ومنحت لها منطقة تندوف، مقرا لهذه «الدولة»، وكان هذا خرقا لميثاق منظمة الوحدة الإفريقية من وضع تراب أي بلد كقاعدة لاستهداف دولة مجاورة. ووجدت الدولة الجزائرية دعما من ليبيا في سياق تداعيات احتضان ليبيا للتنظيم السري داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. الموقف الجزائري من الصحراء يخدم أيضا « الدول الإفريقية التقدمية»، من حيث إن إضعاف المغرب وإسقاط النظام السياسي، سيؤدي إلى خدمة استراتيجية لحلف الاتحاد السوفياتي آنذاك على اعتبار الموقع الاستراتيجي للمغرب.
ومهما يكن من أمر، تغير الموقف الجزائري فجأة بين نوفمبر 1975 و26 فبراير 1976. وعمل رباعي مكون من بوتفليقة وبلعيد على تأطير الجانب السياسي «لجمهورية تندوف»، في حين تكلف الكولونيل هوفمانوالزركيني بالجانب العسكري، وقد جرت هذه الأمور تحت رعاية مدير الكاجبي، أندروبوف، الذي سيصبح فيما بعد رئيسا للاتحاد السوفياتي.
معركة امغالة والتدخل العسكري الجزائري في الصحراء
وعند إعلان الاتفاق الثلاثي بين اسبانيا والمغرب وموريتانيا، حاولت القيادة الجزائرية تغيير الواقع على الأرض من خلال تدخل عسكري مباشر، إذ تسربت فرق من الجيش الجزائري نحو الصحراء لمساندة عناصر البوليزاريو، فاصطدمت بقوات مسلحة ملكية في ما سيعرف في مابعد بامغالة، قتل فيها 200 عسكري جزائري، وتم أسر 130، أطلق سراحهم بعد وساطة سعودية.
صدرت بلاغات من وزارة الإعلام المغربية بشأن الاصطدام في منطقة امغالة بالصحراء، بين القوات المسلحة الملكية وكتيبة من الجنود الجزائريين بلباسهم العسكري الجزائري. وتوجد امغالة على بعد 200 كلم من الحدود الجزائرية و80 كلم من مدينة اسمارة.
البلاغ الأول لوزارة الإعلام المغربية
صدر البلاغ الأول لوزارة الإعلام المغربية يوم الثلاثاء 27 يناير 1976، موضوعه « تسرب الجيش الجزائري إلى التراب المغربي». وذكر البلاغ باعتقال 12عسكريا جزائريا، في حين ذكرت وكالة الأنباء الجزائرية أن الأمر يتعلق بقافلة من الشاحنات الحاملة للمؤن. وهو ما دفع الطرف المغربي إلى إصدار بلاغ آخر مؤرخ في 28 يناير 1976، يتحدث عن « المعارك بين الجيش المغربي والجزائري المتسرب إلى الصحراء المغربية»، وأسر 29 جنديا عسكريا جزائريا، يقودهم الليوتنان ونيس، و ينتمون إلى الفيلق 41 من الجيش الوطني الشعبي» .وذكر البلاغ أسماء العسكريين المعتقلين، من بينهم اسباني اسمه خوسي إيديسا تضاربت الأخبار فيما بعد حول هويته: أهو ضابط في الجيش الإسباني أم جندي فار من الخدمة؟ وهذه قصة أخرى عن «اختراقات» وقعت داخل صفوف البوليزاريو من لدن المخابرات العسكرية الإسبانية أواخر 1975 وبداية 1976.
البلاغ الثاني لوزارة الإعلام المغربية
في اليوم التالي الخميس 29 يناير 1976 صدر بلاغ جديد من وزارة الإعلام المغربية ، يتحدث عن « القتال في مغالة بين الجيش المغربي والقوات الجزائرية المتسربة إلى الصحراء المغربية» وجاء في البيان: « على إثر الاشتباكات التي تواصلت بعد زوال وليلة الأربعاء في مغالة (…) وأثناء تلك العمليات، أسرت القوات المسلحة الملكية من جديد مئة وواحدا من العسكريين الجزائريين الذين تم إحصاؤهم مساء يوم الأربعاء من بينهم ليوتنان واحد، ومريد واحد، وعدة ضباط صف، كما تم إحصاء عشرات من الموتى في صفوف ما يسمى بالبوليزاريو. وبالإضافة إلى ذلك، غنمت القوات المسلحة الملكية كميات هامة من العتاد والأسلحة، تتضمن الشاحنات وقطع المدفعية ولا سيما مجموعة من الصواريخ أرض- جو.».
