عملت البيداعوجيا الحديثة على مجاوزة نظيرتها التقليدية من خلال إرساء دعائم تصور جديد على العلاقات التي يركن لها المثلث البيداغوجي، وتتوخى بتصورها المستحدث الاحتفاء بالمتعلم احتفاء يلغي الإهمال الذي طاله لسنوات عدة، وحوله إلى هامش شبه غائب لا يسجل حضوره إلا باجترار المضامين حفظا وتخزينا. لم تقبل بهامشية المتعلم في العملية التعليمية-التعلمية التي يحتل المعلم مركزيتها كفاعل يحول تلميذه إلى مجرد منفعل، وإنما حاولت وضع المتعلم في مركز الفعل التربوي وفي قلب العملية التعليمية-التعلمية، وجعل المعرفة إمكانية متاحة للجميع، فالعالم لا يتوقف عن الانزياحات، ولا ينصع لنقطة ثابتة يلتف حولها كمصدر لحلول جاهزة لا تستدعي غير الالتفاتة، وبخلاف ذلك ينبهنا كل واقع وجوب المواكبة عبر التجديد لمسايرة سيلان تعقيدات الواقع في كل تمفصلاتها. ولعل هذا ما عرض بعض البيداغوجيات الحديثة للاختراق بفجوات وثغرات مهدت الفتح أمام بيداغوجيا بديلة ترنو إلى تشكيل أفق مغاير للفعل التعليمي-التعلمي، فمن خلاله وعبره يمكن تخطي اختلالات المنظومة التربوية.
لو تساءلنا عن معنى البيداغوجيا البديلة واضعين ما سلف أمام عيوننا، لاتضح لنا أنها حديثة العهد تسعى طامحة إلى تقديم نفسها كبديل لمثيلاتها التقليدية هادفة إلى وضع المتعلم في محور كل فعل تربوي بطبيعته فردا له ميول طبيعي للمعرفة والابتكار والإبداع، وترتكز على مبادئ جديدة (axée sur de nouveaux principes ) تبتغي الخروج من ضيق التحديدات النظرية والمنهجية التي تحول كل من المدرس والمتعلم إلى أسير القيود البيداغوجية والديداكتيكية وتنشد ما وراء المنهجية (Au-delà de la méthodologie). وهذه البيداغوجيا تستقي مقولاتها التأسيسية من ثلة من الباحثين البارزين في المجال البيداغوجي: منتسوري (Montessori)، فرينيه (Frienet)، شتاينر(Stiener).
1- مبادئ البيداغوجيا البديلة:
تنطلق البيداغوجيا البديلة من وضعية يتبوأ المتعلم فيها مكانة مركزية على حساب المحتويات، “بوصفه كائنا ميالا للمعرفة بالفطرة، فبحوزته كل القدرات للتعلم بمفرده، حيث يتحدد دور المدرس في التوجيه من خلال توفير البيئة الملائمة وتهيئة الأجواء التعليمية المناسبة له تبعا لميولاته وقدراته الجسدية والفكرية والعقلية مع السعي إلى تنميتها”. إلى جانب مبدأ الإيمان بميول الطفل للتعلم، وكذا مبدأ مركزيته في كل العمليات التعليمية والتعلمية نجد مبدأ الحرية، وهذا يعني أن هاته البيداغوجيا ترتكز على “تحرير الطفل من القيود المفروضة عليه من قبل محيطه الاجتماعي، والسماح له بمعانقة ماهيته ككائن حر، قادر على الانخراط الفعال في المجتمع”. ويعود الفضل لفيلسوف الحرية جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau) الذي عمل على تشييد منظومة تربوية تتأسس على المبدأ نفسه في كتابه القيم “إميل في التربية” (Emile ou l’éducation) ، على مر سطوره يقر بأن الطفل حر وخير، أما شره وآثامه من الوسط الذي ينتمي إليه، “يخرج كل شيء من يد الخالق صالحا، وكل شيء في أيدي البشر يلحقه الاضمحلال”. الإقرار بالحرية من منظور روسو بمثابة إثبات لإنسانية الإنسان والاعتراف بالمتعلم كـ”قيمة في ذاته (Un valeur en soi)”. ونشير كذلك لمبدأ الخصوصية وذلك الأخذ بعين الاعتبار السياق السوسيوثقافي ومراعاة الاختلافات الذهنية والوجدانية للمتعلم، ونضيف مبدأ ما وراء المنهجية وقد أشرنا إليه سابقا.