في يوم الاثنين 2 فبراير 1976 استدعى الملك الحسن الثاني زعماء الأحزاب السياسية لاطلاعهم على ما جرى في امغالة. حضر الاجتماع عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة والمحجوبي أحرضان وعبد الكريم الخطيب وعلي يعتة، إضافة إلى الوزير الأول أحمد عصمان ووزراء الشؤون الخارجية والإعلام والثقافة والصحة والقصور الملكية وضباط من القوات المسلحة الملكية. وتمحور اللقاء حول المستجدات العسكرية إضافة إلى المساعي الدبلوماسية لبعض الدول العربية.
لكن القوات الجزائرية، عاودت الهجوم على الموقع المغربي في امغالة، فاستشاط الحسن الثاني غضبا، وأرسل رسالة قوية إلى الرئيس الجزائري، ونشرت مجلة الجيش الملكي نص هذه الرسالة، التي رسمت ملامح النظام الجزائري وعلاقاته بنزاع الصحراء.
رسالة الملك الحسن الثاني إلى الرئيس بومدين 15 فبراير 1976
الرسالة موقعة بتاريخ الأحد 15 فبراير 1976، ويذكر الملك فيها الرئيس بومدين بمواقفه السابقة بشأن الصحراء خاصة خلال صيف 1975، وزيارة بوتفليقة للمغرب في مستهل يوليوز 1975، والبلاغ المشترك الجزائري المغربي، ورسالة الملك لبومدين حول موضوع الصحراء.
يقول الحسن الثاني في رسالته: « لقد أخبرتموني رسميا ثلاث مرات خلال صيف 1975، بقولكم الذي أعيده عليكم بالحرف الواحد: « قولوا لملك المغرب، ثم قولوا له بالتأكيد أنه مهما كانت خلافتنا حول مشكل الصحراء، وكيف كانت نهاية النزاع بينه وبين اسبانيا، فإني أتعهد له بأنه سوف لا يرى أبدا جنديا جزائريا أو عتادا عسكريا جزائريا فوق تراب الصحراء لمحاربة الشقيق المغربي». وذكر الحسن الثاني بأسماء الرسل الذين حملوا رسالة بومدين، وهم بورقيبة وسيدار سنغور والمختار ولد دادة. وأضاف الحسن الثاني أن نفس التعهد أكده وزير الخارجية، عبد العزيز بوتفليقة، وأضاف الملك في رسالته: « إلا أنه حدث ما يدعو حقا إلى الدهشة والاستغراب ! ذلك يا سيادة الرئيس إن القوات المسلحة الملكية وجدت نفسها يوم 29 يناير 1976 في مواجهة الجيش الوطني الشعبي في أمغالا التي هي جزء لا يتجزأ من الصحراء وسال الدم بين شعبينا لأنكم لم توفوا بعهدكم….» وتابع الملك رسالته بالقول: « فمن أجل شرف بلادكم وشعبكم اللذين تطبعهما كثير من النعوت التاريخية، أناشدكم أن تجنبوا المغرب والجزائر مأساة أخرى. وأطلب منكم كذلك إما أن تعملوا بحرب مكشوفة ومعلنة جهارا، وإما بسلام مضمون دوليا على جعل حد في المستقبل للقول السائد في بلادي وبين أفراد شعبي أن الجزائر يعادل مدلولها مدلول التقلب وعدم الوفاء بالعهود…».
إعلان «الجمهورية الصحراوية» فشل للتدخل العسكري الجزائري المباشر في الصحراء
تسارعت الأمور في نهاية فبراير 1976، عندما فشلت القيادة الجزائرية في فرض الأمر الواقع عسكريا، فالتجأت إلى إعلان « الجمهورية الصحراوية « في 27 فبراير 1976، خاصة بعد أن بعثت «الجماعة الصحراوية» كتاب ولاء إلى الملك الحسن الثاني، وذلك في 26 فبراير 1976. وقع الرسالة نيابة عن الجماعة الحاج خطري بن سعيد الجماني. تقول الرسالة : « … إن جماعة إقليم الصحراء المجتمعة يوم الخميس 25 صفر الخير 1396 الموافق 26 فبراير 1976 بالعيون في جلسة استثنائية، تنفيذا للمادة الثالثة لاتفاقية مدريد المبرمة بتاريخ 14 نوفمبر 1975 بين اسبانيا وموريتانيا والمغرب، صادقت بإجماع الأعضاء الحاضرين على تصفية الاستعمار بهذا الإقليم …..».
في هذا السياق، بعث الملك الحسن الثاني رسالة إلى القوات المسلحةالملكية حول « إنشاء الجزائر لحكومة وهمية في الصحراء»، تقول الرسالة الملكية المؤرخة في 28 فبراير 1976 :
« لقد أعلن في الجزائر العاصمة عن قيام دولة وهمية تدعى « الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية» ، وذلك يوم 27 فبراير سنة 1976. وهذا العمل الأخرق الجديد، لا يثير في نفسنا أي دهشة. فابتداء من يوم 25 دجنبر سنة 1975، كانت الحكومة الجزائرية قد لمحت إلى اقتراب وقوع حدث ذي أهمية قصوى بتندوف فيما بين 25 و 30 دجنبر من السنة الماضية. وافترض الكثيرون أن «حكومة صحراوية في المنفى « سيتم إنشاؤها، غير أن افتراضهم قد خاب لأنهم يوجدون الآن أمام «دولة صحراوية» ، (…) ومن دون أن نخفي عليكم خطورة الوضع ، ومن دون أن نتجاوز الحدود في تهويل الأمر أمامكم بخصوص تطور ذلك الوضع، فقد عقدنا العزم على الدفاع بكل وسيلة ممكنة عن وحدة المملكة وضمان الأمن والهناء لشعبنا.»
رسالة الملك الحسن الثاني إلى العقيد امعمر القذافي
في نفس الاطار، كتب الملك جوابا عن رسالة بعثها امعمر القذافي، لتبرير موقف السند الليبي لجبهة البوليزاريو، في سياق حرب ليبية جزائرية حول التحكم في قرارات جبهة البوليزاريو. ويبدو أن العقيد القذافي يحاول في رسالته تحميل المسؤولية للدولة الجزائرية في تصعيد النزاع، دون التنازل عن الانتصار لجبهة البوليزاريو. يبدأ القذافي رسالته بآيات قرآنية ثم يحدد جغرافيا الصحراء الغربية بالساقية الحمراء ووادي الذهب والجزر الخالدات. ويخاطب الملك ب « حضرة الأخ الملك» . ويستهل حديثه عن نزاع الصحراء بأنه « في 11 يونيو من عام 1972م أعلنت بنفسي في خطاب عام أن الجمهورية العربية الليبية ستتحمل مسؤولياتها القومية وتتبنى حرب تحرير شعبية في الصحراء الغربية ما لم تنسحب اسبانيا من المنطقة ( … ) وقامت الجمهورية العربية الليبية بواجبها القومي بإمداد الجبهة بالسلاح، وفتحت لها مكتبا في طرابلس. ( تم الاتصال بين الولي مؤسس البوليزاريو والقيادة الليبية عن طريق أعضاء التنظيم السري داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، المقيمين بطرابلس حين الإعداد لما سيعرف لاحقا بأحداث مولاي بوعزة) .
في هذه الرسالة، يلمح العقيد القذافي إلى الدور الجزائري السلبي حين تأسيس البوليزاريو ودعمها من لدن ليبيا، يقول القذافي : « والجدير بالذكر أن الأقطار المعنية اليوم بهذه القضية، لم تتعاون مع الجمهورية العربية الليبية في إمداد جبهة التحرير، ولم تتعاون مع الجبهة من جهة أخرى، بل صودرت كميات من الأسلحة من طرف هذه الأقطار كانت في طريقها ( …) إلى جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب. ( هذه قصة أخرى، كانت من الأسباب المباشرة لقطع الطريق على ليبيا للتمدد نحو الغرب، فاستباحت القيادة الجزائرية جبهة البوليزاريو بدءا من أواخر صيف العام 1974، حين انعقد مؤتمرها الثاني « مؤتمر الشهيد عبد الرحمان ولد عبد الله» على الحدود الموريتانية الجزائرية ).