-رواد البيداغوجيا البديلة:
ماريا منتسوري (Maria Montessori): منهج فاعلية الحواس
تعتبر “ماريا منتسوري” (1870-1952) من كبار البيداغوجيين، أسهمت في تأسيس بيداغوجيا بديلة، ويرتكزالمنهج الذي اقترحته على فاعلية الحواس، فصلة المتعلم بالعالم تتجلى في الحواس، بقدر فاعليتها بقدر إمكانية تبلور العلاقة الإيجابية بين المتعلم وفضائه الخارجي الذي يساهم في انبلاج المعارف، لذلك نجد الفصول المنتسورية متزودة بجملة من الأدوات التي تساعد الطفل على تنمية وصقل مواهبه، تجسيدا لمبدأ حرية الاختيار، فالطفل يختار الأدوات التي يريد، لهذا الاختيار دور أساسي في اكتشاف ميوله واهتماماته، مما يساهم في نجاح العملية التعليمية التعلمية. الاهتمام المنتسوري بالبعد الحسي يمكن المدرس من استشراف مستقبل كل متعلم، “ففشل جل المتعلمين نابع من إهمال أحاسيسه التي تنطوي تحت لوائها إمكانات التفكير وانبثاق الأفكار”.
فرينيه ( Célestin Frienet): التعلم من خلال التجربة
سعى “سيلينيا فرينيه” إلى ابتكار أساليب تدريسية جديدة تتخطى كل الأساليب التقليدانية القائمة على الإلقاء السلبي من أجل تمكين المتعلم من خلق علاقة انسجام مع ما يدرسه، ومن تم توطيد أواصر المتعلم مع محيطه، يعني هذا أن الرجل “يعارض المدرسة الكلاسيكية التي تعتبر مجرد معبد للبلاغة والشكلية، ويدافع في مقابلها عن طريقة أخرى، تعمل على تنمية قدرات المتعلمين وتحقيق التناغم والتوازن بينهم وبين محيطهم».
يمنح هذا الاختيار البيداغوجي الذي حاول فرينيه تشييده فضاء واسعا للطفل/المتعلم لتحقيق ذاته من خلال الانفتاح على محيطه الاجتماعي، بدل الانغلاق الذي يجهض كل إمكانات المتعلم ويعرقل قدراته.
تشتاينر (Rudolf Steiner): الانفتاح على العالم
حاول “شتاينر” البحث عن منهج تعليمي بعيد عن التلقين والشحن والنبش عن مناهج جديدة تسمح بتطوير قدرات ومهارات متعلم روحية كانت أو جسدية أو عقلية، ويأتي هذا في ضوء النظرية الثلاثية التي اقترحها باعتبارها أساس تطور الكائن البشري، ويقصد بها البنية الثلاثية للإنسان: التفكير، الشعور والإرادة. وهو يربط هذه النظرية بثلاثية فيزيولوجية متباينة في الجسم، إنه “يميز بين القطب العلوي للجهاز العصبي (الفكر)، وموضعه في منطقة الرأس، والأطراف التي تتمثل فيها (الإرادة). ومنطقة الصدر التي تمثل المنطقة التي توجد بين الرأس والأطراف (الشعور)”.
أراد “شتاينر” أن يعبر من خلال نظريته هاته أن وظيفة البيداغوجيا الحديثة –البديلة- تتجلى في مكافحة الطرق التقليدية في التدريس وتحديد مهام المدرس لبلوغ مبتغى التعليم، والذي يتحدد أساسا في الرعاية التنموية وتقوية قدرات المتعلم على النمو النفسي والفكري وتحصيل التوازن.
إن هذا البصيص من المعلومات الذي ذكرناه حول البيداغوجيا البديلة من مرتكزات ورواد ما هو إلا محاولة غير تامة تحتاج إلى بحث عميق من طرف كل باحث في علوم التربية عامة، وكل متمرس في الفصل أو مقبل على مهمة التدريس خاصة.
أتوقف هنا لأقول إن البيداغوجيا البديلة هي بيداغوجيا حديثة العهد تسعى إلى القطع مع البيداغوجيا التقليدية ومع أخطائها النظرية والمنهجية، وعلى إثر هذا الفعل الجريء ظهرت مجموعة من البيداغوجيات التي لها الطموح نفسه، من قبيل: بيداغوجيا الفصل المعكوس، بيداغوجيا الانتقادية، بيداغوجيا المقهورين لباولو فريري. فالأزمات التي تنخر من جسد التعليم وتلتهم أطرافه لن تتوقف عن فعلها القاسي إلا بالوعي بأهمية البيداغوجيا البديلة ودورها في تطور المنظومة التربوية ككل، إنها رافعة التقدم وأساس التغيير وسبيل تشكيل معالم منظومة متفتحة على المحيط الاقتصادي.
*أستاذ متدرب –الفلسفة- بمركز مهن التربية والتكوين، خريبكة.