وأضاف القذافي في رسالته إلى الملك الحسن الثاني : « وإلى عام 1975 عندما أصبحتم طرفا بارزا في القضية، أكدت لك عن طريق مبعوثيك الذين تفضلت بإرسالهم في تلك الفترة، أن إمكانيات الجمهورية العربية الليبية العسكرية رهن إشارتكم إذا قررتم تحرير الصحراء الغربية من الاستعمار، بيد أن الذي حصل، هو دخول قواتكم في عملية تسليم واستلام للصحراء من الإسبان (…) و حتى هذا الحد، أقول للتاريخ أني لست ضد المغرب، وكنت أظن أن شعب الصحراء وعلى رأسهم الجبهة الشعبية لا يعارضون الانضمام إلى المغرب (…) والله يعلم كم حاولت إقناع قيادة الجبهة بالانضمام إليكم بعد الاستقلال ، ولا بد أنكم تذكرون الضمانات التي رأيت تأكيدها من جانبكم لأعضاء الجبهة عموما، و لا أنكر أنك أكدت لي عن طريق مبعوثيك وسفير المغرب بطرابلس تلك الضمانات….». بيد أن القذافي لا يريد التخلي عن جبهة البوليزاريو في السياق الجديد، على الأقل لمزاحمة الدولة الجزائرية في تبني مشروع قيام دولة في الصحراء، لكنه يؤكد « … وأنا حتى الآن لست ضد انضمام الصحراء الغربية للمملكة المغربية وموريتانيا، ولا يمكن أن أكون ضد الشعب المغربي الشقيق والجيش المغربي، الذي ما زالت دماء شهدائه تسيل على الجولان، بل أنا من المؤمنين بضرورة الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج…» وختم العقيد رسالته بأبيات شعرية لدريد بن الصمة. ووقع العقيد رسالته ب» أخوك العقيد معمر القذافي».
رد الملك الحسن الثاني على رسالة العقيد مؤرخ في 28 فبراير 1976، فأكد شكره للقذافي. في 5 نقاط شرح الملك للعقيد أن البوليساريو وليدة اسبانيا ، وبالأخص الجناح الشيوعي والتقدمي من الإدارة والجيش الإسبانيين ، وفي النقطة الثالثة من رسالة الملك حول ما جاء في رسالة العقيد من مصادرة الأسلحة الموجهة إلى الصحراء الغربية، يقول الملك : « ودفعا لكل التباس، ووضعا للتعريض في موضعه الحقيقي، أقول لفخامتكم أنكم أدرى من غيركم بالقطر الذي صادرها، والذي ليس هو المغرب على أي حال. ويحمل الملك الدولة الجزائرية المسؤولية عن وضع الأراضي التي توجد تحت سيطرتها « قاعدة خلفية ينطلق منها الضالون»، كما يشرح الملك للعقيد أن مخيمات تندوف ملئت بعائلات جاءت من مالي والنيجر والتشاد نتيجة موجة الجفاف، وأن جل الصحراويين ما زالوا مقيمين بالصحراء. ثم يتوجه الملك إلى العقيد قائلا: « إننا نؤمل أن تعملوا على إعادة الحكومة الجزائرية والبيادق التي تحركها إلى رشدها…». ويختم الملك رسالته بتحذير العقيد من مشروع وحدة بين ليبيا والجزائر، : « وإننا ونحن نبارك هذه الفكرة، ونرجو أن تتبلور لتصبح حقيقة ملموسة، نرى واجبا علينا من باب النصيحة الإسلامية، أن ننصحكم بأخذ حذركم قبل الشروع فيها حتى تكونوا في مأمن مما وقع فيه المغرب من تنغص وخيبة، نظرا لانعدام الوفاء بالالتزام عند الإخوان الجزائريين…».
يوم السبت 6 مارس 1976 أعلنت الحكومة الجزائرية عبر وزارتها في الخارجية اعترافها ب»الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية»، فأعلن المغرب تبعا لذلك قطع علاقاته الدبلوماسية مع الجزائر يوم 7 مارس 1976.